عبادات ومعابد

عبادات ومعابد

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٧ يوليو ٢٠١٨

كنس وكنائس ومساجد تتناغم بقوة حرية العبادة، تبثّ في داخلها القيم الأخلاقية والعقائد الروحية بما تملكه من إيمان صادق ومهم بالكلمة الطيبة والنصيحة الخالصة والعظات الصالحة، لإفادة الإنسان بكليته، وفي الكنائس كما هو الحال في المساجد، تتصاعد التراتيل والابتهالات والأناشيد والمدائح، لتنساب في قلوب المؤمنين آخذةً بها إلى عمق الجوهر، تنقّيه مما تراكم به من أحزان وأوهام وأكدار نتاج ظروف كل امرئ، وأيضاً من الأهواء الجامحة المخلة بالصورة الكلية التي أريد للإنسان أن يكون عليها.

نحن في هذا الوطن -مسلمين ومسيحيين ومعتنقي ديانات معروفة وغير معروفة- نعلي الصوت، ونقول: إننا سوريو الهوية ومؤمنون بالله والعروبة، وإيماننا -ما دمنا على جغرافيتها- قوي ومتين، لأنه من المبتدأ وإلى ما سيأتي من الزمن، يتجه إلى الحياة، هذا الإيمان ليس وليد هذه الأيام، إنما تراكم تاريخي يفعله ويتمسك به سكانها منذ آلاف السنين، لأن هذه الأرض المقدسة باركها الرب، وجعلها موطن القداسة والقديسين والأولياء والأئمة الصالحين، ولم يتدخل رجال الدين، مسيحيين كانوا أم مسلمين في شؤون بعضهم؛ بل سعوا إلى التكامل في المعرفة وتأكيد تعزيز نشر الفضيلة والأخلاق، ومن خلالهم يمكننا أن نرى أنّ المسيحية والإسلام نهلا من منبع رباني واحد، غايتهما الأولى والأخيرة تخليص البشرية من آثامها والأخذ بيدها إلى البناء والإعمار معززين ثقافة الحب والسلام.

أسأل: متى نمتلك أو نعود إلى ذاك الفكر الإنساني الذي جمع وبعدها لمع لكي نتخلص من الرأي السلبي الفردي، ونؤمن بأن الواحد امتلك طبيعتي المادي واللا مادي؟ كيف بنا نصل إلى معادلة هذه المعادلة ونتيجتها المفيدة لاستمرارنا؟ وإلا فسيبقى هذا الصراع الذي لا يريده، وأؤكد هذا، لأن الرب الإله يريد بالحب خيرنا المؤكد منه لا شرنا نصنعه في عقولنا ونرمي به بعضنا.

في إسبانيا كانت ومازالت كنيسة حوَّلها المسلمون في عهدهم إلى مسجد، وبعد انتهاء حكمهم عادت إلى كنيسة، إلا أنّ المفارقة النادرة تكمن في أن اسمها الآن كاتدرائية مسجد قرطبة المدرجة في مواقع التراث العالمي، لتداخل فن العمارة بين الديانتين، ومن ضمن تراثها وجود مؤذن مازال يحضر بالزي الأندلسي القديم، ويرفع الأذان يومياً حتى أثناء الأوقات التي يصلي فيها المسيحيون في لحظتها، يلتزم الجميع الصمت ضمن منظر مهيب إلى أن ينتهي المؤذن، ثم يتابعون أداء صلواتهم وترانيمهم، وهذا أيضاً كان مع بدايات الحكم الأموي في دمشق، حيث كنيسة يوحنا المعمدان التي تحولت إلى المسجد الكبير (الأموي)، وبها كان يصلي المسيحيون والمسلمون، ينتظر بعضهم بعضاً، ينتهي الأول ليدخل الثاني، والعكس ينطبق تماماً على ذلك.

لن نتخلى عن بعضنا الإنساني المتطابق في الجوهر من حيث الأجزاء والدماء والألوان والبويضات والنطاف، ولا عن أشكالنا المادية الظاهرة المكتسية ألوان حرارة متدرجة بين الأبيض والأسود، التي منها استمددنا بناء الجوهر الذي عكسناه على المظهر، فقبل أبرام أبراهام إبراهيم عليه السلام، كانت الآلهة أنثى، حيث إن المعابد كان لها قبة رئيسة وتمثل البطن الحامل، وقباب محيطة، أخذت من تكور النهدين، ولم يكن لها أبراج أو مآذن، وكان يُكتفى فقط بالتماثيل التي يطلق عليها الآلهة الأنثى، ومع أبرام أخذت شكلاً آخر، بعد أن قام برمي الأصنام والأوثان، واتجه لبناء فلسفة التأمل وصولاً إلى الإله، ومعه بدأت تتطور المعابد من الزقورات وصولاً لأشكالها الحالية التي أظهرت الأبراج والمآذن التي أخذت من ذكورة الإنسان فظهر تكوين المعبد كما هو حال تكوين الإنسان بجزأيه وفعلتها، كما يفعل الرجل بمنحه الاستمرار من تداخله مع الأنثى، وكان ذلك عندما استدعى سليمان الحكيم المعماري البنّاء آبي حيرام، ليبني الهيكل، الذي أخذه من شكل الإنسان، وانساب بعد تنوعها وتنوع الديانات التي امتلكت جوهراً واحداً المعابد والكنس والكنائس والمساجد.

