علم الجميل

علم الجميل

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢١ يونيو ٢٠١٧

نمت العلوم المختلفة، وظهرت طوائف من المفاهيم التي أنجزها إنسانه مطلقاً العنان لبناء مدنية أخلاقية وسياسية، بلغ بها الأوج من الحضيض، وأخضعها لحاجاته البصرية والحركية، ثم عاد رافعاً إياها لتكون حلمه ومثله الأول والنهائي، من باب أنها المؤسسة الاجتماعية والأخلاقية الفريدة التي لا تهيمن على كوكبنا الحي، بما عليه فقط، وإنما على هذا الكون المتكامل وإلى ازدياد من دون أي انتقاص، فهل أدركت المجتمعات هذا العلم الحيادي في المطلق والإنساني في المشترك العام؟ هل وعته الطبقات البسيطة فكرياً أو الفقيرة؟ أم إنها اعتبرته لغةً مركبةً يصعب وعيها؟ ففقدت بذلك مفرداته، وتحدثت عنه من باب اللهو بالعيش أو التمتع الغيبي والاكتفاء بالدعاء الفردي والتواكل، من دون البحث عن أي تطور، بينما أراد أصحاب العلم أن يعلم الناس كافة أهميته، وأنه أعظم مما يظنون، ومن يدركه يصل إلى حضور نوعي ورخاء اقتصادي بسيط أو مركب أو كبير، محققاً الحضور الاجتماعي الذي يشار إليه على أنه سموٌّ أخلاقي نادر وحركة استمرار نوعية دؤوبة.
انظروا إلى العالم وغنى مفردات الحياة، ألا تساوركم المخاوف عليها؟ وأهمها التسامح المتعلق بلغة الجميل، كيف به يسامح ونحن لا نسامح؟ كيف به يتكون من الحسِّ والوجدان المسؤولين عن تكوين المنطق الأخلاقي الموحد للفنون المفكر فيها ضمن عمليات التأمل؟ فالجمال والجميل سبقا المعرفة التي نبحث بعد امتلاكنا لها عنهما، التي منها يحضر الإدراك والتذوق لكل شيء مختلف عنا وفريد تلتقطه حواسنا.
لم يشأ الجميل إلا أن يكون إنسانه مدنياً، وأن يصل بتأملاته إلى تلك المدنية الحاملة لأصدائه الجمالية، بعد أن يتم توسعة القصور البصري للحياة العصرية، فلا يعنيه مدنية الأسرة أو القرية أو المجتمع بطبقاته، إنما ما يلفت نظره إلى طرق بناء العلاقات فيما بينها، فالجميل استند في تأسيسه وبنائه الكوني إلى الجمال الذي تابعه باسميه البديع والمصور، ومن ثمَّ أطلق على ذاته السميع والبصير والخبير، كي يدهش مخلوقه بكلمته بقدر؛ أي بدقة لا متناهية، فعلى المنغلقين أن يستبصروا، الخالدون لا يموتون، لأن من الخلق يصرخ عليهم، فيجيبون: أيها الجميل إلى أين تريدنا أن نذهب، وأنت القائل في علمك العميق: إن لا جحيم لنا في النهاية؟ نحن من نصنع جحيمنا، القلوب تنفطر فقط على الجمال، لا على التشوُّه والفساد، لا دور فيها للبغاء إلا بعد حدوث المؤثرات التي تضغط على الجميع إيجاباً أو سلباً.
آية الشعر أن ينشد الجمال، ويهاجم القبح والخطيئة والرذيلة، وإلا لما كان له تصنيف بين صنوفه، أو في مجريات ومنطق آدابها التي يدونها ظهوره عليها وإبداعات علوم الفكر ونتاجه المفيد لإنسانها ولها نحن البشر، ما معنى أن نكون بلا جمال؛ أي بلا إنسانية؟ كيف بنا لا نخضع لأي صنف جميل من صنوف الحياة؟ الورد والزهور جميلة، ونخضع لنصفنا الأنثى الذي يأخذ بنا إلى تطوير الجمال وعلومه وصنوفه بسبب إحداثه للترقق بعد دعوة مكوناته لنا، حتى إنه يصل إلى محو ذاكرتنا عن القسوة والجريمة.
