واقعنا اللاواقعي

واقعنا اللاواقعي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٨ أبريل ٢٠١٧

الفكري السياسي، الفلسفي منه والأدبي، بأجناسه الرواية والقصة والشعر والنقد، وما يجري على مسارحنا، وما أكثر من حمل هذه الصفات في العقود الأخيرة التي انتشرت بين ظهراني  بلدنا، حيث أمسى وأصبح الانفلات واستسهال الادعاء بتلك الصفات منتشرَين بكثرة، فُقدت الأفكار، وأكثر من ذلك يبدو أنها انعدمت نتاج ظهور وسائط التواصل الاجتماعي واقتناص المعلومات من صفحاتها كيفما توافر، ومن ثمَّ طباعتها وتقديمها إلى الاتحادات ودور النشر التي تمرر ذلك، لا قارئ ولا متابع ولا مدقق، أين النصوص ذوات الإشكالية المحرضة للتفكير؟ أين ذاك الشعر ومفاصله التي تغوص في أعماق الروح لتسمو بها؟ أين الرواية التي تخلب لبَّ القارئ وتخلق منه باحثاً بين مفرداتها ليستنبط الفكرة التي تكون منها لغة قابلة للحوار مع الآخر؟ أين تلك القصة، قصيرةً كانت أم طويلةً، المنعكسة على الواقع بعد استنباطها منه؟ أين وأين سلسلة العقم الفكري المتوالي ليس هندسياً بل بشكلٍ فوضوي، وكأن المطلوب لهذه المرحلة أن يكون الحال على ما هو عليه؟ ليسطو بسطاء الفكر وفاقدوه، بما يبسطون على المشهد الضعيف والمأزوم نتاج ما تمرُّ به الأمة السورية والعربية، والأمثلة كثيرة. فمثلاً رواية كيف سقينا الفولاذ تحولت إلى نهاية رجل شجاع، وحكمة الغرب إلى حكمة العرب، وفيلم أمريكي فاشل إلى حمام الهنا، فكر ورؤى فاشلة أو ناجحة أنجزت في العوالم الأخرى، تم تحويرها، ونُسبت بلا شرعية ولا توافق مع رؤيتنا وفكرنا، فما الغاية من كل ذلك، ومن المسؤول عنه؟ هل الواقع الفكري المغيَّب تاريخياً عن المتابعة الدقيقة؟ أم إنه الذكاء السلبي الذي اجتهد على خداع العقل العربي واستمرار التلاعب فيه؟ والأنكى من ذلك أنه يلقى من يروج له.
مشروع تكاذب خطِر تتشربه الأمة من دون دراية منها، يهدف لإبقائها ضمن قزمية الأفكار، ويجتهد لمنع محاولات ارتقائها المتولدة فيها، أو سحبها منها، ولنقس على ذلك الفنون السبعة، إضافة إلى الإنتاج والإبداع، لنجدها جميعاً في حالة استهلاك واستجرار وتكرار غدت معلنةً، ما أدى لحصول خلل بنيوي بين مداميك البناء الفكري، الكل يسعى لالتهام بعضه، لا يريد أن يرى من أمامه، بعد أن كان قضى على ما خلفه، وكأن به لا يريد أن يشهد أحد عليه؛ بل وحده صاحب المشهد.
من المسؤول عن كل ذلك؟ وما معنى أن نحتاج إلى التحرر السياسي العربي المسؤول الرئيس عن التحررات الاقتصادية والدينية والاجتماعية كافة؟ أين نحن من استقامة الرأي وعلو كعبه؟ أين جمهرة الثقافة، وما مصير الفكر المدعو للأخذ بيد الأمة؟ هل كنا وصلنا إلى ما نحن عليه، لو كان واقعنا السياسي العربي ممتلئاً بالجيد والمفيد؟ هل نمتلك شجاعة الاعتراف بأين  نقف مما يجري الآن بشكل خاص، وأن الحاصل ما هو إلا عبارة عن تطريز وتجميل للماضي؟ ما يؤكد أننا مصرون على الانضواء تحت مظلة التأخر والتقوقع والتخلف التي تحدثت عنها في مادة سابقة، ما يشير إلى أن صور الواقع تصر على إرخاء ظلال التأخر التاريخي بعيداً عن الركب والمواكبة.
