استبدال الأفكار

استبدال الأفكار

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٣ يوليو ٢٠١٨

ضمن عالمنا الكبير جغرافياً، الذي لن نطول حدوده، رغم ما وصلت إليه العقول الدارسة، وهو أكبر مما نتخيل هل يمكن؟

الذي أقول إنه لا يمكن أن يتحول إلى صغير، أو من خلال العولمة التي تتحدث عن أنه أصبح قرية صغيرة بفعل ثورة الاتصالات، حيث أدت إلى هبوب العواصف، ليس عليه، وإنما على سكان دوله، وهيمنة الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات وإملاءات البنوك الدولية منها والدول المانحة، وقوانين منظمة التجارة الدولية، وجميعها متحدة ومتفرقة، شكلت أعباءً كبلت حركة نمو الدول، وأعاقت بل أوقفت عجلات التطور الاقتصادي في عالم الجنوب، إضافة إلى تسببها في إذكاء وإيقاظ الفتن لنيرانها الخامدة والجاهزة لأن ترمي بها بين الأديان والطوائف والعقائد والمجتمعات المسالمة، والإسهام في خلق تسميات إرهابية خطرة جداً بعد إخمادها مسمى القاعدة إلى حدّ ما، والغاية دائماً إثارة الحروب وإحلال الكوارث، كل هذا يحدث من تجار السلاح وتقنيات استلاب عقول البشر وحروب الكبار، لا نار فيها، إنما هي جعجعة بلا طحن.

يسمونها باردة، فرضت الضرائب، فتبادل رفع أسعار البترول، انخفاض الدولار، تراجع الين، تقدم اليورو، بورصات الذهب والنحاس والحديد والقمح والسكر والبن والاتجار بالتبغ والخمور والمخدرات، في النتيجة نشهد على نسبية أينشتاين، نقلبها أمام حتمية إرهاب الدول الكبرى وتدخلاتها السافرة في شؤون الدول الآمنة والمسالمة والباحثة عن الحياة والمتعلقة فيها، ففهم معنى النسبية والتناسب والوصول إلى الهدف من كل الاتجاهات أصبح أكثر من ضروري، لأن البشر امتلكوا الوسائط التي أعادت دراسة قيم الزمان والمكان والكتلة والطاقة، وبعد ذلك دمجت المكان والزمان، وحولت الزمن إلى بعد رابع.

ثورة الاتصالات اختزلت المسافات، وجعلت منها بصرية من خلال أدواتها؛ أي قربت البشر، وكشفت كثيراً من أسرارهم الدينية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية والتقدم والتخلف والانفتاح والانفلات والحرية الديمقراطية والديكتاتورية، وأبانت التطورات المذهلة، إضافة إلى القفزات المدوية التي تحققت بعزوم تجاوزت العمر العقلي للمجتمعات ضمن مجالات الذكاء الاصطناعي.

الروبوتات قادمة لتحل محل البشر في الجيوش والمعامل والمتاجر، في المنازل وقيادة الأعمال، حتى إنها أخذت طريقها للحلول بدل الأزواج، فهي القادرة وحدها على إيصال النساء عشرات المرات إلى الذروة، وهذا ما لا يمتلكه الأزواج، والعكس أيضاً متحقق.

تعمل هذه الثورة من عنوانها على توفير أنواع الاتصالات كافة، وكما ذكرت باستطاعتها التعامل مع أدق العلوم والفضاء والأرض وما تحتها، وإدارة كل الأعمال والمراقبة وتحريك الأشياء؛ أي إنَّ سطوتها ستغدو هائلة مرعبة ومريبة، وهذا كله أوجده العقل البشري من أجل وقف التكاثر البشري الذي سيؤدي، إن استمر، إلى انفجارات خطرة بحق البشرية، ويبدو أن التخطيط العالمي حول نظرية المليار البشري الذهبي راح بهذا الاتجاه، وأخذ بالحديث عن الحكومات والقيادات الإلكترونية.

دققوا وتأملوا وتفكروا في القادم، أوروبا والتراجعات السكانية الحادة في الأعداد، وسواد الشيخوخة على الشباب، ما أجبرها حالياً لقبول الهجرات ضمن لعبة الذكاء الاصطناعي، تستخدمهم وتنهيهم متى شاءت، والإرادة في يد من يملكها، ويهدف أن يبقى العالم كبيراً والبشر قليلاً.

يخرج علينا بين الفينة والأخرى الساسة الأمريكيون بشكل خاص، وبكونهم يمثلون رأس الحربة لما يسمى العالم الحر الذي يعمل ليل نهار لاستيعاب العالم وتركيعه، ومنهم كان كيسنجر وهنري لويس وليفي هنري وفوكوياما، فجميعهم تحدثوا عن ضرورة إشعال النيران وإحداث انهيارات اجتماعية وسياسية، وعن ضرورة تصادم الأديان والطوائف والمذاهب والاتجاه لإنهاء التاريخ، واعتبار وجودنا يمثل شكل الإنسان الأخير القائم، وعن ضرورة بدء تاريخ جديد.

