الحياة مُرَكّبة

الحياة مُرَكّبة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٦ أكتوبر ٢٠١٨

الولادة تحمل الاسم والدين والحياة، تظهر العمل والنتاج، والآخرة ترسم القيامة التي تقف عليها الناس، ليتعلم منها المستمرون، التعصب دائماً يخفي أشياء سرية، لا يتمنى أن يبوح بها أحد حتى لذاته، لأنه يعلم إن تحدث بها تعدْه إلى جادة الصواب، عبر ما سيسمعه من مماحكات فكرية، تأخذ به للبحث فيما يمتلكه من لغة قوامها من أنت؟ ومن أين أنت؟ وماذا تعتنق؟ وإلى أي مذهب أو دين أو أيديولوجيا تنتمي؟ وأي اتجاه تسلك؟ وإلى أين تريد أن تصل؟ تجده متحفزاً ومتوثباً، يقاطعك بشكل عنيف، يسايرك على مضض، غايته الانقضاض عليك وبلوغه نشوة الانتصار، ليهدأ روعك، وتفكَّر ماذا سيحدثه انفعالك، مؤكد أنه سيهدم السدود، لأنه كالسيل الجارف، وهدوءك يفتح السبل كي تروى البساتين والحقول، ويغدو اليباس أخضر.

كيف بنا ننظر إلى التحول من اليسار إلى اليمين، من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب؟ والعكس ممكن أن يحقق لنا معادلة التوازن الأخلاقي التي تظهر لنا أن الإنسان إنسان، أياً كان شكله أو لونه أو حتى حجمه أو جنسه،  ذكراً أم أنثى، لأن جنسنا يحمل الدم ذاته تحت هذا الجلد، وهو يمتلك التماثل في جميع أعضائه؛ القلب والكلى والكبد والسائل المنوي والبويضة وخفقان القلب وعدد نبضاته ودرجة حرارة الجسد، وأي خلل في جسم يشبه أيّ خلل عند الآخر؛ ألم الرأس والمعدة والسرطان والكلى وتسمم الكبد والجنون.العقل والتعقل، والفكر والتفكر، والأمل والتأمل، والألم والتألم، فالاختلاف يحدث في استثمار العقل وقبول التطور الذي يبدأ لحظة أن يؤمن المرء بالنظام العام والانتظام والقانون ومقتضياته وقوع الجميع تحت مظلته باستثناء المتعصبين، لأنهم لو آمنوا به لفهموا وتفهَّموا لغة الحياة، فالأحكام لا تصدر عن متعصب أو عصبي، وإلا لكانت أنهكته إن لم تنهه.

المتعصب لا يستطيع تحقيق حلم الرخاء، لذلك نجده يحتاج إلى الرب ليحمي ما يريد، ويتعصب لأجله، ويرافق كل ذلك حمايته لصحة الجميع وقواهم وزيادة إيمان الجميع به، كي ينجز لهم ذلك، لكن كل ذلك يتطلب توافر الإرادة والعزيمة والإصرار للوصول إلى المنشود.

في الغابة يفتقد الحلم وجوده، لأن كل شيء مباح وبلا خطيئة، أي لا أحد يحاسب أحداً على ما يفعل، حتى الله يبتعد عنها، لأن شرائعه لا تسكنها، فلا الجاني بما جرَّ يخذل، كما أنه لا مستودع للأسرار التي لا حاجة لها، الأخ يأكل أخاه، والابن يتزوج أمه وكل شيء مباح، وحده الخوف يخضع الجميع للانصياع، يلتئم الجميع على فريستهم، من دون أن يدروا أنَّ كل واحد منهم معرض لأن يكون فريسة في لحظة جوع.

من يشبع الجوعى، ومن يسقي العطاش؟ من ينهي مفاهيم العرق الأفضل، ويهدم الفكر النازي، ويردم قبور الفاشيست؟ من قتل البروليتاريا وحارب على جميع الجبهات؟ فكر ابن خلدون وابن رشد وابن سينا والرازي وغوته ونيتشه وبودلير وموليير وباخ وتشايكوفسكي...من ذاك الذي أوجد صراع الحضارات وحروب الأديان وقتل داحس والغبراء على ناقة؟ ما معنى سرّ البقاء وفناء السرّ؟ وهل الأسرار تفنى؟ ولو أنها فنت فهل ستكون لنا ذاكرة؟ أوَلم نكن غابة كما هي شريعتها؟

من يشعل فتيل الحروب؟ إنسان، من يطفئها؟ إنسان، العداوة والصداقة سيان عند البشر، لكنها غير ذلك عند الساسة والمفكرين الذين يختلفون بها عن الحيوان، لم تنجح شراكة، ولم يفشل أمل، لم يذكر التاريخ ثباتاً على القمم، بل بقاء مؤقت، وهذا هو الذي ينشئ الحقد والحسد والغيرة والكراهية، أدوات بداية شرارة تصل إلى الحروب وإنشاء الجحيم الذي يصنعه الإنسان بفكره الانتهازي المسكون في جمجمة النازي.

