استهلاك الانتقام

استهلاك الانتقام

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ يونيو ٢٠١٨

تحقيقه يحمل بعدي الوطنية والسياسة اللذين يدعواننا للإسهام في تعزيز مبدأ تصالح المصالح وإخراجه بإعلان مقاطعة المقاطعة التي تستثمر فيها السياسة، لعلها تؤتي أُكلها في زمن وقوعها أو بعد حين، وطالما تحدثنا أن إيقاع الأضرار من خلال الحصار الاقتصادي أو الاجتماعي وحتى الديني التي تسكن أعماق السياسة، إلا أن المقاطعة تشملها أيضاً، فتمنع عن الساسة الحركة والتنقل عبر الماء أو الهواء، وحتى السير على التراب، فهل قواها ناجعة إلى هذا الحد، حيث تشكل الحواجز المانعة للرؤية، أو توقف حركة القيادة نحو إجراء التغييرات الهائلة المطلوبة من محيطها القريب والبعيد، وقبل ذلك فك حالات التقوقع وكسر القيد، وفتح بوابات الظلمة والاتجاه إلى الضوء المنعكس من الأجسام المادية التي تعكسها على العين البشرية، لتحدد ماهيتها وسبل التعامل معها، فإذا لم تنجح السياسة في القيام بعملها المطلوب بشكل رئيس، الذي يتجلى في إجراء عملية التصالح، فإن المعاناة ستبقى، وتأخذ بجمهورها إلى عملية التناقض، ومن ثمَّ ضمور قاعدتها الاجتماعية التي تستند إليها.
كيف نحدث التصالح الاجتماعي، ونحن نرى نمو جدلية الفساد المقيتة تتحرك مع تنمية الثراء الفاحش في الأشكال السياسية والاقتصادية وتنمية الفقراء والعمل الحثيث على نشر ثقافة الفقر وتهميش الوعي الأخلاقي على حساب تنشيط الفكر الديني، وخاصة أن شعبنا تواق لتحقيق الأمنيات الكبرى؟
إنَّ هذه الأماني تتجلى في تحقيق المصالحات الوطنية، ووحدة جغرافية الوطن، وزيادة رفعته وقوته، ومن بعد ذلك الدخول إلى عوالم الأمة بأطيافها كافة، وإجراء المصالحات النوعية معها بعد شرح الأخطار الخارجية التي تحيق بها، وما أكثرها، ناهيكم عن مخاطر التخلف والجهل وقبول الفتن والارتهان للآخر، والتصدي لكل ذلك يحتاج إلى التصالح أولاً، ومن ثمَّ بناء إستراتيجية عربية واقعية، لأننا كوطن وكأمة لم نخض يوماً حرباً عادلة، وأعيادنا دائماً شجية ومؤلمة، ولم نصل حتى اللحظة إلى تحرير عقولنا التي بها نضمن خلاصنا من التهميش الاجتماعي ونزع الفوارق الطائفية والدينية، ونخلص إلى ضرورة الإيمان ببعضنا بغاية تحقيق ضمانات الحماية المدنية، فما الذي يمنعنا من الوصول إلى اللحظة الواقعية التي نصارح فيها عقولنا، ونتخلص من جميع مشاريع التكاذب والباطنية السياسية والتواريخ الكاذبة التي تأخذ بنا دائماً إلى مواقع التقاتل والالتهاء بصغائر الأمور، بينما التاريخ الحقيقي يسكن أماكن ربما تكون أمامنا، إلا أنه ليس في ذاكرتنا؟
طبعاً من حق الجميع طرح الأسئلة الاجتماعية عن مصلحة التصالح مع من، وهل يعقل أن تصل لتكون مع الشيطان؟ ومنهم من يقول لماذا؟ وآخرون يطرحون كيف ومتى، وعن النتائج التي تحققها؟
كيف نتغاضى عن كل المآسي التي مررنا بها؟ وكيف نسامح من اعتدى علينا، وأرصدة الشر التي مولت التدمير بدلاً من الإعمار وآليات النظر إليها؟ وأهم من كل هذا وذاك، كيف نتخلص من لغة الدم التي تحركت بين فجوات العلمانية والمنظومة الدينية، حيث قاموا باستخدام آلياتها؟ كيف نسقط من عقول أبنائنا وأحفادنا ما شهدنا عليه؟ فإنَّ بعضنا ساوم على ترابنا الوطني وعروبتنا، واستدعى قوى الغدر وكل أشكال الإرهاب، هل يمكن أن يحدث التصالح والدمج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني؟ كيف نطوي النزاع، وننهي الصراع؟ أليس إحداث الاتفاق والتصالح حالة إستراتيجية بالغة الأهمية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يحمي عملية بناء الازدهار القادمة التي أعتقد أنها مُنحت لوطننا ولفترة طويلة؟
