الوثيقة والأسطورة

الوثيقة والأسطورة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٠ أكتوبر ٢٠١٧

كم نحتاج من الزمن لفهم مفردتي عنواننا؟ وكيف بنا ننحو للأخذ بالمفردة الأولى منه والاستمتاع بالثانية؟ وكم تلاعب بنا عالم الشمال ونحن من تَملّك الوثيقة؟ استلبها من جوهرنا، وترك لنا الأساطير لنحيا عليها، أتى إلينا فاستشرقنا، ولم نستغربه، ولم نستغرب حتى ما فعله بنا والذي دعمه وغذّاه بالفكر التوراتي التلمودي، وجعلنا ليس وحدنا فقط؛ بل العالم أجمع يمسك به. ومنه نجد أن الأسطورة مثلت العمود الفقري لفكر المجتمعات التاريخية التي منها شيّدت أغلبية الآداب والفنون العالمية، وألهمت الكثيرين من ذاك التاريخ الموغل في القدم، وظهرت منها أهم ملاحم التاريخ «جلجامش وعشتار والإلياذة والأوديسة والإنيادة»، وبينها كانت الآلهة الأسطورية فينوس وطريقة ولادتها من محارة ملقحة من دم ومني، وزيوس وبارس وأفروديت، وسيطرت لزمن طويل على عقائد أصحابها، وتداخلت مع عاداتها، حتى إنها غدت للحظة جزءاً مهماً من حركتهم وتطلعاتهم، وتعبر عن الأفكار المتأصلة والمتراكمة في ذهنيتهم عبر معاناة طويلة، صراعات وحروب عنيفة، جميعها تدور في أفلاك الخير والشر، والحب والكراهية، والحرية والسلام، لذلك كانت الأساطير إشكالاً فكرياً يتحسسها الإنسان بغريزته وحدسه، أسست بشكل أو بآخر للظهور الروحي الرسمي معتمداً على السياسة الكلية لحركة الكون وإرادة مثلثه جبَّ ما قبله مجتمعين ومتفرقين، والغاية إبقاء العالم بلا وثيقة، هل نجح ذلك برأيكم؟ مازال النقاش مستمراً.

أين الوثيقة من الحكاية والأسطورة؟ لا شك أنَّ لكل مجموعة بشرية أساطيرها وأبطالها وحكاياتها ورواتها الذين قدموا لها إرثاً تاريخياً، حيث أوصلتهم إلى مصافّ أحلامهم بعد ذلك النسج المذهل للأعمال الخارقة المسكونة في الفكر البشري المصورة عفوياً لا وثائقياً، التي مازالت إلى الآن تلهم الأدباء والشعراء وحتى الساسة الكثير من أفكار نظم صيغة الحلم وجمال الإبداع، وكثير منها أيضاً لم تدركه العقول، من حيث رمزيتها وشخوصها اللاعبة فيها وعلاقة الزمن الذي يلتهم كل ما يوجد فيه، والتي جسَّدها ساتورن الملتهم أبناءه، ما شكَّل البنية الأولى والأخيرة لولادة المشروع الروحي الكبير عبر مؤسسة أبرام وانسياب الأديان الثلاثة، وسكنه عقول البشرية جمعاء، الذي يعتمد على الغيبي والتصوُّري والتخيُّلي، ولكن بشكل يميل كثيراً إلى الأخلاق وضرورات التسليم فيها والإيمان بالنظم اللا مرئية، التي تعتبر الآن من السلطات الأكثر قوةً في البناء الإنساني، ما دعا الإنسان المتمرد عليها لإنشاء عالم موازٍ في فكره، لا يعتمد فكرة الأسطورة والروح، وإنما يذهب للبحث العلمي عبر تقديم لغة فلسفية، دعته للأخذ بفعل الشك بغاية الوصول إلى اليقين الذي يعتمد الوثيقة التي تبين نتائج العلوم والمعارف، وتحول الفرضيات والنظريات إلى نتائج، ومنها إلى منتجات محسوسة، يتلقاها الوجود، ويتعامل معها كموجود، إلا أنه مازال يتصارع معها حتى الآن بين شكل العلم المستند إلى الوثيقة والديني بغيبيته والتسليم به.

كيف وصلنا إلى هنا بعد أن انقسم العالم إلى عالمين، شمال وجنوب، أسطوري وروحي، وعلمي علماني عليم منتج؛ شرقي جنوبي أبدع في أساطيره وتمسك بها، وشمالي غربي استوعبها، ومن ثمَّ عمل على تعزيز لغتها في البشرية معتبراً إياها تجسيداً للماورائيات، أخذ منها ما يفيده، ورمى بالباقي إلى الشرق وعالم الجنوب برمته.

أجد من الضروري أن ألفت نظركم أيتها السيدات والسادة على اختلاف مشاربكم إلى أننا شعوب تملكت منها الأساطير، واعتادت التمتع بها وتوارثها نتاج الخوف من المخيف، والقاعدة تقول: إن الخوف يولد من الخوف. ولكم أقول: إياكم والاعتقاد أنَّ أحداً سيعاقب على معتقده؛ بل العقاب الحقيقي على الأفعال وآثارها.

