سقوط الثقافة

سقوط الثقافة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١١ أبريل ٢٠١٧

العربية مما هي عليه إلى الأدنى، أقول ذلك لأنها لم تتربع يوماً على عرش، أو أنجزت مجداً أوصلها إلى قمة، أو نستطيع أن نقول عنها: إنها أضاءت بحضورها على الحضور، فهي بقيت بينهم، تتلقف مسيرها، أو تبحث عنه.

الكثيرون للأسف ممن استشرقوا أو استغربوا، لم يخرجوا من عباءات ما لبسوه، ولذلك بقوا في حيز التأخر الثقافي، لا إبداع في أجناس الأدب، لا مذاهب في الفلسفة، ثقافة التسوُّل والمتاهات انخرطوا فيها، وفرزوا أنفسهم وأقلامهم وأفكارهم ومنتجهم بين الطوباوية، أو الفوضوية، أو إلى التبعية السياسية، أما الأشكلة الكبرى فتكمن في المشاريع الدينية التي ترفض أي ثقافة، لا تتبنى مشاريعها، ومهما بلغ المثقف من شأن تفجره من عمقه الفكري، أو تعيده إلى انتمائه الروحي، وإن خرج تتهمه بالتضاد معها، والسبب الرئيس أن الثقافة بدلاً من أن تمتلك مشروعاً يطور العقل، ويهذب الحركة والشكل، نجدها استمرت تقليدية ومقلدة متمسكة بفرضية النخبوية من دون مواكبة التطور، فماذا فعلت حتى اللحظة غير المماحكة من مبدأ الجدل اللفظي، أو البحث الماضوي، أو الدوران في فراغ اللحظة.

هنا أسأل: هل امتلكت الطبقات الثقافية الاستقلال الذاتي الذي لا يعني أن تفصل وجودها عندما تعتبره نخبوياً؟ أم تنشئ حيزاً منطقياً في اعتقادها، وهي التي استوردت قدراتها أو صقلتها، بما كسبته من العوالم الأخرى، لتحاول بعدها إلباسها لبوسها لمجتمعاتها؟

مثقفنا يجسد العالم القديم، واعتمد على الكلاسيكية ليبقى وحيداً من دون توازٍ مع المشاريع الثقافية العالمية الأولى والثانية وحتى الثالثة؛ أي الشمال وأمريكا اللاتينية وآسيا، وحتى مع إفريقيا، وهذا ما جعل ثقافتنا قاصرة عن قيمة رؤى الثقافات الأخرى. وكما قلت: إن مثقفنا بقي مزخرفاً، أو مجملاً، أو متلاعباً مثيراً في اللغة، بحكم أن لغتنا العربية غنية بتشابه المفردات، وهذا يعني بمصارحة، أنه لم يقدر حتى اللحظة على المنافسة الثقافية، أو رفض أي نظرية ثقافية أو فلسفية، أو حتى الإبداع في إحداهما، إنما اشتهر بالمعارضة اللاواقعية، وآمن بالثورات التي يكون محركها خارجياً أو انقلابياً استهلاكياً، وفي الحالين الجوهر انتقامي انفضاضي، ومستندها الثقافي أيضاً خارجي، وبدلاً من أن يمتلكوا زمام أمور استئناف التاريخ من الحالة التي توقفوا عندها، ذهبوا وكما ذكرت إلى التقليدية، أو إلى الانتقائية، فإما أن تراه مع السلطة السياسية، إذا انتفع منها يؤيدها، كمستسلم لها، أو يعارضها حتى العداوة المطلقة لحظة سحب الامتيازات، وفي الحالتين أيضاً تجده محرضاً، أو مبتعداً عنا من باب المصلحة الفردية، فهل الثقافة بهذه الشاكلة؟ أم إن مسارها مستقل، ويعمل بالتوازي مع مسار الدولة؟ ولكن بارتباط وثيق مع الجماهير وفهم عميق لحركتها التاريخية ومتطلبات حاضرها ومستقبلها، طبعاً لم يحصل هذا أبداً، فمنذ أن بدأت حركات التحرير العربي، تعاني نير الاستعمار التركي، ومن بعده الفرنسي والإنكليزي والإيطالي، وقبلها الهولندي والبرتغالي، وبعد كل ذلك وفي زمن التحرير تستعبده الثقافة الأمريكية المبهرة في حركاتها التي تشده إليها أبصار العالم بين الحرية والديمقراطية والديكتاتورية والمعاني الزائفة والبراقة التي تحمل الخداع العقلي قبل البصري.

