اعرف عدوَّك

اعرف عدوَّك

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٥ ديسمبر ٢٠١٧

همسة أودعها مسامع أبناء العرب أفراداً ومجتمعات واقتصاديين، ساسةً وعسكراً ومدنيين، أقول فيها: على الرغم من مقاومتي الشديدة للفكر الاستعماري الأوروبي القديم الحديث وبشكل خاص البريطاني منه، وحداثة الفكر الاستعماري الأميركي وخطورة الفكر السياسي المنتشر منهم وكهنه العميق الذي دَرّستْه للخاصة من الساسة حول آليات السيطرة على العالم وحكمه، أجدُ فكري يتوقف ملياً، ويهتم بتفكيرهم ونظراتهم الواقعية للأحداث، وتقديمهم للحلول وعلاج المشكلات، والأمور التي تعترض مسيرة وجودهم وتدخلهم الدائم بالسر والعلن في ابتكار نظم السيطرة على أمم عالم الجنوب، بشكل خاص، حتى وإن كانت على حساب شعوبهم التي منعوها من التسيُّس، وخير مثال لنا منحهم الجائر للصهيونية اليهودية أرض فلسطين للخلاص من فكرهم الشرير الذي طغى في أوروبا، من خلال وعد بلفور واحتفالهم بصلف في لندن بهذا العطاء الذي هو من دون وجه حق بعد مئة عام.

 

لماذا قلت إني مهتم؟ لأنهم الوحيدون في العالم الذين لا يملكون أصدقاء دائمين، ولا أعداء مستمرين، ولم يُسْتَعمروا عبر التاريخ؛ بل اسْتَعمروا من خلال إيمانهم فقط بأن المصالح وحدها تدوم، عقيدة لم تحد بريطانيا عنها أبداً. ففي الحرب العالمية الثانية دعمت روسيا ومدتها بالمال والسلاح، إلى أن حطمت ألمانيا النازية، وعادت لتسهم في بناء ألمانيا وبكامل القوى، والغاية تحطيم روسيا من جديد.

مرةً ثانية وكعربي أؤمن بعروبتي وقوميتي وبتاريخي وانتصاري لهذه القيم، لا يمكن أن أحيد عنه، أؤكد كفاحي المطلق لفكرهم الخبيث المجمَّل بأفضل وسائل الخداع الفكري والبصري، الذي من خلفه قدم أبشع صنوف الذل والأذى والاضطهاد، وعلى أياديهم ومن جراء أفكارهم التي وزعوها في أوروبا الغربية، ونقلوها إلى الأميركي، ليمارس على شعبنا العربي وشعوب العالم المستضعفة بإرادتها أو من دونها.

أقول: إنه من الواجب وأكثر من ضروري، أن نسلك طريق أفكارهم، ونسير في ركابها، فهم غَذّوا الفكر الصهيوني، وحموه، وانتزعوا له فلسطين العربية، واقتلعوا أصحاب الأرض العرب الأقحاح، ليحل محلهم الصهاينة، الذين استفادوا إلى أقصى مدى من ذاك الفكر المؤسس لهم، وتوسعوا مما يحمله على حساب دول محيطة بفلسطين؛ أي استثمروا الأفكار في تعزيز لغة العدوان، وجعله شعاراً لهم، فكيف بنا لا نستفيد أيضاً من ذاك الفكر؟ كيف بنا حتى اللحظة، لم نصل إلى معرفة عدونا المباشر وأعدائنا غير المباشرين، وهم الأخطر؟ فإن لم تحارب عدوك بسلاحه فمؤكدٌ أنه منتصر عليك.

اعرف عدوك، ومنه أقول: إن خوض الحروب يحتاج إلى أسلحة، لكن الفوز فيها يحتاج إلى العقول، كم أنشد لو أن ساستنا يدركون حقيقة جوهر الأمور، وأجد أن ندرتهم وصلت إليها، وربما حوربت بسبب ما وصلت إليه، وأن يحدثوا تغييراً جوهرياً في الأساليب العميقة المتبعة في حركة بناء شعوبهم ودولهم، فالشعوب العربية ذكية جداً، إلا أنها تحتاج إلى توجيه ذكائها باتجاه كيفية حقيقية للتعامل مع أعدائها بعد تعريفهم وتوصيفهم فكرياً وعلمياً بدقة، لأن تحقيق المطالب وانتزاع الحقوق وغسل صفحات الذل والعار من تاريخنا القريب والبعيد، لا يتم بالفكر الأناني، والصراخ والعويل والنقد الفارغ والخوف من المصطلحات التي لم نحسن التعامل معها، وبدلاً من فردها والرد عليها علمياً وفكرياً وعملياً، بادلناها بالخوف منها ومعاداتها ومقاومتها، من دون تحليلها وتفكيكها، واعتبرناها عدواً بحكم جهلنا لها، والإنسان عدو ما يجهل، إلى أن يعلم، وإذا بقي كذلك ظلَّ ضعيفاً وذليلاً.

