مثلث القداسة

مثلث القداسة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٦ مايو ٢٠١٧

الحساسيات الفائقة ضمن هذه الحقبة من حركة الزمن تدعو جميعنا لفهم واستيعاب ما يجري على كوكبنا الحي والتأسيس التاريخي لآليات ضبط البشرية من الجوهر، التي تعتبر حضوره مع ظهور أبرام أبراهام إبراهيم عليهم السلام، ومن خلاله تم رسم أسس الحياة الروحية موسى أبرام ويسوع أبراهام ومحمد إبراهيم، وأقر العالم السياسي جهراً وخفية حماية هذا المثلث بدقة وقوة، الذي يتجسد بعد الإقرار بالقدس وروما ومكة، مدن ثلاث أرست دعائم البنيان الروحي، قلبت معادلات ما قبل حضور أبرام أور سومر التي كانت تعتمد تعدد الآلهة، وبشكل خاص الآلهة الأنثى، حتى روما ومكة اعتمدتا الأنثى كآلهة بتنوعها، التي احتاجت إلى وقت بعد حضور مثلث القداسة، لتنتهي بشكلها النهائي مطلقة على أضلاعها اليهودية ونبيها  موسى، والمسيحية التي اعتمدت السيد المسيح إلهاً ابن الله عيسى ابن مريم البتول، والإسلامية بشخص رسولها محمد عليهم جميعاً السلام، الذي أقفل الباب معلناً أنه خاتم الأنبياء والرسل وانتهاء عملية الوحي والرسل والنبوات.

مع هذا الحضور نتدارس عملية التشكيل بفضل ثنائية أبرام ولوط التي ولدت الديانات الثلاث عبر ثنائية، موسى وهارون، يوحنا ويسوع، محمد وعلي، وعلى الرغم من انتشار العديد من الديانات الصغيرة وتحول كثير من الطوائف ضمن ثلاثية الأديان إلى ديانات، واعتمادها رسلاً أو أنبياء، مثل ماني صاحب الديانة المانوية، مئتان ميلادي ونيف، الذي دَوّن الصعود إلى السماء بجمل مجنح. وفي القرون الثلاثة الماضية ظهر العديد من الديانات مثل المارمونية ونبيها جوزيف سميث، وحتى ضمن الإسلام وُجدت فروع، حولت أصحابها إلى مراتب الآلهة، وعلى الرغم من كل ذلك بقي مثلث القداسة الأقوى، وهو المحمي بقوة السياسة العالمية، من دون أن ينازعه أي فكر أو فكرة.

هذا الاستعراض السريع ينشئ سؤالاً: لماذا نتحدث في هذا المبحث؟ ولماذا أيضاً نقول: إنه محمي بقوة من السياسة العالمية الخفية منها والظاهرة؟ نخوض هذه الغمار لأنها الأقوى تأثيراً في العقل البشري والأكثر انتشاراً بين البشرية جمعاء، والصراع القائم فيما بينها يجسد صراع الاستمرار لكل ضلع من الأضلاع، الذي ألبس لبوس الحضارات، وبتنا نسمع بين الحين والآخر عن حوار الحضارات ولقاء الحضارات، وفي حقيقة الأمر، إنه صراع الأديان الخفي بكامل أشكاله، تديره السياسة، فترفع نسبة الكراهية هنا، وتخفضها هناك مستثمرة في وعيهم، والسبب أنَّ النبع واحد، والمشرب واحد، والمنطقة التي ولدت وظهرت وتجولت فيها الديانات الثلاث واحدة، ومنها انتشرت إلى أصقاع الأرض باستثناء الصين واليابان والهند ومحيطها الضيّق، حيث بها الديانتان الهندوسية والبوذية، ومعتنقو الديانتين لا يستهان بتعدادهم، إلا أنهما بقيتا مسالمتين ومن دون أي صراع مع الديانات الأخرى، لأن أبرام اتجه من أور سومر الشرق إلى الغرب، وأتباعه استمروا في نشر الأفكار شمالاً وغرباً، مع محاولات في الشرق، إلا أنها لم تفلح أمام البوذية والهندوسية.

