عالَمٌ افتراضي

عالَمٌ افتراضي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٩ مايو ٢٠١٧

تنطق به الألسنة، وتتحرك البشرية ضمن فلتانه اللاأخلاقي بقوة الاعتقاد بأنَّ الحياة برمتها ملك خاصٌّ له، يستطيع البعض منهم أن يعيثوا الفساد، ويستبيحوا حرية الآخرين، وأكثر من ذلك التعدي على حدودهم واختراق كراماتهم متجاوزين كامل القيم وصولاً إلى أبعاد بناء الشخصية.
من منا لا يقدس الحرية الفكرية من دون القدرة على البوح بها، وكذلك الطموح بالوصول إلى الحرية الشخصية، ومعها الدينية التي تسمح باختيار المعتقد الموروث أسروياً واجتماعياً، ما الحد الفاصل بين الحرية والعبودية؟ بين الجرأة المنطقية والوقاحة المشيطنة؟ بين الانتظام والفوضى؟ بين الشفافية والغموض؟ هل يمكن أن تظهر ضمن العالم الافتراضي مؤسسة تعنى بالقيم الأخلاقية؟ تكون مسؤولة عن تقويم السلوك البشري، وتحاسبه على تصرفاته بحق بعضه، تناقش ذممه المالية والدينية والسياسية والاجتماعية، تبحث في أصوله وفصوله، ومن ثمَّ تدرس أهليته القيادية والإدارية، وتمنع تضارب المصالح والتعديات على الحدود الجغرافية والاجتماعية، تمنع انتهاك الأعراض، وتؤسس لمحرمات واقعية ظاهرة لا غيبية، وتحاسب في الحياة، لا تجيرها إلى ما بعد الممات.
ما معنى وجود قوانين للنزاهة أمام الكمِّ الهائل من وثائق تشير إلى تطور السلوك الإجرامي والرشوة والفساد وتعزيز انتشار الأزمات، وتسيطر على الحركة الاجتماعية؟ ومن ثمَّ لنجد ظهوراً دائماً لمنظمات تعمل لهذا العالم؛ العفو الدولية، حقوق الإنسان، محاكم الجرائم، وجميعها في الشكل دولية، إلا أنني أؤكد أنها تحارب دونكيشوت الذي حارب طواحين الهواء. ألا تستشعرون معي أنه غدا في العالم فجوات كبيرة ترينا حجم عبثية العولمة ومدى تأثير التطور العلمي وامتلاك الخبرات العلمية الهائلة على مجمل الأخلاقيات الإنسانية؟ لنجد أن الكل يعمل على تطوير الأداء المادي على حساب السلوك والأخلاق المتروكَين للإدارات الدينية، من دون أي انتباه أو تفكير في تأييدهم الخفي لما يجري، ودعمهم للمشروع المادي العولمي بدراية منهم أو من دونها، وهنا أريد أن أشير إلى حالة انتشار الدعاة والمبشرين الذين أخذوا باحتلال مساحة مهمة من الفكر الإنساني، يقدمون العاطفة على العلم والحكمة، إرادتهم تعزيز التقديس للاختلاف ضمن متطلبات الأزمات واحتراق الأحداث بنيران العداوات.
كيف بنا نوقظ البعض من عالَمنا، وندعوهم إلى الصحوة ومناقشة الخطوط الحمراء التي تقف على المنابر؟ يحتلونها بقوة السياسة والدين، لكي نفصل هذه التوءمة المستعبدة لكوكبنا الحي ولإنسانه تحت مسمى العولمة؟
عالم السياسة وعالم الدين؛ من يجلد من؟ كلاهما هلامي المنبر والملبس، وكلاهما مختلف، إلا أنَّ لغة الجلد في خطابيهما واحدة، الأول يدير العقول  الاقتصادية والقضائية والعسكرة من رؤيته السياسية بعلمية المقدم له. والثاني يدير المجتمعات بقوة العاطفة واستثمارها بهوامش النص المقدس والتفسيرات المحيطة به. والاثنان يحتاجان إلى الكاريزما في الحضور والمساحة الصوتية التي تتحرك حسب سخونة الحدث، وقوة أو ضعف المشهد. لذلك اعتادت الشعوب انتظار الإغراء والخروج عن المألوف والقفز خارج المحذور كي لا يقع الجميع فيه، ومنه تكون حواريتنا هذه، من يسقط من ضمن عالمنا الافتراضي؛ أي السياسي أم الديني؟ والبحث بين الإيمان الإنساني واختلاف الأديان ووجود مذاهبها فيها. كيف بنا نكافح تلك الأفكار التي تبثها تكنولوجيا الوسائط ومبرمجو الدعاة وناشرو أفكار الالتزام بالماضوية، من دون إدراك أن هذه الماضوية صناعة بشرية، تمتلك غاية واحدة، يسكن بها إبقاء سواد  البشرية في حالة تخلف وتقهقر أمام عظمة العلم وإبداعاته المؤمنة بحقيقة نشأة الكون، لا ذاك الالتزام المزيف الذي يمنع التفكر في مفاهيم الجنان والنار، وأنهما في الإنسان، وأيضاً الأنهار الأربعة التي كثيراً ما تحدثت عنها.
