أسوار الماضي

أسوار الماضي

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٥ سبتمبر ٢٠١٧

مازالت تحيا ضمنها كل الحروب من داحس والغبراء وصولاً إلى ما نحن عليه، شياطينها ما فتئت تعيث فيها فساداً، لم يقدر أعتى عتاة الشرِّ على دحرهم؛ بل إن الفكرة الرئيسة التي تعلو فوق الجميع أن الصراع هو سيد الموقف، وإن البقاء للأقوى، مهما كانت الظروف، دامت أربعين عاماً من أجل ناقة أو فرس أو تيس يحلب أو عقيم، توترات مستمرة لم تصل حتى اللحظة إلى تعريف شكل للوطن ولا ماهية المواطن، ليبرالي، ديمقراطي، علماني، يهودي، مسيحي، إسلامي، الكل في حالة عدائية مفرطة، وإدمان تفتقد فيه الهوية أصالتها، تضيع بين شكلها العروبي التاريخي وإسلامها الحامل للشكل والعهد الأول وعدم قدرتها على الوصول للحداثة خاصتها، وتعثرها بأفكار حداثوية الغرب.
حدود قديمة مهترئة وبالية، يعاد تجديدها من أجل حروب جديدة، يجري إنباتها وإكثارها في مخابر دراسات DNA المعالجات البيولوجية ومصانع الأسلحة، ضخ هائل للمصطلحات وتسليط الأضواء عليها ضمن أنماط رمزية تتناهبها لغات العالم، وتغزو جميع الثقافات والحضارات، إرادة جميعها إدخال البشرية إلى أماكن مظلمة، وتوهانها فيها وخلق معاناة لها، تقربها من الموت، ومن ثمَّ تدعها تبحث عن سبل نجاتها منه.
مؤكد أن كل هذا يحتاج إلى وقفة نسأل مع من.. مع أنفسنا.. مع الزمن؟ وإذا كنّا لم ندرك ذلك، فلتكن لنا حوارية مع القداسة، مع الحقيقة ومع الواقعية، مع الخيال ومع المسموح والممنوع، لأن بوابات الزمن تسوِّر خطوات الماضي والحاضر والمستقبل عبر بواباته التي تدعونا للمرور منها إلى الأمام، إلى الوراء. من يرد الذهاب إلى جوهر الأشياء فعليه اختراق كل ذلك واختزال السبل بغاية تحقيق الموازنة بين كل ما مضى، وكل ما يحضر، في الوقت ذاته استحضار لغة الابتكار والتقدم؟
من منا يستطيع محاسبة الماضي ومعاقبة الحاضر ومكافأة المستقبل، من يقدر على محاسبة الكلام ومعالجة الكلم منها وتضميدها، فالمنطق والعقل يدعواننا للتأمل والتفكر بأن يتشكل من المعنى طريق لوجودنا ومصيرنا، ومنه نسمو ونقترب، ليس فقط للأقرب، بل من البعيد والأبعد.
هل نستطيع أن نفكر بلغتنا، وأن نحاسب كلماتها فقط؟ ألا نعقِّدُ أمورنا أكثر إذا تسوَّرنا بها فقط، إذاً لابد من أخذ البحث في المحيط والتعريج على فهم لغته وأساليبه أكثر من ضرورة إضافة لفهم منظومات العقائد القادمة من الفلسفات، وآليات إنشاء اقتصاداتها، على الرغم من فهمنا العميق للجذر الواحد الذي قدمت منه البشرية الدينية وتعدد الجذور في الحالة العلمية.
مشكلة العرب أنهم انحصروا في الفلسفة الاستغرابية، وحلمهم الدائم الغرب، وخطيئة مفكريهم ومثقفيهم وقادتهم ومديريهم أنهم لم يقدروا على خلق استشراقهم وجعله خاصتهم والبحث فيه والاتجاه إليه، فأي مستقبل ينتظرنا إن لم نخترقه بقوة الحكمة والمعرفة خاصتنا والسيناريوهات المعدَّة مسبقاً مرعبة وخطرة، مقسمة ومفرقة، ترمى على هذه الأمة بين الفينة والأخرى، فإن لم يجرِ تداركها واتخاذ القرارات الجريئة والتدابير العاجلة والضرورية وعلى كامل المحاور وشتى المناحي، فإننا سنبقى ضمن أسوار الماضي ندور في فلكه، هذه الأسوار التي لا يمكن لها أن تبني أي مستقبل، فالتركيز يحتاج إلى ثقتنا بأنفسنا وتحويل التطلع إلى قدرة ومطلب وحاجة وحق ضمن عمليات التأمل والسكينة للروح والهدوء والثقة بالجسد مع قوة الملاحظة والتفكير الإيجابي والدقة في التفكير المنطقي.