أخرج من هذا التقويم، وأدخل على فكرة الصراع بين الأديان وتحويلها إلى فكرة صراع بين المذاهب وطوائف الأديان التي انحصرت ضمن طوائف ومذاهب الديانة الإسلامية حصراً، فالديانة اليهودية التي تاهت لألفي عام، عادت ووحدت نفسها في يهودية الدولة، بعد أن تعاونت مع فكرها السياسي المتجسد في الصهيونية العالمية واتحاد لوبياتها الذي هيأ لها دولة على أكتاف دولة، أسكنها المقدس بعد استعادتهم للقدس التي تعتبر لديه العاصمة الدينية التاريخية، وهذا لا يستهجنه إلا الندرة من العرب المتضررين من عدوانهم، وكذلك فعلت المسيحية التي أنجزت وحدة اختلافها في روما رغم التشابه مع المسلمين في تعدد المذاهب والطوائف، الإشكال الكبير لدى المسلمين الذين لم يصلوا إلى وحدة رأي، رغم أن مكة تجمعهم لإتمام الفرض الخامس في الإسلام، ألا وهو الحج، وترك للمسلم الاختيار من باب من استطاع إليه سبيلاً، من دون اعتماد مرجعية دينية تلمُّ المسلمين، ولكن قوى العالم السياسي تريد الهيمنة الدائمة على القائمين بإدارة مكة لأهمية سيطرتها على العالمين العربي والإسلامي، وقيامها بين الفينة والأخرى بجلد هذين العالمين بلغة التخويف والتخلف المطلوب بقاؤهما كفاعلين في فكرهما، وللحفاظ على تكامل المثلث رغم إدراك القوى السياسية الخفية لضعف تلك الإدارة وهيمنتها على ذلك الضلع ومعرفتها ببغائها وعلمانيتها المفرطة المسكونة تحت عباءة الإشراف الديني، ولكن بغاية إبقاء هيمنتها، واللقاء الذي سيجري خلال الأسبوعين القادمين مع مجموعة ما يسمى قيادة التحالف العربي الإسلامي، ولقائهم قائد السياسة العالمية ترامب، وقبل ذلك اجتماع المجموعة الخليجية مع رئيس وزراء بريطانيا تيريزا، يوضح لنا الكثير مما ندور حوله، فهل تدرك شعوبنا العربية الإسلامية ماذا سيحصل معها؟ وأن كل ما يجري يحمل هدفاً واحداً هو إعادة العوالم العربية والإسلامية إلى الوراء، وإبقاء العماء الديني من دون أي تقدم.

السياسة العالمية الخفية التي تتلاعب بالمال والجنس والدين، تقدم هذا على ذاك ضمن لعبة المصالح الكبرى، اختارت في هذه الحقبة وبعد أن أنهت أيديولوجيا الديالكتيك المادي الضلع الإسلامي، وأخذت تنخر فيه، وآخر ما توصلت إليه دعوة إلى أن يكون الدين الإسلامي إنسانياً، وكثيراً ما بتنا نسمع إسلاماً متشدداً وإسلاماً وسطياً وإسلاماً معتدلاً، وينبغي على العالم أن يقدم فكراً إسلامياً جديداً للمسلمين، لأن القائمين على العملية الإسلامية لم يقدروا حتى اللحظة أن يدخلوا في لغة الواقع، وأن يصلوا إلى فهم الآخر والتعامل معه، من دون إقصائه أو فرض شخصيته عليه، طبعاً نؤكد أن هذه مسؤوليتنا نحن العرب المسلمين، ولا أحد يتحملها غيرنا، لأن خطابنا الديني مازال كما هو، وأنظمتنا التربوية والتعلمية كذلك.

إنَّ ما قصدته من اختياري لعنواننا، أن أدعو جميع المهتمين بالشأن السياسي الوطني للانتباه إلى الشأن الديني، حيث فقدت العروبة والوطنية والشخصية الإسلامية ذاك الوهج والتألق الذي يجب أن تتمتع به، والواجب يدعونا إلى القيام بذلك سريعاً، ومن دون تباطؤ، بعد أن اصطبغت هذه الشخصية والعناوين بالإرهاب، وغدا جميعنا إرهابيين من خلال الآخر.

نحن دولة وطنية كما باقي الدول، لم يعد للقوميات ذاك الألق الذي كنا ننشده، إلا أننا مؤمنون بوجودنا ضمن الضلع الإسلامي، ويقع على عاتقنا كشف ما لحق بهذا الضلع من تشويه، والعمل على الإصلاح، والتوحد أفضل بكثير من الفرقة التي تشكل دائماً الانكسار الحامل للضعف والتشويه والمصير المجهول لنا، المعلوم من الآخر.

د. نبيل طعمة