لا ضير في أن أذكر حادثة جرت بيني وبين شيخ إمام مرسَّم سياسياً، حاورته بما تحدث به، خاطبني: ألا تخاف أن يحرقك الله بناره، وأن يغضب عليك والدك؟ تبسمت وقلت له: إني لا أخافه، ليعتبرني خارجاً من الإسلام، وهنا أجبته: إني لا أخافه، لأنني أحبه، والذي يحب لا يخاف، والذي يخاف لا يحب. أما عن والدي فهذا شأن خاص، لم أناقشه.
هكذا يفكر الدعاة الذين يستندون إلى اللعب على أوتار القلب العاطفي، معتبرين أن قضايا الفكر والعلم حالات لاحقة، أي إنها تأتي فيما بعد، وهدفهم الأول الانتشار بين الناس وتحويلهم إلى مريدين، من يعترض على فكرهم، أو حتى يناقشهم، تُرمَ عليه تهم الإلحاد والزندقة والهرطقة.
كيف بالداعي أن يتحول مباشرة إلى عالم دين وناقد ومفكر ومحلل في السياسة؟ يفهم في الطب والكيمياء والفيزياء وصنوف العلوم وجميع القضايا الاجتماعية. كيف يتم جمع كل ذلك تحت عمامة الدين، وضمن جبة الإمامة؟ ألا يستحق كل ذلك التوقف عنده؟ لأنه غدا الأكثر انتشاراً. ما حال المفكر والمثقف وأستاذ الجامعة والأديب إن وقفوا مجتمعين أو منفردين في مرحلة ما، من دون الخوض في بحوث الجامعات والمخابر والحاجة إلى الارتقاء بالعلمية والتخصص إلى ما نريد؟ نصل معاً إلى سؤال مهم: من ذاك الذي يحكم بصلاحنا أو فسادنا؟ بإيماننا أو بكفرنا؟ القانون وتبعاته أم الدعاة ومريدوهم؟ أم الكليّ ورسله؟ من المسؤول عن تغييب العقل وتقزيم اللغة البصرية؟ ألا نحتاج إلى نقباء ونجباء وأبواب تفتح على العلم والسياسة، تحرر الفكر وتدفعه، ليشكل رافعة مهمة للإيمان بأن المكون الكلي بوابة الحياة التي تدخلنا إلى مدائن العلم، لا إلى صحراء نجد؟ كيف بنا نبني علم الجميل الذي صور وأبدع واستمع  وأبصر ما أنجز؟ نستمد منه كيفية بناء مستقبل أجيالنا، ومعه نسأل عن حجم النشاط الإنساني، وما طبيعة الوعي المتوافر، والحاجة الماسة لتطويره بحكم تراكم ماضويته، فإن بقي على حاله أبقانا نحن، فقط العرب، ضمن عالمه الافتراضي تائهين وهائمين، من دون الوصول إلى عالم الواقعية الذي منه نرى أين نحن، فننطلق إذا حدث إلى الأمام بقوة الإيمان بعد فهمه.
عالم افتراضي صُنع للأمة العربية بشكل خاص، يتعلق بلغة أشكال القمر، هلال وبدر يستجديان شروق الشمس، حيث يبدأ من إشعاعها، الأول ديمومة الطلب من السماء، ومطالب أن يغتسل وجهه بدموع الرجاء بالعطاء الفردي والحماية والتوفيق الخاصين به، والثاني خوف يسكن عقله من غضب الرب والأب والأم، من دون الخوف على وطنه وحماية عمله وتعلم إتقانه والإبداع فيه.
عالم افتراضي بامتياز، يبحث أبناؤه عن البطولات الفردية تحت مظلة الخوف والعبودية، من دون السعي لفهم الحبِّ للحياة.
 د. نبيل طعمة