المهم أن نبدأ عملية التصالح، ومعها تسير عملية الإصلاح التي تشير إلى أن الصالح لم ينتهِ، وما نحتاجه إما استبدال بعض من مكوناته المفقودة وإما المعطلة، وهذا يأخذ بنا لفهم الفوارق بين التجديد أو الترميم والإصلاح، فشعبنا تقبل المفاهيم الثلاثة المذكورة، لأنه لا يعرف اليأس، ولم يعتره القنوط، على الرغم من ضغط العيش وآثار ما جرى معه، وتعلقه بالنصر، ودفعه من أجل ذلك الكثير الذي فاق قدراته رفضاً للهزيمة، وهدفه الرئيس إنهاء الحرب التي يصر بعض الدول، وعلى رأسها أمريكا، على استمرارها في كثير من المناطق القابلة للتصالح والرافضة لأي وجود احتلالي لأجل تأمين مصالحها المتضاربة عالمياً، وهنا نقول: إن العروبة السورية بيت الجميع ووطن الأسرة الكبيرة التي بنت اسمها من شمس الشرق، لذلك يتحدث المؤمنون بها بأن رفض التصالح لا يجدي نفعاً، ولا مستقبل لمن يقول له لا، وللذين يقتاتون من عمليات دق الأسافين نقول لهم: لا تشغلوا أفكاركم بالرفض، واتجهوا إلى الإسهام في محاور التطوير الذاتي، واستعدوا لحقبة جديدة، لأن الرفض يمثل إضاعة الوقت، لا أكثر ولا أقل.
ليقف جميعنا على أرضنا الوطنية، ولنعلن رفضنا للعنف وإدانتنا للإرهاب، ولنقاومه ونقاتله، وألا نسمح لأولئك المستغلين للرسالات المقدسة استخدامها في صراعات الأدوات المدارة من القوى العظمى على جغرافيتنا.
نعم خرجنا من المآزق المسكونة في الأنفاق المظلمة، بقي علينا إحراز التقدم وتجاوز ذهنية المراوحة، وإنهاء معوقات التقدم والبدء في التصدي للمكونات الاجتماعية المتهلهلة، وتشكيل روافع منطقية تأخذ على عاتقها تكوين فكر إصلاحي تصالحي، يؤمن بالعلم والعمل والإيمان بإنسانية الإنسان، فإن لم نستثمر في الوقت الثمين، فإن الآخر غير قلق من تطور المأساة، وأكثر من ذلك ربما نجد أن هناك كثيراً من الساعين لإفشال ما تحقق من جهود جبارة على الأرض بغاية تحرير كل شبر منها، وإنهاء كل أشكال الاحتلال مع دحر الإرهاب، ونحن قادرون على تحقيق مفهوم التصالح والوصول إليه، ومن ثم الاتجاه لتقديم لغة جديدة قوامها العدل المنطقي والحرية العاقلة والديمقراطية الواقعية وتعزيز التعليم الفكري بهدف القضاء على الأمية الفكرية، وعدم الاكتفاء بالتعليم الوظيفي، وتعديل القوانين وخاصة المرأة، وبناء فكر إيماني يتصدى لكل أشكال التطرف الديني، وتعميق مفاهيم مقاومة الاستبداد العالمي واستغلاله للشعوب الآمنة، وتعميق انتمائنا العروبي.
متى نعترف أن لدينا أخطاء، وأننا لن نصل إلى الكمال، وأن لدى الآخرين أيضاً صواباً من كل ما سرنا إليه؟
دعونا نتصالح مع الوقت، وأن نسعى لاستيعاب المساحة المعطاة لعوالمنا ولشعوبنا من الوقت، وبجهودنا نقدر على توسعتها، شريطة أن يكون لنا فيها إنجازات اجتماعية، أولاً لأنها وحدها كفيلة بخلق اقتصاد مهم، وتعود على السياسة لتمنحها قوى متعددة في الحركة التي تريد منها إحداث التطور. وثانياً لأن الخسارة ليست عيباً، لكنها تصبح كذلك، إن لم يحدث استيعابها وتحليل أسباب حدوثها، ومن ثمَّ تجاوزها، وصولاً لتحديد وإنشاء المسار الصحيح مع تسريع التقدم الذي لا يكون إلا من خلال تكافؤ الفرص الناجحة، وتكوين طبيعة العلاقة والانسجام وصولاً للتكامل والتجانس اللذين يلغيان أفكار العيش والتعايش القسري، كما أنهما ينهيان أقسى الأزمات الإنسانية التي ولَّدت اللجوء والهجرة والفقر والجوع والهدم والتدمير.
كثيرة هي الشعوب التي لديها حيوات تعيشها طولاً وعرضاً، مداً وجزراً، ضمن مستويات وتنوع في المهام والاهتمام والقناعات والعلاقات، وقليلة هي الشعوب التي تسأل ماذا تريد من حياتها الطويلة، وبقاؤها مرتهن بما تحققه من إنجازات، ونادرة هي التي تحاسب وجودها، وتعالج أخطاءها، وتردم فراغاتها، فلا يكون بها انقطاع، إنما وصل وتواصل دائمان.
لقد أثبتت السنون العجاف أننا شعب قادر على الحياة، قوي ويؤمن بها، لكن ما ينقصه يكمن فيما يخافه، الذي طالما هربنا من مواجهته، والآن وصلنا للوقوف أمامه لنسرع بالتصالح، لأن المصالح تحتاج إلى أكثر مما ذكرناه.

د. نبيل طعمة