فرصة مهمة تتحقق الآن، لنخرج مما نحن فيه بعد أن سادتنا حالة خلط الواقع بالخيال، وأخذنا الافتراض على أنه واقع، وبتنا أقرب للاقتناع بأننا عالم واحد، وتأرجحنا بين مع من نحن، ومع من ينبغي أن نكون، وأضعنا التعريف بين الغريب والقريب، بين الصديق والعدو، وغدونا في تيه بين نعم ولا.
فقدنا أدوات النضال من أجل المستقبل، وغرقنا في الكفاح ضد أسوار الماضي وعباداته المسكونة فيه، طبعاً نحن نبحث عن المشتركات من أجل الوصول إلى حلول تلغي حالة المماحكات التي تردم المعرفة بدلاً من التنقيب فيها، التي وحدها ترسم لنا أنواع الأمزجة كي نصل بعدها إلى مزاج عام يسود جميع الأمزجة الفردية.
كوميديا إلهية وملهاة اجتماعية اقتصادية سياسية مرة لا سكر فيها، تتذوقها أمتنا منذ قرون، بل عصور، تحيا من خلالها بؤس الأفكار التي تتحمل المسؤولية عن فوضوية تعلقت بها شعوب هذه الأمة، ودلالتها تشير إلى عشوائياتها المنتشرة على سبل مسيرها، وما تشاهده على أطرافها من بنيان، وانعكاس ذلك على نمطية التفكير على مستوى الهرمية من القاعدة حتى القمة.
كيف بنا نهرب من الأسئلة التي تفرض حضورها علينا؟ وكيف بنا نتعرف على ما يشغل بال أفراد هذه الأمة بآلامها وأفراحها وشجونها وأحلامها؟ أين تسكن هذه الأمة؟ متى ستخرج من واقعها الممتلئ بالتخلف والتبعية والخيانة والدمار النفسي والخراب؟ متى تتحرر من دموع البؤس والخطيئة والجريمة والاغتصاب النفسي؟
من يعمل على ديمومة الخلل الفادح الذي لم يعد مخفياً، بل ظاهر وعلني في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، نعم هناك مطالب فكرية وإنسانية تدعو الآن وبقوة لفضح أولئك المستفيدين من هذا الحال ونشر الأدوات والوسائل التي يستخدمونها من أجل إبقاء المجتمعات قانعةً وقابلةً ومتعايشةً مع فكرة أسوار الماضي بغاية إبقاء استغلالهم وامتصاص جهودهم وزيادة بؤسهم الذي يؤخر تطويرهم، وبالتالي تطوير الواقع، وذلك فقط انتصاراً لأصحاب السلطة والمال.
اختراق الأسوار أو القفز فوقها يعني النصر الذي يرسم الفرح، ويحقق انشراح الصدور، ومعه لا يمكن لأحد أن يصادره، أو يلغي الإحساس به، فالنصر يبعث في النفس السعادة، ويسمح للزهو بالحضور، ويكسر كل المراهنات، وينشئ معادلات جديدة أساسها المسير إلى الأمام والغد وبعده، أي إلى المستقبل، نعم الآن عروبة سورية، وسورية العربية تكسر بما تحققه على أرضها من انتصارات كل المعادلات، وتحتفظ بمسيرها إلى الأمام مع بعض الاستثناءات التي مازال الغير يراهن عليها في المدى القريب أو البعيد.
لماذا أقول هذا والعيد الكبير يحل بين ظهرانيها؟ شعبها وقائدها مع جيشها الأبي أصروا على أن يكون النصر، فكان بعد أن تجسدت لغة فريدة، يتشدق بها الكثيرون، لكنه حققها فعلاً وقولاً الشعب والجيش والقائد، فكان الانتصار الكبير في العيد الكبير جامعاً لا مفرقاً لكل أعياد الأمة. فمبارك الذي تحقق من اختراقات وقفزات لأسوار الماضي، ونسير ضمن العهد للإعلان النهائي.
نستلهم من كل ما حصل وعبر سنين عجاف معاني الفداء والطاعة والصبر  بكل أنواعه حتى المؤلم منه، نتعلم من خلاله الكبرياء، نورثه للأبناء والأحفاد، بعد أن توارثناه من الآباء وبشكل خاص من الأب القائد المؤسس، وها هو اليوم يعلمنا الأب القائد المحفِّز «الذي يستحق بعمره العقلي الكبير والزمني بمساره الطبيعي لقب الأب» على الحياة والانتصار والنجاح وعلى الأخلاق الإنسانية التي بها ننجح، وبها ننطلق إلى المستقبل من خلال مبادئ راقية وسامية عالية الاتزان والمعقولية المرشدة لطرق الخير والبناء والإعمار، مباركة الانتصارات، وليس بالبعيد تكون كاملة، ويحتفي جميعنا بها بعد هدم آلام الماضي وأسواره.

د. نبيل طعمة