هلا تأملتم الشكل الإنساني؟ ألا يمثل أهم دار عبادة بكامل أبعاده، وأن الدخول يتم من الباب بشكل مستقيم إلى المذبح أو المحراب؟ فهكذا يكون شكل الإنسان من القدمين إلى الرأس مروراً بأعضائه وأهمها ذكورته، وأن الأبراج والمآذن تتشابه في عموديتها التي تصدح بالإيمان مع ما ينساب من الإنسان وتقاطعاته الأفقية والعمودية من أجل الاستمرار والتكاثر والحب ونتاجاته التي تعمر الأرض.

ماذا فعلت أساطير الأولين وإبداعاتهم التي تحكم جوهر البشرية، تحاكمنا كيفما اتجهنا، وتدعنا نتمرد عليها، فتسقط في الخطيئة، لتأخذ بنا إلى الثواب والعقاب، ومن ثم إلى السجود التاريخي الذي انتهج حمل سمة الأرثوذكسية، وتعني الاستقامة، حيث بدأت من الموسوية، وتعمّقت في المسيحية، ومايزها الإسلام عبر حركة الركوع، لا من أجل إحداث الاختلاف، بل من أجل تفعيل مثلث القداسة الذي أحكمه ذاك الإنسان القديم، من دون قدرة الإنسان الحديث، مهما بلغ من شأن على تغيير ثوابته أو الانحراف عنها.

هل علم الإنسان أنه المعبد، وفي داخله يسكن المعبود، وأنه في الوقت ذاته العابد؟ إنه يزوره، يتعبده بإيمانه الكلي أو الجزئي أولاً، غادره نتاج تفوق شره، حيث يطالبه بإصلاح ذاته، كي يعود، يأخذ موقفاً منه، ينقلب عليه بخيره أو شره، وبما أن جوهره لا مادي، كان لا بد من بناء صورة مادية مختلفة، لأن الاختلاف ضرورة، والمسايرة أو التوافق الدائم يؤدي إلى الملل والخضوع الأعمى وفقدان البصيرة، إذاً جميع هذه الأماكن تحمل هدفاً واحداً، يتجلى في بناء الإنسان أخلاقياً وروحياً، ومديروها يتحملون مسؤوليات جساماً، تنبع من هذه الروحانيات التي يبثونها في النفس، يعززون الحزم، ويحفزون العزم، ويحذرون من اليأس والقنوط، ويملؤون المشاعر بالواجبات تجاه إخوتهم وأبناء شعبهم، ويزيدون الثقة بالله، وجميع هذه الصفات يتبناها أبناء أمتنا كما هو حال الأمم، لأن فيها سحر الحياة وترانيمها مع ما ترسله موشحاتها وأناشيدها المؤثرة، فأصوات مآذنها ونواقيس كنائسها تبهج الأرواح، تولد الوئام، وتمنح الطمأنينة التي تحضر من إشاراتها المسالمة والداعية دائماً للسلام.

لمَ كانت العبادات؟ ومن أجل ماذا بنيت كل هذه المعابد على وجه الأرض الحية بأنواعها وأقسامها وأشكالها المعمارية واختلاف مديريها وأئمتها وكهنوتها؟ أليست النتيجة تحمل هدفاً واحداً، مهما تعددت الألسنة، واختلفت أشكالنا البشرية، وتنوعت مناطقنا الجغرافية؟

هذا الشرق حامل الفخامة ومنتجها يدعوكم بعد أن أنجز لعالمنا الكبير الفكر الديني وتنوعاته وطوائفه ومذاهبه لتدبر حياتنا الدنيا، لأنها الهم والأهم، والأديان تحكم أحلام الآخرة، لنذهب عاقدين العزم على الإجماع المؤمن بحقيقة وجودنا وأحقيته لنعزز مفهوم العروبة، ولنعلي شأن الوطن، ونعمل على صونه وصون كرامته التي تكون منها كرامتنا.

دعونا نبتعد عن التظاهر بالحوارات الدينية، لأنها مشاريع تخادع وتكاذب، نحن من نصنع جحيمنا وعذاباتنا، فالكلي السرمدي أوجدنا بالحب، ومن أجل الحب اتفقنا على تعبده أو اختلفنا، فهو لا يضره، لأنه محيط، والكبير لا يزعل من مراوغات الصغار.

 أقدموا على الحياة، فالخوف من الخوف موت، والاتجاه إلى الحياة حياة، والدين دَين حيثما يظهر للناس، وعندما أخفيه أخفي وجودي وعبادتي، خاصيتي أتجه بها إلى المعبود المقيم في جوهري معبدي، أياً كان شكله أو رمزه الذي يشير عليه، ولنؤمن بأن التعب في الحياة ممتع وجميل، وأن الوقت ثمين، وأن علينا شراءه، والشرف في العلم لا في الجهل الواقع في الأجساد، وأن الأديان تحكم الأحلام في الحيوات الثانوية أو الأخروية أو الآخرة، وأن الحكام يحكمون الواقع بالواقعية المنطقية.. هلا تأملنا وتفكرنا وعملنا؟

د. نبيل طعمة

.