مفهوم الاعتقاد

مفهوم الاعتقاد

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ مايو ٢٠١٧

ضمن الفكر السياسي والفكر الديني المتشابهين كثيراً، لأن الأول زئبقي بحكم المظهر ومحيطه، والثاني يخضع الجوهر لكهنوته المستند إلى الغيبي المقنع في الاحتياجات الإنسانية لدرجة كبيرة، حيث يدعواننا للبحث في أن الضرورات تبيح المحظورات، ومنها نفتح باب إمكانيات إعادة التأويل في عقائد الماضي، بحكم أن التاريخ يحتاج إلى تجديد شبابه، لا إبقائه مرتكزاً على شيخوخته وشيوخه، إن كان في هذا أم في ذاك. كما أن الفكر الديني برمته فكر لامرئي الجوهر إشكالي المظهر، أي إنه يعتمد التأمل العقلي والغيبية التخيلية، لذلك كان التناقض الهائل بينه وبين الفكر العلمي المحسوس، وحتى اللحظة لم يتم فتح باب النقاش حول بنود نظرية الإيمان ودرجاته وقيمته التي ينبغي أن تنعكس في العلاقات التدينية على الإنسانية، وكذلك أيضاً لم يجرِ التوقف عند منظومة نسيجها وما يراد لاحقاً من معتنقيها، وذاك البناء القاسي الذي ينبغي تصحيحه بشكل خاص داخل الإنسان المسلم، وأهم ما فيه مقاومة الآخرين بالقوة الغير العاقلة لحظة الاختلاف معهم، أو مع مشاريعهم البنائية؛ فكرية اجتماعية حداثوية إبداع جماعي،  وهنا أداخل بين لغتنا العربية التي يجب أن ينبري لها علماء اللغة الحداثويون، ليحللوا معاني الخلود التاريخي التي قامت بتقديمه للمشروع الديني الإسلامي بشكل خاص، وعززت الأوهام؛ بل أكثر من ذلك أسكنتها العقل العربي، ما أدى إلى تطوير الوهم وتحويله إلى اعتقاد من خلال الارتباط الوثيق بجذور اللغة الدينية التي لا يمكن لها أن تنمو إلا بالاعتماد على قواعدها النحوية وأزمنتها وإعرابها، ما هيأ مناخاً صلباً لإنجاز الفقه والاكتساب غير المعترف به من البيانات السابقة، حيث فتح من هذا المثلث مفهوم الخلود وتعلق الفكر السائد ببنوده.

من يعتقد أن سورية صدرت المبدعين للعالم العربي والغربي فأرسلوا لها مجرميهم لتدميرها، هل ندرك مفهوم الاعتقاد وأنه يحمل مناهج حياة تتجسد في الليل والنهار؟ ونبحث بينهما عن مساحة معجزاتها والكشف المستمر عن أسرارها، المضحك فيها والمبكي منها، غزل وخمر، نساء وقمار ومغامرات، تدين بالإيمان وتدين بالكفر، تأملات وظلال شعر وأدب، سياسة ومال وهتافات تدعو للمجون، عقل وجنون، كبرياء وخضوع، من يرد أن يعرف الحياة فعليه أن يفهم الليل جيداً، لأن النهار انشغال وكشف للمخفي والمسكوت عنه، الليل وحده يمتلك القدرة على شراء الإنسان، أما النهار فيبيعه في أسواقه وحواريه، هو منتدياته.

الحياة حالة بوهيميا، وهمٌ يقضي فيه البشر عمرهم الفني فقط، إنها طموح غنى وتشرد، بؤس وأمل بأيام سعيدة موفورة الاحتياجات والرفاه، صعوبات على سبل الطامحين للشهرة والثروة. السلطة والاستقرار تهذيب ميثيولوجي وعذابات لا ترضي الأعراف التي قامت عليها، من يمحو من؟ الليل أو النهار زائران لا يمكن للإنسان إلا أن يستقبلهما قسراً وطوعاً، فهما النار والنور اللذان صنعا الإنسان، حولاه إلى صلب ذي قوة وشكيمة، يؤمن ويكفر بهما جمال الحياة ببصره وبصيرته وقلبه، يلتقط القسمة التي تحرك مشاعره ووجوده، وكذلك يحيا الأهوال التي تتجسد حوله وعليه والرعب والخوف والضيم، يبني عالمه منها، لنجده في النهاية راكعاً أمام معتقد ينتمي إليه عنوةً أو بإرادته.

