جميعنا وطنيون

جميعنا وطنيون

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٣ مايو ٢٠١٧

يعلمنا البدء أن الوطن أولاً، ومن ثم نبت أو هبط منه أو عليه الإنسان الذي استوطنه، فغدا مواطناً، ومعه كان محيطه من نبات وجماد وحيوان، تعلقوا جميعاً به، واصطبغوا بألوان مائه وترابه وهوائه، هل هناك كائن بلا وطن لا يؤمن بوطنه؟ فإذا كان، فهو ليس منا، هي دعوة لجميعنا بأن نكون وطنيين، ليكن ذلك، لنعلن بقوة الإيمان أننا كذلك، ولنعمل من أجل الوطن. تعالوا نطلق عنواننا من جوارحنا، ولنقل إنه لا علاقة لنا بحرب ولا بحزب ولا بدين، نحن وطنيون أولاً، ومن ثم ليكون الاعتقاد، ما يهمنا أولاً وأخيراً هو الوطن، وحدته وقوته، منعته ورفعته التي نحن نصنعها لا غيرنا.
دعونا لا نبحث عن الله، لأنه كائن كليّ يهيمن على كل شيء موجود فينا وبمحيطنا، يكفي أن ندركه فيدركنا، كما هو حال الوطن، تعالوا نذهب ضمن الوطن، نفتش عن الخلل داخل أسواره، نرممه، وعن الفجوات فنغلقها، وعن الهُوى فنردمها، وفي خارجها نبعد الأذى عنها بالحوار القانوني أو بالحرب، تعالوا أيها المواطنون إلى كلمة الوطن، نفردها على مساحته، ولنسأل أنفسنا هل لنا مهما جلنا وتجولنا في أصقاع كوكبنا غير هذه الكلمة الوطن الحتمية المسكونة فينا ضمن أعماقنا، تشير علينا أننا حتى وإن متنا فهي لا تموت، من لديه مشكلات مع وطنه؟ لا أعتقد، إنما هناك مشكلات مع أبناء وطنه، يمين يسار، متشدد وسطي، أقصى اليمين متطرف أقصى اليسار متشدد، متدين علماني، مؤمن بعقيدة أو كافر بها، هي هكذا الحياة البشرية خلاف واختلاف، غيرية ضغينة مشككة وحاسدة وحاقدة وعاطفية محبة وبناءة. في الحركة السكون ممنوع، القضاء على القلوب سهل، لكن الصعوبة في محو الأفكار الخلاقة، لأنها تتحول إلى آبدة، تسكن سجل التاريخ.
من هنا أدعوكم أيها الوطنيون للتفكير في خيارات غايتها الحفاظ على الوطن، أسألكم كيف بنا نفعل ذلك أمام هجمات الرعاع والمارقين من كل القنوات، إضافة إلى الماضويين المتدينين المسلحين بالغوغائية الدينية؟ أؤكد أنه سيكون يوماً عظيماً يوم ينتصر الوطن بالوطنيين الذين يعملون بإخلاص لانتصاره الذي نصل إليه، بعد أن يغادر الجميع ساحات المعارك.
دائماً سماء القدير تذكرنا بالديار الحية والأوطان القائمة أبداً بفضل استمرار الوطنيين المؤمنين دائماً بالحفاظ على الثقافة النوعية التي تميز شخصيتهم وحماية منتجهم ودعمهم المستمر للإنتاج الوطني الذي يحمي استقلال البلاد الاقتصادي، كما يدعمون حماية الأمن الداخلي بالمنطق الخلاق، والحدود بالوسائط والتكنولوجيا العسكرية، ويهتمون بالهوية، ويعتزون بالجنسية، فإذا فقدت الوطنية تتشرذم الأوطان، ويغدو الوطن عرضة يتناهبه القاصي والداني، وبعدها ينقسم كما الخلية السرطانية أولاً، ومن ثم تظهر بقعها في جسد الوطن، وبعدها تظهر مستوطناتها التي يصعب تفكيكها، وتكون بذاتها صدامات قاتلة لجغرافية الوطن التي تنعكس على المواطن الذي يعتقد أنها صدمات أصابتها، من دون أن يدرك أنها أصابت وطنه، وانعكست عليه، وأنها السبب الرئيس فيما حدث له، يخرج بعدها ليقول: لن أحيا في هذا الوطن إن لم تسد فيه الحرية والتسامح والعدالة، لن أبني في وطن لا يحكمه القانون، من دون أن يعود لسؤال مهم، المواطن وحده يملك الإجابة عنه: من يفقد الوطن حريته وتسامحه وقيمته وأصالته؟ أليس المواطن بعينه الذي أفقد الفضيلة حضورها ومضمونها؟ وأخذ بها مظهراً لنفاق هائل وتكاذب خطِر، حوّل الجميع إلى طلاب تشاحن ومماحكات عقيمة، لأن منظومة الأخلاق المبنية على الخوف ذهبت جميعها بذهاب الخوف، وسيطر الانفلات على الجميع، فانفلت الوطن، وهذا يعكس المعادلة التي تشير إلى أن انضباط المواطن يدل على قوة الوطن، والعكس يعني ما تحدثنا عنه.
إن إنهاء الحالة الوطنية لا يتم إلا بغزو فكر المتعلقين بها بفكر آخر، وبشكل خاص بالفكر الديني الشمولي الذي لم يوجد له من ينبري لمناهضته والتفريق بينه وبين الإيمان بالكلي، وبإنسانية الإنسان.
إن أي أمة أو شعب متحضر قوي الحضور متين البناء تريد غزوه وتدميره عليك بغزو فكره وتشتيت أفكاره، فيسهل اصطياده وإسكان ما تريد من أفكار هدامة مفرقة مدمرة منه، لتحصل بعدها على نتائج مذهلة، وهذا يحدث حينما يغيب الحامل الفكري الرئيس، أو أن المسؤول عن حمايته يبتعد أو ينشغل بأشياء ثانوية.
الوطنيون واقعيون ومؤمنون ومنتمون، حتى وإذا تأدلجوا، يختارون أيديولوجيا الوطن أولاً، يتحزبون نعم بعد أن يختاروا بدقة مبادئ حزب الوطن الذي يمتلك وحده قيمة وقوة الإنسان الإنساني، هلّا سألنا أنفسنا: لماذا وكيف يعيش مواطنو العوالم الأخرى بأمان واستقرار، ونحن لسنا على ذلك؟ كيف بنا لا نتفكر في الكيفية التي حرر بها طغاة عالم الشمال أنفسهم من أجل استعباد شعوبهم والعالم بأسره؟ كيف بنا لا ندرك هذه المعادلة، وأن الأوطان لا تموت؟ وكذلك الحرية الشخصية المؤمنة بالقانون الإلهي والوضعي، وأن الإنصاف موجود في الحياة، وليس بعيداً عنها، وأن الجحيم يصنعه الإنسان لنفسه بنفسه، ويحتاج إلى القليل من الدعم الحقيقي مع ضخ نوعي للأفكار الخلاقة التي تعتبر في مرحلة ضعف الوطنية أهم من الماديات، فإذا ضعفت الأفكار، أو سادها الجهل فقدت الماديات قيمتها، فالذي يعتبر الوطن مجموعة منافع ومصالح شخصية ومراحل آمنة يكون مدعياً مهما تحدث عن حبه للوطن على أهمية إفادته لمواطنيه وحفاظه على مصالحهم ضمن عملية التبادل الأخلاقي؛ الحقوق والواجبات، وكذلك المشككون في وطنية الآخر، وأنهم الوحيدون المنتمون لحب الوطن. الفرق كبير بين من لا يعرفون الوطن أو يحصلون على اسمه فقط، وبين من يدافع عنه بفكره وجسده وماله، الفرق كبير بين المثرثرين والمزايدين، وبين البنَّائين والخلاقين المؤمنين بضرورة حضوره وحق وجوده، فهؤلاء يجسدون ممارسة الوطنية الحقة.
ليسأل كل منا فكره هل أنا وطني؟ وماذا تعني الوطنية؟ وكيف يتكون الوطنيون؟ هل نحن منقسمون في وطنيتنا؟ وهل الوطنية تقبل القسمة، وما علاقة الوطنية بالسيادة التي تشكل الحامل والحاضن الأساس لها وآليات الحفاظ عليها التي لا تحضر إلا من أخلاق مواطنها العالية والراقية والقوية؟
الوطنيون يؤمنون بثلاثية العلاقة القائمة من السياسة والاقتصاد والمجتمع، ومنها ينتج الحب للوطن والإيمان فيه والتضحية لأجله، والعمل الدائم لنصرته، وعلى الصعد المحلية والإقليمية والدولية كافة، كيف بنا لا نكون منتمين لعنواننا من دون شوفينية أو عنصرية؟.

د. نبيل طعمة