ألا تتابعون الكيفية التي تجري لإفساد الذوق العام واللغة البصرية والسمعية المراقبة للتشوهات المستمرة والممارسة على اللغة الاجتماعية الواقعية؟ ألا يقودنا كل ذلك إلى سؤال أعتقد أنه ذو أهمية هو: ما الذي تنشده السياسة من وراء كل ذلك؟ وبشكل أدق: ما سرُّ سوء التعبير المراد تعميمه والالتباس الحاصل ضمن مجريات الواقع من ذاك القادر على وقف انتشار الكم وإعادة الاعتبار إلى النوع الذي ندر وجوده، أو اختبأ؟ وذلك لكيلا يضيع في زحمة فساد المشهد الفكري الذي يفترض أن يواكب التجدد والإبداع واعتماد أساليب التنمية الثقافية، كالتنمية الاقتصادية، وأخذها حيزاً ضمن سياسات التنمية الوطنية الشاملة لا الوهمية، لأن الثقافة قضية تحضُّر ووعي من أجل استمرار الحياة وتطوير الوجود الإنساني والأخلاقي.
سورية الوطن والأرض والإنسان ساحة وطنية ومنبر مهم جداً ماضياً وحاضراً، ويفترض أن تكون كذلك في المستقبل القريب والبعيد، فهي ولادة فكرية وحامل رئيس لنشر الثقافات والمعارف، وعقد فريد تظهر منه عقيدة سامية تؤمن فيه، يشترك بها تنوعه وتعدده، تقف في مواجهة واقع ثقافي مأزوم يتمسك بعقدٍ زائفةٍ، لم يسعَ لفك واحدة منها في زمن وجوده الحديث، من نكبة فلسطين إلى تنامي الإرهاب وحصره في سورية، وفرضية انفجار الأزمة بعد اشتدادها يؤدي إلى انفراجها، حيث لم يثبت نجاعتها يوماً، لأنها تخضع لموجديها ومبرمجيها والمتعاملين معها الذين يشكلون دائماً رؤية استعلائية على المجموع، ولعبها دوراً سلبياً غايته تغييب الجماهير عن واقعهم وإدغامهم في الكلامولوجيا لغة السفسطائيين ومذهبهم اللاواقعي، بهدف الوصول إلى خلخلة وجودهم وبقاء الأمة في حالة دوران وتيه لا شبيه لهما بين الأمم.
مازال واقعنا يخوض صراعات فكرية عنيفة، يقودها ندرة من التجديديين أمام كثرة المحافظين، وبدلاً من أن تحقق النكسات المتتالية في واقع الأمة انبعاثات فكرية تأخذ بيدها نحو النهوض والبناء، نجد أن المحافظين يزدادون انتشاراً بحكم تعدد الانتماءات في الدين الإسلامي، وعدم وجود مرجعية إسلامية واحدة، وانعدام السيطرة العلمية على الدين، وتوهان الأخلاق التي يجب أن يكون الدين بنداً من بنودها لا العكس، والخلط بين الحرية الإيمانية والعبودية التجارية الشخصية للإله، ووقوع الفكر العربي بين مغامرات الحروب والتجارة، لأن تأسيسه تمَّ على الغزو والغنائم، ومنه نستطيع أن نصنف العقل العربي بأنه عقل تجاري ديني مقايض، بحكم أن مرجعه الديني قام على المقايضة، برجوازي فردي لم يؤمن بالمجموع، قبلي عشائري يحب ألقاب المشيخة والزعامة والملك، ولذلك نجد أنه لم ينجح في مشروعه القومي، ولا في إنجاز اتحاد نوعي، حتى تطوره تقليدي بسيط، لماذا يكون على هذه الشاكلة؟ ولو أننا عملنا من واقعنا على واقعنا، بكل ما يعنيه، فهل كنا لنحيا الأزمات التي ما إن نخرج من واحدة حتى نقع في أخرى؟ حيث نرمي بالمسؤولية دائماً على التخلف العام، ونتوه بين نظرية المؤامرة والتخوين والخيانات المستمرة، من دون أن نقرّ بما نحن عليه، ونضع جدول أهميات، نبدأ ببناء الإنسان، نؤسسه على فهم الجمال الوطني وعلم الجميل الذي يحب الجمال، كي يقدر على استيعاب الحياة والواقع المعيش، فيبدأ ذاتياً بتطوير وجوده تحت مظلة شاملة من الوعي الوطني المهم تقويته ورفعه إلى المستويات العالمية.

د. نبيل طعمة