الإيمان والأديان

الإيمان والأديان

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٣ يونيو ٢٠١٧

كيف بنا نفصل بينهما، ونعود إليهما من باب التوافق والوئام لا القطيعة والخصام؟ ما ماهية كلٍّ منهما؟ ولماذا كان الخطاب الأول الذي اتجه إلى الإنسان؟ حيث إنَّ الإيمان يعني فهم العقل لحركة الكون، وسيده المطلق الإنسان الذي ضمَّ بين جنباته محتويات فضائه على اتساعه مجسداً مقولة أتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ، وفيك انضوى العالم الأكبر والأديان التي ولدها من حركته الإنسانية، وأظهرها بعد وصوله إلى المادية وتعلقه بها، بعد أن كان لا مادياً تأملياً وتفكرياً، أنجز من خلالها المعرفة التي سبقت كل شيء غير معرَّف، وغدا بها يعرف كل شيء، وقبلها كانت تتناهبه الأشياء، إلى أن عرفها، وأطلق عليها تسمياتٍ أزليةً، لا يمكن لأي استمرار بشري أن يغير أسماءها؛ سمكةً، طيراً، تفاحةً، سماءً، بحاراً، أرضاً...إلخ

هل تعتقدون أيها السادة القراء أنَّ المعرفة ستشكل لكم عبئاً ثقيلاً، أو أزمة معرفة، أو نقاشاً موضوعياً، إلا إذا كنا طفوليين أو مصرِّين على التمتع بالمراهقة والعاطفة، لكنني أؤكد أنَّ جميعنا تواقٌ لأن يخرج مما وسمنا به والاتجاه إلى المعرفة، وأن يتغير متجهاً للإيمان حيث به الحياة.

لذلك اخترت عنواني كجدليةٍ واقعة، تسأل جميعنا هل نحن مؤمنون أم متدينون؟ لقد تلاعب بعقولنا ذاك الإنسان القديم الذي يمسك بجوهرنا، واستطاع بقواه الخفية أن يجذبنا إليه، كيفما تحركنا، وغدونا غير قادرين على إخراجه منا بعد أن أدرك قيمة وقوة الإيمان، تلاعب بنا كإنسان، وذهب بنا إلى أن هناك ضروراتٍ للتعبُّدات، بعد أن عزَّز في عقولنا تعدد الآلهة التي كانت أنثى. حيث في البدء لم تقنعه، فتحول إلى الذكورة وكاثرها، ثم عاد فوحّدها، وهذا منطق مقنع، لكنه وبعد أن رأى أنه أقنع أوجد الأديان، ومن ثمَّ قسَّمها إلى طوائف ومذاهب وفرق وشيع قائلاً: تتسع العقول لهذا وذاك، ألا يدعونا كل ذلك للتوقف معه والتأمل فيه؟ وإذا أردنا إنهاء علمِ عالمٍ نغلفه بالدين، وطبعاً هذا نأخذه على الجاهل الذي إن ملأناه بالإيمان نستطع أن نحوله إلى عالم بأمور نفسه، وإن كثيراً من العلماء آمنوا، ولم يتدينوا، بعد اكتشافهم لحقيقة الكون، حيث منه استنبطوا منظومة المكون.

كيف بنا نستحضر القوى الكامنة والكاملة لرحلة البناء الإنساني التي لا تحضر من الكراهية، ولا من تلك الفوارق التي ابتدعت بين الأديان وما ظهر منها؟ والإدراك أن الحقيقة التي نبحث عنها مسكونة في جوهرنا، ومنه تلد وتتصاعد بتسارع مهم، حينما نؤمن بإرادة الوصول إليها، والغاية الدائمة من الإيمان إحداث ذاك التوازن المنشود والمفقود في الأديان، لأن أي متدين بدين أو مذهب أو طائفة، ولمجرد إعلانه عما يعتقد، يعني أنه أقصى الآخر، وبنى حواجز يصعب هدمها؛ أي عندما تقول: إنك مسلم، فأنت أقصيت المسيحي، وإذا قال: أنا مسيحي، فقد نفى وجود اليهودي، والفكرة مستمرة في مذاهب وطوائف الأديان، بينما الإيمان يعني إلغاء الفوارق والحواجز، لأنه إرادة الكلي الذي أوجدنا في الخلق الأول بلا أديان وإنما على الإيمان بالآخر، وإنسانية الإنسان وبالحياة الجميلة القادمة من الجميل الذي يحب الجمال، والإنسان خليفته على الأرض، صوّره على شاكلته من دون تدين، زرع فيه الحبَّ، وأراده أن يحب، لذلك كان جميلاً، ومخلوقه جميل، ودعاه لأن يكون أجمل.