لقد تعلقت شعوبنا بالمستحيل غير الموجود، وبدلاً من أن يكون محفزاً على الحياة للنهوض منه، آمنا بقوة فيه، والمستحيل يعني أن لا وثيقة، يتحدث الشرق عن فتح الغرب وهو عاجز عن فتح كتاب، ويريد أن يخوض البحر وهو يغرق في قطرة ماء.

الطموح مشروع إن وفرنا له الوثيقة، ومنه أقول: إن الإنسان يحتمل فكرة أن يغيب عنه الطموح لفترة، ولكنه لا يحتمل أبداً فكرة انتهائه منه، أين وثائقنا؟ من يطلع عليها وأين تحفظ؟ أليس من حقّ شعبنا امتلاك معارفه؟ أين وثائق إيبلا التي نتغنى بمكتشفاتها؟ من حللها وقرأها وأخذ نتائجها، وصاغ لنا خلاصات بدت أصغر من حضورنا بكثير؟ هل تدارستم أين رُقمها؛ أي الوثائق التي ذهبت إلى فرنسا للتحليل، ومن ثم أتلفت؟! أين وثائق أوغاريت ولغتها المسمارية؟ وكذلك رأس شمرا والمدن المنسية وتدمر؟ أين المومياء السورية؟

أسئلة تشكل غيضاً من فيض ما نملك، وثائق تعتبر من أهم شروط بنائنا الثقافي والجمالي والإنساني والعلمي، لقد سحب كل ذلك إلى عالم الشمال، ولم يطّلع إنساننا على شيء منها، وأعتقد أنه لو تمَّ فردها لكنا في مصافّ الأمم، لكن مادامت البعثات الآثارية التي تحضر من عالم الشمال وتضم التقنيين من اختصاصات الطب والهندسة والفلسفة وفك شيفرات الرموز، وهي في الوقت ذاته تنقّب عن الذي لا نفهم فيه، فإننا سنبقى ننتظر ما يرمى منهم إلينا بعد استفادتهم من خلاصات الوثائق ومن ثم بقاؤنا تائهين بين الحلم والأسطورة بين الانتظار والتردد.

هل من مجيب؟ إنساننا ينتظر المعرفة، والمعرفة سبقت العلم الذي لم يقم من الأسطورة، وفي الوقت ذاته، يعتمد على الوثيقة التاريخية التي تؤسس لظهور الحداثة في أي مجتمع.

نعم استطاع الغرب أن ينتزع كامل مكونات الوثائق بالمعنى العام والخاص، حتى وصل إلى أنَّ أيّ وثيقة مكتشفة ينبغي أن تقرأ أولاً منه، وتحلل لدى مخابره، ومن ثمَّ يعيد لنا ما يريد أن يقدمه لنبقى في دائرة الهيمنة والتسلط والتبعية الثقافية والعلمية، وأكثر من ذلك الاجتماعية والدينية، لأن الوثيقة تعتبر الحل الجذري للأزمات والنزاعات والخلافات بين الأفراد والشعوب والأمم، وتتضمن لغة حاسمة دالة أو موجهة إلى الحقيقة، أو تمنح إضاءات عنها، وإذا فقدت الوثيقة، فقد مالكها حقه وحقوقه، وغدا ضعيفاً مستجدياً على أبواب الآخر.

ها هو حالنا، كامل تاريخنا ديني قادم من أساطير توراتية وتلمودية، صنع في الغرب بشكل أو بآخر، نهب الميتافيزيك الرائع من تاريخنا، ومعه الميثولوجيا النوعية وفكرها الجميل عن عالم الآلهة، التي ترشدنا أفكار الأساطير والطقوس والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في ذاك التاريخ؛ أي قبل الوصول إلى الحداثة العلمية، وأحلوا محله أساطير سراديب بابل والسبي وما نتج عنه طبعاً، لم تتخلَّ شعوبنا عن الإيمان بالطريقة اللا مرئية، وأنه من الضرورة بمكان أن تتوافق على أنَّ هناك عالماً موازٍياً لعالمنا وداعماً بطريقة أو بأخرى لوجودنا، وأنه لا يمكننا إنكاره بحكم فقداننا للوثيقة، لكن الواقع يدعونا لامتلاكها على خط عالم العلم والعمل له بقوة،  حيث من دونه سنبقى ندور في فراغ اللا وثيقة واللا علم؛ أي بين مفردات الحكاية والأسطورة.

أين وثائق الأمة؟ وعلى أهمية تقديرنا إن أردنا انتقالاً نحو الأمام وتطويراً حقيقياً للشخصية الإنسانية، يرجى العمل على تشكيل مراكز بحثية ونشر نتائجها إعلامياً وتربوياً، والغاية أن يمتلك الإنسان ثقافته المنطقية والعاقلة بغاية تعزيز حضوره، وننهي التهام الزمن لموجوداته مجاناً؛ أي يتوقف ساتورن عن التهامنا.

د. نبيل طعمة