بلفور والتطبيع

بلفور والتطبيع

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٢٧ سبتمبر ٢٠١٧

واقع يسكن بينهما أفكار المقاطعة والتأييد، مئة عام وطبيعة التطبيع تظهر أنَّ الصراع نظري، غايته التمهيد للوصول إلى الأهداف، الوعد الإلهي لأبرام النبي ووعد بلفور لإسرائيل؛ أي ليعقوب النبي، ووعد الأمة العربية بالاعتراف بالصهيونية لكيان قائم وقادر على حمايتها رغم ضخامة الحروب ومخرجاتها من ضحايا بشرية سياسية واقتصادية واجتماعية، كانت فقط مع الكيان الصهيوني المسمى بحرفنة التاريخ «إسرائيل»، الذي يعني في العبرية القديمة صارع الله، أو تصارع معه، وما هو إلا الاسم الآخر ليعقوب النبي.

طبعاً يكون هذا الصراع نظرياً من باب المادي مع اللامادي، فماذا تكون النتيجة؟ وكيف به بين المادي ومحيطه الذي كلما تقوى ألهاه بقضاياه؟ سؤال يلهمنا التفكير في إيجاد جواب لهذه المعضلة اللاأخلاقية ومعالجاتها مسكونة ضمن الضمير الوطني وتاريخ أمة، وجغرافية إنسان.

في العقل اليهودي هناك من قال أثناء استبدال الشعب الفلسطيني عن طريق المجازر والاغتصاب وانتهاك حقوق أمة قائمة بالحق والقانون الوضعي والسماوي بمكونات يهودية: إنَّ الكبار يموتون، والصغار ينسون، وعلينا أن نشتغل على الموجود، نلهيه بالمال والجنس والتدين والحروب، إلى أن نصل إلى حيث نريد، ونتحرك على ما نريد.

التطبيع يعني الجمع بين التناقض بأشكاله المباشرة أو غير المباشرة؛ أي بين العداوات المؤصلة، كما بين الأعداء أفراداً ومجتمعات ودولاً وأمماً، وأعتقد أنَّ مصطلح التطبيع قديم ومسكون في فكر العلاقات التاريخية، وخاصة الصراعات البشرية، إلا أنه أخذ موقعه بقوة في العصر الحديث، وبشكل خاص بين الأمة العربية ومنها الشعب الفلسطيني المؤصل، وشتات يهودي جمعه الفكر السياسي العنصري لليهودية الذي أطلق عليه الصهيونية التي تعود وتطلق عليه اسم إسرائيل على أرض احتلتها تحت ذريعة واهية (أرض بلا شعب أعطيت لشعب بلا أرض) عبر قرار جائر أطلق عليه وعد بلفور عام 1917، بعد مئة عام، وخلال سنواتها، جهد هذا الكيان للاعتراف به والتطبيع معه، ومنذ ظهوره الرسمي عام 1948 والمحاولات لم تهدأ، وأطماعه لم تنتهِ، ولم تتوقف حروبه واحتلالاته لأراضٍ عربية، ومع ذلك يتابع، وللأسف وجد من يطبع معه، والغاية من كل هذا اللهاث تمييع القضية الفلسطينية، والوصول إلى سلام على حسابها، واعتبار مسؤولية الصراع مسألة فلسطينية لا علاقة للأمة العربية بها، وفعلاً نجح في استجرار مصر لاتفاقية كامب ديفيد عام 1978، التي هدفت بشكل مباشر لمحو إنجازات حرب تشرين التحريرية، وبعد ذلك حاولوا مع لبنان من خلال آل الجميّل، وبشكل خاص بشير الجميّل عام 1981 أثناء اجتياح الكيان الصهيوني للبنان ووصوله إلى بيروت والتوقيع فيما بينهما على اتفاق 17 أيار التطبيع والإذعان الذي أفشلته سورية والقوى الوطنية اللبنانية.

وبعد ذلك أعلن ياسر عرفات نتاج خروجه من بيروت، ومن منبر الأمم المتحدة اعترافه بكامل قراراتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية عام 1982، وتحرُّك خطة فيليب حبيب، واكتمل تطبيع مصر بعد استعادتها لطابا عام 1989، وصولاً إلى تمهيدات مؤتمر مدريد عام 1990، وغابت سورية ولبنان وفلسطين عن أولى جلساته في موسكو عام 1992، الذي استمر حتى عام 1993، وأعلنت إسرائيل استعدادها لقبول القرار 242 والتفاوض الذي اقترحته سورية «الأرض مقابل السلام»، هذه المعادلة التاريخية التي وردت في الكتب المقدسة (لغرض في نفس يعقوب) بين مملكة حمور ويهودا والسامرة، واستباحة يعقوب لمملكة حمور، وقتل شعبها وشجرها وحيوانها وحجرها.