أجزم أن ما طرحه فوكوياما عن بداية التاريخ ونهايته دقيق ومهم جداً، قصد منه استبدال وانهيار منظومة الاتحاد السوفييتي، ومعه بدأ تاريخ جديد، تحقق معه انهيار جدار برلين، وتوقف التاريخ في سورية عام 1970، وبدأ معها عهد فريد، وظهر فكر جديد، وانساب شعبٌ وكأنه مختلف عمَّن قبله، وكأن به شعباً جديداً، ومع حلول الأزمة العاصفة التي تجولت بين ظهراني الأمة العربية وأقطارها، تشهد الآن ولادة تاريخ جديد، والأمثلة كثيرة بحكم الأحداث وتواصل حصولها.

إنَّ ما أفرده على السطور، ألخصه بأن التاريخ يبدأ من جديد، إما باستبدال الشعوب، وإما بتغيير الأفكار، هل يعقل أن يتقبل العقل البشري هذه اللغة وذاك المنطق، أو اعتبار الكهنوت والفقه الروحي من جوهره إلى مظهره سبباً من أسباب معاناة البشرية، أو مانعاً للتطور والتقدم؟ فالإنسان جُبل من فلسفة الإيمان، والإيمان وحده يقربه من الحقيقة التي بها يكسر الحيرة والقلق، ومنها يأخذ قوة الانتصار على الانكسار والفشل الذي أوصل شعوبنا إلى حالات قازّة، رسخت عقيدة في فكرها أنها مستهدفة بشكل لم يعد يخفى حتى على البسطاء، فكيف على العقلاء؟

لقد غدا أكثر من ضروري فهم المصطلحات والغوص إلى أعماق أهدافها لا الاكتفاء بالنظر إليها أو امتلاك عناوينها، والسؤال الواقعي يطرح ذاته بقوة: أين الخلل؟ أهو في الآخر أم يسكننا؟ والأهم هل فكرنا يومئ إلى معالجته، أم إنه يبقى مخيفاً ونهاب الاتجاه للبحث فيه، ومن ثم تنقيته، لأن الجاري الذي اعتدناه يستهتر بالمخاطر والأهوال، وبشكل أدق يستخفّ بالشر، ويتقبل انتظاره، حتى يحل به، ويركب على ظهرانيه؟!

عالم كبير وواسع لا تطوله الحركة إلا بشق الأنفس، وصغير حقاً أمام اتساع العقل الذي أسكنه فيه أجيالاً جديدةً، من كل شيء، من الحيوان والنبات والبشر وتقنيات الاتصالات التي نستطيع أن نقول عنها: إنها أسرع من كل خيال، إنها تحوّل المستحيل إلى واقع، والواقع إلى أحلام من جديد، لتسرق البشر وتخطفهم إلى عوالمها، تسرقهم مادياً حيث لا يدرون، وتخطفهم من واقعهم الجيد أو الرديء.

هل يستطيع اليوم كائن من كان توجيه الاتهامات إلى هذه الثورة؟ ومن يفعل فسيُتهم فوراً بالتخلف والهمجية، على العكس تماماً من اتهام المؤرخين والباحثين لكوبرنيكوس بانتحال إرث من سبقوه وعلاقته بأصالة الأفكار والنظريات، وما نجده الآن من رعب وبؤس ونزاعات وصراعات وحبس للأنفاس نتاج الأجواء المعيشة التي تنذر بأن كل هذا التطور يقربنا كثيراً من حروب إفناء بعضنا لبعضنا الآخر، نظراً لدفن عقائد التصارع الفكري، وتحول العالم إلى فكر رأسمالي وحيد، تعشقه السياسة والأديان، مظهراً أن حياتنا استثنائية، أي إنها لن تدوم طويلاً، وربما هذا ضروري، ويمنحنا فكرة شاملة عن صورة الماضي الذي أفنى بعضه لبعضه الآخر، وعاد بالبقية الباقية منه، يبني بهدوء وجوده من أجل استمراره.

الإشكالية التي أوقعتنا بها التكنولوجيا والحداثة والأديان أوجدت التنافر، وذهبت لتعميق الخلاف بدلاً من قبول الاختلاف، هذا أولاً، وثانياً انفلات عملية التكاثر في عالم الجنوب، وعدم القدرة على ضبطه نتاج التمسك بالمشاريع الدينية التي أربكت الحياة الإنتاجية، وأخذت إلى تفاقم المشكلات وحلولها دائماً في الحروب التقليدية والبيولوجية والكيميائية والذرية.

كيف بنا ندرك حجم عالمنا، وكوننا أمام التضاؤل الفكري وانعدام قدرة الاستيعاب، والإيمان بأن الدورات الحياتية حقيقة واقعة؟ أي إن دورتنا الحياتية التي كتبت عنها قبل عقد هي حقيقة واقعة، تنهي البشرية، وتبقي على القليل منهم، ليبدؤوا من جديد قصة رواية أو مقالة أخطُّها، علّي ألفت أنظار المهتمين إلى القادم لنا، فعالمنا الكبير باقٍ، ونحن ذاهبون، ليكون منا أو بعدنا بشرٌ جديدٌ.

د. نبيل طعمة