مشارب العرب

مشارب العرب

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٧ يونيو ٢٠١٧

لنقرأ بتأمل، بعد أن ننجز هدوءاً استثنائياً في زمن الصخب والتشنج، عنواننا الذي لا ينشد منه الإثارة أو الاستخفاف بأناسي الأمة، إنما نسعى ومن الغيرة عليها أن نطرحه بغاية تفعيل مستوياتها وإظهار آدابها وتطوير علومها من ذاتها، وأن تكون مشاربها من أبنائها، لا من البعيد، فظاهرها وباطنها يدلان على أن لا حبل سرياً واحداً ينهلون أو نهلوا منه، وإلا لكانوا معجزة الحياة البشرية، حتى الكتاب الإلهي دعاهم للاعتصام بحبله وعدم التفرق، وكأن به يعلم، ومؤكداً على ذلك بفرقتهم، وأن وجودهم مرتبط بحلم بعيد يعولون عليه، ولا يعملون أو يجتهدون لتحقيقه، حيث نجدهم واقعين وبشكل دائم في مطبات الحياة، منتظرين معجزة الأمل من خارج محيطهم، الكل يدعو إلى الأمام، يصرحون بأنه لا شيء يعوقهم، ينتشرون بعد كل لقاء عائدين إلى فرديتهم، لا مشروع عربياً لديهم، يعيشون بين الغياب والاغتراب، بين الخيار والاختيار، وقائع مأساوية تجتاحهم، تدفع الشعوب أثمانها الغالية، حقائق لا بد من مواجهتها والوقوف على تداعياتها، لنعترف أنه لم يعد للعرب قوى ذاتية تستند إليها، لأن جميعها غدا مكشوفاً في مواجهتها والوقوف على تداعياتها، لنعترف أنه لم يعد للعرب ثقافة بل ثقافات، ولا مزاجٌ عربيٌّ بل أمزجة، حتى العقل العربي انقسم على ذاته، انقسم عقولاً تتمايل بين اليمين واليسار، والتشدد واللين ومن ثم الاستسلام، وهناك مدّعون بالاعتدال، ولهم جبهة وحلف من دون رؤية مشتركة أو نهج أو مواجهة حقيقية لما يلمُّ بهذه الأمة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ناهيك عن الخنجر المغروس في قلبها، الذي تحيط به، كما يحيط بها المتربصون للانقضاض عليها من محيطها، وهذا وحده كافٍ للعودة سريعاً للالتقاء وإسكان الخلافات في مكان ما، والعودة السريعة للتقارب، لأن الجميع خاسر، والكل قابل للانهيار، وفي أي لحظة وأمام صغائر الأزمات، فكيف بالكبرى منها.
هلا تفكرنا قليلاً كي نعلم أن حضورنا في الحياة يعتمد على نوعية أفكارنا؟ فإن لم نقدر على توليد الأفكار خاصتنا، فمؤكد أننا سنكون في أحضان أفكار الآخر الذي يسيطر بها علينا، لقد فشلنا كثيراً ولم نتعلم من الفشل رغم أننا امتلكنا الكثير من المحاولات، فهل كل هذا ولد لنا الخوف من المستقبل وجعله عدونا الأول.
ينتصر العرب على بعضهم، لا على أعدائهم، لأن أعداءهم يغذون صراعاتهم، وفي الوقت ذاته، يشكلون لهم مشاربهم التي يستقون منها قوتهم؛ فالخليجي مشربه أمريكي إنكليزي مطلبه سيادة الأمة إسلامياً، والمغاربي مشربه فرنسي إسباني، والليبي إيطالي، العراقي أمريكي إيراني، السوري مستند إلى الشرق بعمله البراغماتي والواعي والمدرك في تأسيسه الحديث لواقع الأمة وانتماءاتها، المصري مناور بين الجميع ساعياً لزعامة الأمة قومياً، اللبناني ثماني عشرة طائفة، لكل منها مشربها، الإسرائيلي يتلاعب بالجميع، فهو وحده المستفيد، لأنه أذرع للجميع، القوى الكبرى جاهزة شريطة الدفع والرعب يتجول في منطق الغرب، لذلك نجد أن أغلبها تعتبرها أمنها القومي.
أطماع السياسة العالمية لا تستثني أحداً من العرب، بينما أطماع السياسة العربية تكمن في الإصرار على تغيير بعضها.