هل من أبٍ لا يحلم بأن يكون أبناؤه أفضل منه؟ ومهما كان وضعه جيداً أو معدماً، ألا يكون الحلم لدى أي أب أن يكون أبناؤه الأفضل؟ وهكذا فعل المكون الكليّ القدير الجميل. ومنه أثق بكم، بأن عنواننا يستحق عناء التفكير الذي يطالبنا بإحلال المنطق والتعامل معه بعيداً عن المشاعر والعواطف، لأنَّ مهمة العمل الفكري التدقيق والبحث للوصول إلى النتائج التي قد نختلف أو نتفق عليها.

كيف بنا نكمل مسيرة حياتنا من دون أن نذهب لبناء الأشياء الجميلة، ومن دون أن نترك للأجيال القادمة مستقبلاً لها مسارات واضحة غير مبهمة؟ ولنتدارس كمية النشاط البشري الراهن وطبيعة الوعي المتوافر والفرقة الحاصلة واستغلال البشرية لبعضها، بلا أيِّ رادعٍ أو وازع من ضمير. ألا يمثل القدير الوازع والضمير وعندما نفتقده يعني...؟ أدع لكم تقدير المصير. كيف بنا نعيد إحياء الإيمان، ونبرهن بالأفعال عن إيماننا لا عن أقوالنا، بعد أن حولنا العبادات إلى عادات وطقوس تطيل اللحى وتلبسنا الأردية والعمامات؟ ألا يعيدنا المشهد الذي يرسم الوسطاء بين الخالق والمخلوقات إلى أن نذهب للاعتراف بأن خطايانا طباعٌ بشرية لا علاقة للقدير بها؟ كيف بنا نجعل لحياتنا أهمية؟

أيها الناس... أيها المؤمنون... أيتها المؤمنات... الإيمان يجمعكم ويحبب بعضكم ببعضٍ، الأديان يفترض ألا تخيفكم، والخوف بغضٌ وفرقةٌ وإقصاءٌ وحذرٌ، والإيمان حبٌّ وخيرٌ وعطاءٌ وبناءٌ. آمل ألا تفقدوا إحساسكم ومشاعركم، لأنكم إن وصلتم إلى هذا الفقد تملك منكم الخوف، وذهبتم إلى الريبة والشك، وفقدتم إيمانكم بكل شيء.

إيمانكم يوقظكم، فاستجيبوا له، ما ذنب الدماء البريئة تراق على مذابح الماضوية وقرابين الحياة؟ أما زلنا نعتقد بها والاعتقاد لا يعني الكمال؟ لأن به شكَّ هذه المساحة التي تأخذ بنا إلى اليقين الذي يعني لنا الإيمان الدقيق والحبّ الأمين، حيث به نواسي بعضنا، أياً كان مذهبنا، أو مشربنا، ويقودنا هذا إلى أن الأديان إن تمترست خلف الماضي، ولم تستطع التطور، فستقودنا إلى الدمار، بينما الإيمان يمنحنا ثقةً هائلةً بقدرات القوى الخفية منجزة الكون بمساعدتنا على الحياة، وأنها تأخذ بأيادينا إلى الخير والبناء والعطاء.

أسألكم أيها السادة: من منكم وصل إلى حيث وصل؟ هل وصل بقواه الذاتية؛ عبر التعلم والإدراك، وأنه صنع ما صنع لذاته بذاته؟ أم إنه وفي لحظة اعتراف يقول: إن هناك قوى خفية خارجة عن إرادته - لحظة أن مرَّ بصدق مع الذات وتصالحٍ مع النفس- نقلته إلى ما وصل إليه من علمية الكلي الذي نحن نسبته.

إذاً من يمنع القوى الخيرة من الانتشار بين جموع البشرية الظمأى لها، الشرُّ المسكون في تقاسيم الإنسان المبني من جزئيات الخير والشر، فإذا انتصر لإيمانه انتصر للخير؛ فبنى وعمَّر وأبدع، وإذا انتصر الشرُّ هدم وأباد وذبح قتلاً بلا إيمان، لأنَّ الإيمان رحمةٌ، والرحمة سمة القدير، سمتنا الإنسانية لا البشرية، لنكن مؤمنين، فالإيمان أولاً لأنه يمثل الجذر والساق، والأديان تمثل شرائع أو فروعاً منه، وحينما أقول: إن الإيمان الأخلاق، والأخلاق تجسد إنسانية الإنسان، فالأديان تكون من بنود الأخلاق؛ أي من الإيمان. 

د. نبيل طعمة