لم ينته عام 1993 حتى تأسست مفاوضات سرية أظهرت اتفاق أوسلو 1993 على أساس تلك المعادلة، «الأرض مقابل السلام» وعلى أساس حق إسرائيل في الوجود ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، أختصر كثيراً وصولاً لاتفاق غزة- أريحا في القاهرة في محاولة تطبيق الحكم الذاتي عام 1994 الذي وقع خلاله الملك حسين أيضاً مع إسحق رابين اتفاقية وادي عربة التي تنص على الاعتراف المتبادل واعتراف الأردن فيها برعاية الأماكن المقدسة في القدس.

وفي نهاية هذا العام انفرط عقد السبّحة العربية، فتبادل المغرب وإسرائيل فتح مكاتب ارتباط بينهما ومعهما تونس، وفُتح مكتبان للتمثيل التجاري، وكانت تونس سبّاقة لإقامة العلاقات ودعوتها المبكرة من الرئيس الحبيب بورقيبة في خمسينيات القرن الماضي. وتبعتها جيبوتي التي اتفقت على التطبيع في العام ذاته، وفي نهاية عام 1995 كانت قطر أول دولة خليجية تفتتح مكتب تمثيل تجاري، وتكرُّ السبّحة الخليجية، لنشهد مملكة البحرين في العقد الثاني من الألفية الثالثة، تظهر علاقاتها إلى العلن، ومعها السعودية، وتبادل الزيارات على أعلى المستويات.

تفكروا معي واقرؤوا المشهد الذي تعايشنا معه قسرياً، حيث حُمّل  مسمَّى «الربيع العربي» من دون وجه حق، وعودوا بالذاكرة قبله إلى المصطلحات الشهيرة التي أطلقت من أميركا، لماذا يكرهوننا بعد حادثة البرجين؟ وإعلان بوش الابن من على بارجة حربية أنَّ الربَّ أرسله لهداية المسلمين، وأوباما صاحب فكرة التغيير، وبين كل ذلك شرق أوسط جديد وكبير، والفوضى الخلاقة في عهد بوش الابن، ودخول التدمير من خلال تلك الشعارات منذ عام 2010 عبر تونس وليبيا ومصر واليمن، وقبلها العراق وصولاً إلى سورية، الفكرة كررتها كثيراً، ولكن ما حدث من أجل ماذا؟ كان بغاية واحدة فقط إنهاك القوى المقاومة فعلاً لا قولاً للتطبيع، وفرط عقد هذه الأمة بشكل تدميري، وإظهار أبنائها على أنهم قتلة ومارقون، ولا يستحقون الحياة ولا إدارة أنفسهم، وها هي تظهر لنا بعد كل ما حدث الهيمنات العالمية على القرارات العربية مجتمعين ومتفرقين، متدينين يقاتلون كفرهم وإيمانهم في آن، هل استبان الأمر؟ أم إننا نحتاج إلى أكثر من ذلك؟ ومرة ثانية نقف ونسأل إلى أين؟ بعد أن وجدنا أنَّ وعد بلفور، وبعد مئة عام يفعل فعله، ويأخذ مجراه، ويمسك بيد الحلم الصهيوني، يحوله إلى واقع، وها هو الآن يثبته حقيقةً بهذا التطبيع الممنهج والمدروس بدقة، والعالم يؤيد كل خطوة في هذا الاتجاه، من معنا ومن علينا مع المتفرجين والمنتظرين، والذي يتابع ما يجري الآن أثناء انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وكيف بالرئيس المصري السيسي يجلس أمام نتنياهو إسرائيل، وترامب وهو يشير على منبرها إليه، وملك البحرين يحاول الوصول بالطاعة ليديه. يعلم ماهية وعد بلفور 2/11/1917 واحتفالات إسرائيل التي تستعد للقيام بها بمناسبة مرور مئة عام على ذاك الوعد المشؤوم، ومازال العرب يشجبون نظرياً بأشد عبارات الرفض والهتاف ضده عبر مسيرات تدعو لرفض الوعد ومقاومة التطبيع، بينما الفلسطينيون وبضغط مصري خليجي مغاربي أردني، يستعدون للقبول بالفتات من أراضيهم وموافقتهم بعد المصالحة بين غزة وأريحا على الحكم الذاتي، بعد أن أكد رئيس منظمتهم خلال هذه الدورة وعلى منبرها اعترافه الكامل بإسرائيل ومهاجمته لها نظرياً في آن.

هل تحتفل إسرائيل بعد مئة عام على دخولها للأمم المتحدة الذي حدث في 11/أيار 1949 عام 2049 بسيطرتها على العوالم العربية والإسلامية، وتنتهي قضية التطبيع، لتتحول إلى قضية هيمنة كاملة؟ وهل سننتظر إلى ذاك الحين؟ أم إننا سنموت، وأبناؤنا سينسون، وتبقى القضايا عالقة ومستمرة؟ أؤكد أنَّ هذا لن يحدث، والنهاية ملك أصحاب الحق، وما يحدث الآن ما هو إلا تظهير للتبعية والعمالة وخيانة المواقف الجادة المكافحة والمقاومة من أجل العدالة.

د. نبيل طعمة