إن انعدام وجود مشروع عربي دعا الدول المحيطة للدول العربية للانقضاض عليها، أو على أقل تقدير اجتياحها اقتصادياً وأيديولوجياً، وحتى إن لزم الأمر عسكرياً، التهديد حقيقي والخطر داهم، فأين لهفة الأخوّة العربية؟ أين الأخلاق العربية؟ أين الحوار العربي العربي؟ أين النقد الخلاق كي نصل إلى جادة الصواب بعيداً عن الشعارات الرنانة والمحاولات البراقة والتلفيق والنفاق؟ أين الاعتراف بأن كثيراً من الأفكار التي نتعلق بها ماضوية، وغدت أمام الفكر العالمي رديئة؟ ولذلك نباد كما أباد الطوفان القديم سوادنا بعد تضخم كامل الأفكار السلبية والشريرة ، وكذلك فعل بعاد وثمود، وها نحن نباد ونكافح من العالم بسبب هذه الأفكار وعدم قدرتنا على تقديم رؤى جديدة.
هل نحن أمة صافية العرق والسلالة والنسب، حضرت من حبل سري واحد؟ أم إننا هجين ظهر من بقايا أمم مجهولة المشارب؟ لا يعلم من أين استقى وجوده رغم بنائه حضارةً في زمن غابر، مازال يستند إليها، من دون قدرته للخروج منها، ولأجل كل ذلك حاول الغرب تصنيع ربيع عربي، وإرادته إبقاؤهم في ماضيهم البليد، فالعرب لم يعجبوا يوماً ببعضهم، لا يعرفون بطرق عملهم، مختلفين ليس فقط على الأساليب المتبعة، إنما على العبارات وصياغة القرارات، ينتقدون  نجاحاتهم، ويسعون لتدميرها، حتى إنهم يعترضون حتى على أسماء بعضهم، وبذلك يشكلون علامات فارقة، تدفعهم بأنهم عرب، لماذا لا تتقاتل المشارب مباشرة، بل تنتظر الثمار دائماً من مستقيها، لا يهمها حجم الخسائر، أياً كانت مادية أو معنوية، بشرية أو طبيعية، المهم أنها تجني أولاً وأخيراً الفوائد والعوائد من نتاج كل ذلك، ومن يخفق في دفع الأتاوات تنزع عنه الشرعية، بعد أن تُهيأ القرارات الدولية من مجموعة السبع، تؤيدها مجموعة الخمس الدائمة العضوية التي تختلف فيما بينها، إلا أنها متفقة في النتيجة النهائية.
من جديد انتظروا في الأمام قليلاً فستجدوننا بينكم، بعد أن ننهي ما نحن عليه من جدل سياسي، واستعادة القانون من بين متاهاته، التي هدمت حدود العلاقات بين الحريات الخاصة والعامة، واستبيحت الحدود كل الحدود من الإرهاب العابر من كامل الاتجاهات، وبدأت حجوم الخسائر تنتشر كما هو حال الكذب الإعلامي المجيَّش للحروب، للفساد، للإرهاب، للانقسام، للتصارعات على السلطات، للأنا الفردية، لقضايا حقوق الإنسان، تلميع لصورها وتشويه لها، هناك استعراضات ما أن ينتهي فصل أو حادث، حتى يبدأ فصل جديد تحت مسمى مما ذكرت، من دون الانتباه لنصف الكأس الممتلئ بأي شيء معرّف أو غير معرّف حتى اللحظة، ولا يريدون تعريفه، بينما الحقائق الفيزيائية قبل الكيميائية ترينا ما فيه لذلك أجد ضرورة تحليله، فربما كان إرهاباً أو تخلفاً أو تبعية أو استسلاماً لما هو عليه، وهذا ما نتعلق به، البقاء الذي يمتلكه الكلي، ولم نعِ ماهيته حتى اللحظة ومعنى هو.
مشارب العرب مازالت محصورة بين الخالق والسنن والتفاسير وعالم الشمال والتقليد والبيع والشراء، من دون بحث أخلاقي وعلمي، على الرغم من تحدثنا عنها لغوياً فقط، يكفي أن نفتح الآفاق لها، وندعها تسيل بيننا، فتغدو الحياة ملكنا، لا رهينةً بيد الآخر أياً كان هذا الآخر.

د. نبيل طعمة