السياسة والدين حالتان لاماديتان، بينما العلم حالة مادية تحتاج لإنجازها إلى براهين صارمة، لأن الثقة لا تحضر إلا بتحققها الملموس عقلياً وبصرياً، بينما مستندات اللامادي تتحرك من العقلانية المؤمنة التي تعتمد على البداهة البرهانية والثقة في المعنى والتناسق الذاتي، وبها يتأقلم الاعتقاد، ونستوي عند تعريفه الذي يعلمنا أنه حكم ذهني جازم إلى حدٍّ ما، يقبل التشكيك وهو الأقرب إلى العلم بالشيء، وهو يختلف مع مفهوم الظن أو التخمين، فاليقين يكون بالنص المقدس واللاهوت والفقه.

نصوص تدور حول ماهية المكون الكلي والطلب والأدعية موجهة (لـ هو)، فكيف بنا نفك ألغاز المعاني، ونكشف عنها وهي غائبة؟ كيف بنا نوقظ العالم الإسلامي بشكل عام، والعربي منه الذي يعني في حقيقة أمره أن سواده إسلامي، لأن الارتباط  وثيق بين العربي والإسلامي، أي وحدة اللغة والدين، بينما في العوالم الإسلامية وحدة القرآن العربي بلغته العربية،  وإنسان الدولة الذي يحيا عليها، وهنا لا ضير أن نسأل: هل الإسلام أخلاق وسلوك، ثقافة كسبية أم اعتقاد موروث وموثق بالمقدس؟ هل هو ثوابت لا تتحرك (فقه سنن)؟ أم أبعاد نظرية مسكونة سابقاً في الماورائيات؟ أم إنه حالة جغرافية تاريخية لم يقدر المسلم الخروج منها وعنها، تعلق المسلم في بعدها النهائي، كمتلازمة له بين الخالق والقيامة وبينه، من دون أن يتحدث فيه، وأن اللغة العربية هي التي قدمت له هذا المفهوم الواسع؟ أو تدميرها بشكل أو بآخر.

من قام يقم قياماً، وحجم المبالغة التي أدخلت على هذا الفعل بأن القيامة هي للنفس، وأن لهذه القيامة بعدين؛ الأول أخذ به المسلمون كمعتقد لامادي، يتحول إلى مادي، أي إن الجسد يقوم بهيئته الكلية، وكذلك فعلوا بتصور الجنة والنار. والبعد الثاني أخذ به أصحاب المعقول في إدراك الجوهر، وأن الموت حادث بفعل حادث، وأن النفس تترك الجسد بعد انطفاء التفاعلات الكيميائية في جوهر الإنسان، قسرياً أو طبيعياً، بعد انتهاء العمر الفني وعدم قدرتها على الاستمرار في توليد الطاقة.  

كيف بنا لا نفتح باب النقاش حول الماورائيات التي قدمت الإله وعلومه، وأنه النفس الكلية الموزعة في أحيائه، وأننا نفوس جزئية، ومن الضروري الخوض في نظريتي البعث الجسدي والقيامة النهائية، أم إنها قيامات مستمرة؟ أيضاً المراحل التي انتهت بانتهاء عبادة الوثن والصنم وتقديم القرابين وصولاً إلى النبوات وإقفال الأبواب بعدها.

دعونا نتحاور بجرأة العلم عن الهيولى والصورة والحركة والمكان والزمان، وهذا الكون بفضاءاته التي تتسع، وبحث الإنسان الدائم عن سر الروح وتحاربه المستمر حول ماهيتها وتوهانه بين الحياة مالكة النهاية بمعانيها الثانوية والآخرة والأخروية وصولاً إلى الأخيرة المتعلقة بسرها المنحصر في الاعتقاد بأنها تخص الخالق الأزلي من منطق علميٍّ واعٍ غايته إصلاح فكر القائمين على الأديان والمفسدين فيها والتنافس المشرعن بينهما.

ها هي فلسفة الماضي تعيث فساداً في الأرواح الإنسانية نتاج تصارعها مع فلسفة الحداثة الواقعية والمستقبل المنشود، فما معنى مفهوم الاعتقاد؟ ومن منا لا يعتقد بأن هناك خللاً ما في الاعتقاد؟ السياسي لا يجزم؛ بل يعتقد، لأنه يدع مجالاً للشك، وكذلك على الجميع أن يصلوا إلى هكذا فيما يعتقدون.

 د. نبيل طعمة