من المنتصر؟ الغرب المادي أم الشرق الروحي؟ الشمال العقلي أم الجنوب الجنسي؟ هل نتجه إلى الاهتمام بالواقع المعيش، ونحن نعلم أو يجب أن نعلم أن أي اهتمام يرافقه انتباه إلى المشكلات التي إن بدأنا بحلها جسَّدنا اسم الإنسان الذي يسعى فعلاً إلى الحياة، فتحليل العناصر والوصول إلى النتائج السليمة يلغي تباين الآراء، وأكثر من ذلك يوحّد الرؤى، حيث تغدو الأهداف واضحة، ومن السليقة أستقي أن الرخاء يعني سعة العيش، وهي التي تدل على توافر ما يحتاجه الإنسان من الضروريات، إن فاضت نستطع أن نطلق عليها مرحلة الكماليات، فالمجتمعات المعاقبة تحيا شظف العيش، ومستوى دخلها يدل على أنها دون مستوى الرخاء، ما يأخذنا إلى أن القائمين على الأمور منفصلون عن مجتمعاتهم، أي إنهم متعصبون للانفصال عنها، فمجتمع الرخاء جاذب للآخر، والمجتمع المتعصب منفِّر لأفراده.

هنا أقول: إن العصبية تصيب أي إنسان؛ زوج، معلم، مبدع، مخترع، متدين، مسؤول، وتكون على شكل انفعال عنيف أو هادئ، كأن يكسر الموجود أمامه، أو يسبّ ويلعن بدءاً من ذاته المخطئة، وصولاً إلى محيطه، ومؤكد أن له أسبابه التي أدت إلى حصول ذلك، وربما نطلق على هذه الحالة الغضب من الفشل أو الرسوب، أو من الخسارة وأسبابها الاضطراب الحياتي المتعدد الظروف، مالي، جنسي، عاطفي، عملي، غيرة من إبداع، أو الانتماء إلى دين أو طائفة أو مذهب أو أيديولوجيا، كل هذا يدعونا للعمل من أجل ولادة جديدة، تنهي العصبية والتعصب، يكون فيها القرار لعودة الإنسانية المؤمنة بالحياة وعدم التفكير بالموت، لأنه حقيقة بدهية وحيدة، وتجاوزها يعني التفكير في الحياة ومقتضياتها وآليات العمل لها، لأنها حاصلة لا محالة من خلال البحث والتقصي والسعي لتحقيق السعادة المنشودة في أبسط الأشياء، وحتى في أعقدها، فهل يموت شعب من أجل قضية؟ أقول: نعم يموت، ولكن لابد أن يبقى أحد ليروي أسباب الموت عبر ما حدث لذاك الشعب الذي يستمر من خلاله، والذي يعبر عن الشكّ المولّد للعصبية عند الآخر المتمسك بالتعصب المظهر للتطرّف، لأن الشكّ كحقيقة يوصل إلى الحقيقة، والحقيقة تعني الوصول إلى المعرفة التي تأخذ بنا إلى اليقين.

إذاً: لماذا التعصب الذي يعني عدم قبول الآخر أو الاعتراف به؟ أبما يحمله من رؤى فكرية؟ أم بالخضوع للحق عند بيان الأدلة، لأنه مبني في الأساس على عدم قبوله بسبب ميله للتشدد فيما يحمله؟ وعلى الرغم من أن التعصب موروث قديم فهو مازال مستمراً، ويستمر رغم محاربته الأممية، لأننا نراه ونتابعه بأشكاله التي فيها التميز الديني والمذهبي والطائفي والسياسي والاقتصادي، وأهمها العنصري والطبقي، والجنس إنه السبب الحقيقي الذي يقف خلف كل الحروب، وأحداث العنف تظهر أنواعاً مستحدثة للقتل الفردي والجماعي وتقديم سيناريوهات مرعبة عن إقصاء الناس لبعضهم والتنكيل بهم، من يستطيع الوصول إلى حلم الرخاء؟ أجزم أن لا أحد، فرداً كان أم مجتمعاً أم دولة، ومهما بلغ شأنها، لأن التعصب هو من يحكم وجودها عندما تصل إلى امتلاك القوى.

ما يشاهده الإنسان الآن غير ما يراه العامة، وأقصد به البشر، فهو لا يدرك معنى الولادة ولا النهاية، وهو تائه بين الآخرة والثانوية والأخروية، وفاقد لمعنى وجوده المتكرر؛ أي سيتقمص من؟ حيواناً أم جماداً أم نباتاً أم بشراً أم إنساناً، وكل ذلك يقودنا لتحديد كامل أشكاله، هنا نرى أن الصراع حليف المتضررين، ومضمونه سعة العيش وبحبوحة من الرخاء، يستر بها وجوده المؤقت في هذه الحياة التي لم يدرك أنها مركبة بوجوده أو من دونه.

د.نبيل طعمة