اعرف عدوك، دعوة فكرية للذهاب إلى استيعاب أسباب أي عدوان قائم أو يقوم على فرد أو مجتمع أو دولة، وهذا لا يكون إلا بامتلاك الأسلحة الفكرية التي تمنح فرصة كبيرة لفهم ثقافة العدو وفلسفته وآليات إنشاء أدواته، ومعها أيضاً يجري تحصين البنى التحتية بالتقابل، وبشكل خاص أفضل مما يفعله من تحضير للشعب، واستنهاض قواه، وضخ جملة العلوم المستثمرة بدقة عند العدو.

يحزنني كثيراً، كما أجزم أنه يحزن الآخرين، أن أرى أمتنا العربية يتناهبها الغرب والشرق، وأنها وحتى اللحظة التي أخطُّ بها هذه المفردات تحت عنواننا، نتابع أن الشمال برمته هو صاحب الحلول لصغائر وكبائر أزماتنا، وأجده يتدخل في اختلاف الإخوة، وعلى شروط بناء مجتمعاتنا، وحتى في سياساتنا، وصولاً إلى النزاعات الداخلية، يطور المشاحنات بين دولنا، وحتى الحرب، ومن ثمَّ يفرض حلوله، ويبدو أننا لم ندرك أنه سبب أي خلاف أو مشكلة، تنشأ أو تظهر، أو تسود، ونحن بدل أن نتجه لحلها مباشرةً، ننتظر تطورها، ما يسمح لهم بالعودة لحلها، بعد استنجادنا بهم، ودعوتنا بكرم لهم. كيف بنا نفعل ذلك؟ وهذا إن دل فإنما يدل على أن العدو الأول لوجودنا موجود في داخلنا، ألا وهو الجهل المالك الاستثنائي لمفهوم العداوة، ما يسمح بظهور الأعداء علينا ظاهراً أو باطناً، سواء أكان العدو بيننا أم على الحدود، ومع كل هذا نستعرض الاعتداءات التي بدأت على هذه الأمة منذ عام 1916، والمخطط التقسيمي الذي أنجزه سايكس وبيكو، وبعده وعد بلفور البريطاني 1917، وما جرى أيضاً بعده من انتدابات استعمارية فرنسية بريطانية منذ عام 1920، وحرب فلسطين عام 1948، وحرب السويس، أي العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب النكسة عام 1967، وحرب تشرين على العدوان التي حقق العرب فيها انتصاراً مهماً عام 1973، وعدوان عام 1982 على لبنان، وغزو الكويت من العراق 1990، وصولاً إلى تحرير جنوب لبنان عام 2000، وبقاء جزء منه محتلاً، وحرب تموز عام 2006، وحرب غزة عام 2008، والعدوان الكبير على مجموعة دول عربية تحت مسمى الربيع العربي الذي بدأ منذ 2010، وأهمها على سورية عام 2011، وحتى اللحظة، وهو مستمر، وإن كان ضَعُف بشكل كبير، أي إنه أخفق بشكل ذريع بعد أن قامت الدول الوظيفية بدفع مئات المليارات لتدمير دول شقيقة لها، لأنها تقدمت إلى الأمام، ما أدى إلى كشف تخلفها، ومن ثم تبعيتها، ولم تحصد سوى الخيبات التي سعت للحصول على زعامات أو سيطرة على العالمين العربي والإسلامي باسم الدين الإسلامي، للأسف استخدموا فكرة السنية وألبسوها ثوب الوهابية والإخوانية، ولعبوا على أوراقها، ومن ثمَّ أساؤوا لهذه الفكرة الموجودة بين مجموع الأفكار، وذهبوا إلى التعاون مع العدو، من دون فهم أنًّ هذا العدو هو عدو حقيقي لهم.

اعرف عدوك، قضية أفردها أمام منظومة العداوات التي وللأسف، المفكرون العرب لم يقدروا يوماً أن يصلوا إلى هذا العنوان، بل كانوا مفكرين عاملين على شيطنة الفكر العربي والإسلامي لمصلحة العداوة وتعميق جذورها، فلم يأخذوا مصطلح العروبة والقومية والأخوَّة العربية، لا الأخوَّة الإسلامية، وسعى سوادهم بالعمل الفردي لتعزيز الفردية والبحث عن الجوائز الغربية، وسواد مفكري العرب إما ناقلون لفكر الغرب أو الشرق، وإما ناقدون أو مقتبسون أو إسلاميون خبثاء، يجهدون وراء المادة والظهور من دون وجه حق.

ليعطني أيٌّ كان، مفكراً عربياً واحداً اهتمَّ بصدق بالدين الإسلامي بشكله السمح، وعمل أيضاً لقضية العروبة، أو مسألة القومية، أو حتى العلمانية التي نطور بها شعوبنا، أين هم؟ وهل الخطأ من السياسات العربية التي عملت فردياً على استقطاب مدَّعي الفكر الوصولي وتنصيبهم في المقامات العليا، ومن ثمَّ خذلوها، وانكفؤوا منتظرين إلى أين ستؤول الأمور؟

أقف هنا، ولا أنشد من كل ما قدمته إلا معرفة العدو، بل الأعداء الحقيقيين بغاية الانتصار لهذه الأمة شعباً وأوطاناً.

د. نبيل طعمة