الثقافة ابنة الوعي، فهل وعى العرب ضرورة الإبداع لأجيالهم بدلاً من اعتماد شيخوخة فكرهم وإبعادهم عنها؟ هل بنوا لهم مسارات واقعية وصادمة، كي تعيدهم من الانحراف إلى جادة الصواب؟ كي يروا ما لم نره؟ في الحقيقة إن الجميع مازال مستمراً في ذاك البناء، الظاهر منه حداثوي، والمخفي ماضوي، لذلك تحيا الثقافة العربية حالة سقوط مستمر، كما هو حال الأمة التي انحدرت إلى الأسفل من نهايات إنجاز حضارتها وحتى الآن، وهي مستمرة في التشرذم والسقوط، ومن بقي فيها يسرْ على حافة الهاوية.

الثقافة العربية تائهة بين ما قبل وما بعد، لذلك نجدها في حالة سقوط دائم، لأنها إن لم تتبع السياسة تبعت الدين، وإن لم تتبع الدين تبعت هواها الأناني، وبعد أن عملت على إسقاط ثقافة الكفاح الإنساني التي تدعو للبناء والقيم، حاولت ومازالت تحاول لإسقاط ثقافة المقاومة للعدوان الصهيوني على الأمة، ولم تعزز ثقافة العروبة، فهددت ثقافة القومية بدلاً من أن ترفع شأنها، كيف بها تكون على هذه الشاكلة.

لم تستطع الثقافة العربية أن تفصل بين الدين والإيمان، على الرغم من أن مثلث القداسة لم يخاطب الأديان، بل تعامل مع الإيمان، ولم يدرك المشتغلون في حقول الثقافة والأديان أن الإيمان يختص بإنسانية الإنسان، لم يؤمنوا بأنَّ الله جوهر الإنسان، وأن الإنسان بناؤه الذي بناه، كي يسكنه، ومن ثم يشغله، لأنه يمثل القوة الذاتية المشغلة له، مثله مثل المفاعل الذري الذي ينتج الداء والدواء، ومن دونه لا حركة ولا حياة.

تاهت الثقافة العربية بين الليبرالية والماركسية والديمقراطية والديكتاتورية،  بين ماركس وإنجلز وغوته ونيتشه، بين بودلير وموليير، بين جان جاك روسو وسارتر، بين داروين الزاحف والراكع والواقف، وبين العالم العلوي والسفلي، بين السادية والمازوشية، بين اللواط والسحاق، وبين الأمراض النفسية التي انحصرت بين اللذة وما فوق مبدأ اللذة القادمة من فلسفة فرويد، ونحن مازلنا نحجب العقول، قبل أن نحجب الرؤوس التي تاهت بين جاحظ البخلاء والشنفرى سيد الصعاليك.

تاه الجميع بين المعتقد والاتجاه، فتاهت الثقافة، وسقطت، لماذا؟ لأنهم لم يصلوا إلى مفهوم ابن عربي الأندلسي، ولا إلى ثقافة بن رشد، ولم يعترضوا على المفكرين الإسلاميين الذين جهزهم الغرب، مثل الشيخ محمد عبده ومالك ابن نبي، لكل هذا ها هم اليوم يعودون، أو يطلبون العودة لأربعين العشق، جلال الدين الرومي، ومفاهيم أن الله في الإنسان حل، ومن دون فهم ذلك لا حل، صلبوا الحلاج لأنه قال الله في جبتي، والقرمطي القائل: «أنا الله والله أنا»، أي إنهم لم يدخلوا إلى فلسفة الجوهر.

هل ندرك معنى الثقافة، وإلى أين تتجه، ولماذا تسقط، وتسقطنا معها؟ سقطت الثقافة العربية لأنها ثقافة خضوع للسياسة، كيف بنا لا ندرك الحاصل، ولا نستعد للمستقبل بثقافة خلاقة، لا تستجدي الجوائز من الغرب؛ بل تصنعها لها جماهيرها، ثقافة لا تحيا مشاريع التكاذب الخطرة على شعوبها.

هل نحن قادرون على تغيير الفكرة عنها؟ أم إننا سنبقى منافقين تحت مظلتها؟ لنعترف أين نحن؟ ولنخرج من ذاك التأخر التاريخي المصرّ على إسقاط ثقافتنا.

د. نبيل طعمة