ما الفرق بين الواقعي والانتهازي؟ هل يمكن لأي كائن أن يسحق الحياة في داخلنا، وأقصد طبعاً الجمال؟ أقول: يمكن لحظة أن يمتلك القوى الشريرة التي تبيد ذاته الجمالية أولاً، فإن قدر، استطاع أن يفعل كل ذلك، وببساطة بعد أن يعتقد أنه المجد التسلطي، يمكن أن يصنع الجمال أو أنه يشتريه، لكن في الجانب الأيمن من الجسد البشري، حيث لا قلب، لا حياة، لا جمال؛ بل ظلمة ترخي ظلالها على أي فعل من دون ندم أو حياء أو حبٍّ أو من دون شرف، تسكن الآثام المحاربة دائماً للجمال، من يستطع الانتصار على البؤس والقذارة والفقر يقدر على صنع الجمال شريطة ألا ينظر إلى الخلف، ومن يتناول شقاوة الجحيم يقدر على الخروج إلى الحياة، المبادئ يبنيها التقاتل، حيث لذة الحياة، والأمل يحتاج إلى عمل، المبهرون المؤثرون والفصيحون بعيداً عن دروس التاريخ يستنبطون من الواقع، ينتقلون به إلى المستقبل.
الحبُّ جميلٌ والنجاح أيضاً، والرسائل المبهجة ترسم الابتسامات الجميلة، لذلك كان الربُّ جميلاً، فلو لم يكن كذلك لما سكن القلوب، وتجول وحده بأريحية في العقول، يحرك إنسانية الإنسان، يتحول إلى فعل وصانع للجميل الذي يدخل سجل الحياة، لا يضيع فيها أبداً، غايته إدراك الفعل الجميل ومخرجاته المنعكسة على الحياة.
ربما نصل بالتوافق ضمن مثلث القداسة إلى أنَّ الاسم الأعظم للمكون الكليِّ المطلق عليه السرمدي صاحب العلم المحيط الذي منه أوتينا جزئيته (الجميل)، من باب أنه جميل يحب الجمال، ليكون بذلك إثباتاً لغير المثبت، كيف بنا ندركه والواقع يشير إلى أنه موجود فينا، يحيط بنا، فداخل الإنسان مصنوع بدقة، وشكله الهندسي مرسومٌ ببراعة، تناظره فريد، وكذلك المخلوقات الحية، الطائرة منها والسابحة والدابة والزاحفة.
يكفينا أن نقوم بتأملات بسيطة حتى ندرك الجمال المبهر، كيف بنا لا نسارع لتعليم وتعلم الموسيقا والتصوير والرسم والنحت والرقص والإبداع في المسرح، والإنتاج في السينما؟
إن أدوات علم الجميل تؤدي إلى امتلاك لغة الجمال البصرية التي تدفع بمخلوقه الناطق إما لتعزيز وجوده بفهم وعلم، وإما تدميره بجهل وحسد وحقد، ومن يعمل بذلك فإنه ينهي الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعتها المناظر والمحاسن، ويزيد في إبعاد الإلهام وتشويه الجمالي، إن علمه وإتقان فهمه يؤديان إلى الصبر الجميل والصفح الأجمل حتى الترك بجمالية نوعية.
علم الجميل للناس كافة، لا ينبغي أن يكون حكراً على طبقة دون أخرى، وعلومه يجب أن تعمَّ الجميع من دون منع أو امتعاض من أيٍّ كان، على اعتباره عمل الله الذي لا يقارن، وحينما نتمتع به ونتملك أحاسيسه، ينكشف الله للبشرية الذي نسترشده بنور الإحساس، حيث يساعدنا للحفاظ على الحقائق، وأنوار حكمته وجماله.
لذلك أدعو جميعنا لتقدير الجمال الذي ينجز ذاك الالتقاء النوعي بين الحواس السبع؛ المادية الخمس منها، واللامادية العاقلة والناطقة، أي إنه يوحِّد العلاقة الإنسانية القائمة من الطبيعتين الروح والجسد، الجوهر والمظهر، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الذكر والأنثى، بين الأعلى والأدنى، بين الرمزي والروحي، فالطبيعة البشرية تتطور من الفهم العميق الحاصل بين الآداب والطقوس، وأي خلل في إحداهما يعني أن لا جمال في أي منجز.

د. نبيل طعمة