الأسلوب السوري

الأسلوب السوري

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٧ نوفمبر ٢٠١٨

ليست الحياة رسماً، إنما هي فن، وإن كانت تظهر على أنها متحدة به، إلا أنه سرعان ما ينفصل عنها، ليتوزع بين مخلوقاتها، يعود على كل منها، ويلقي فنه بشمول متناسب مع عمق مصممه، فيكون بذلك منفتحاً على الحياة، يرفض حالة العقم الفكري والاجتماعي التي تسيطر على كامل محيطه العربي وغيره المنتشر بين بعض الشعوب.

على الرغم مما مرّ به السوري من مآسٍ محزنة، تناهبت بعضاً من حياته، وحتى اللحظة المعيشة، إلا أن نجاحاته فاقت كثيراً تلك الآلام التي عصفت به، والسبب الرئيس فيها تلك الطمأنينة الجغرافية والروحية المتعددة وقبوله الدائم للمتغيرات التاريخية التي أسكنت في جوهره حقيقة التسامح، فكان أن امتلك لغة الوسط الجاذب، بعد أن تعلم البساطة والصراحة، ما شكّل آثاراً مهمة في تكوين شخصيته، فالسوريون كافة أدركوا بدقة مرورهم من حقبة إلى حقبة، لأنهم أيضاً تعلموا أن الماضي لا يعلم الحاضر كيفية الحياة والعيش فيها، وآمنوا بأن المعتقدات تتطور من دون المساس بمشاعر الكرامة والاعتزاز بما قدمه الأجداد والآباء، ما يخلق الحافز في نفوس الأجيال الحاضرة وجود فكرة الآباء والأجداد التي تعدُّ أكثر من مهمة، لأنها تؤدي إلى استمرار تحفيز الوعي من أجل ترك آثار أو على أقل تقدير أثر مهم، يستشعرون أنه سينبئ عنهم بعد خلودهم تحت الثرى إلى الأبد، لأن أسلوبهم تمتع بمواجهة المجهول واختراقه، وكثيراً ما انكشف لهم من خلال إحسان التعامل معه، فاعتياد الحياة استسلام، ومقاومة الاستسلام تقدّم إلى الحياة، والنجاح يحتاج إلى اختراق الموت، أي لتجاوز الصعاب، حتى وإن كان فيها موت، فإن كان كذلك، كان الخلود الذي يعني أن اللامادي لا يموت ولا يفنى، وهذا إيمان نوعي بالنزوع إلى إعمار الأرض قبل إيمانه بالتكاثر، فالذي يؤمن بالبناء يؤمن بالولادة، فالبناء والولادة استمرار للذات النوعية، وهما أهم ما يستند إليه الأسلوب السوري.

لقد فهم السوري أنه ما أن ينزل إلى لحده انتهى رغم كل ما يشاع عن غير ذلك، وأنه لا رجعة له، لذلك تحول إلى جذر روحي، وأصوله تحولت إلى نمو أسلوبه، وتفرده وحده في نظم تكوينه وحياته إنما انسحب على العالم بأسره، فأينما وجد الإنسان تجد قوة هذا الجذر تدغدغ أفكاره، لأنها بسيطة وسهلة وقابلة للإقناع، وهذا أمدّ السوري بدوافع الاستمرار ومروره من الأزمان، وما حملته عبرها من الأزمات وصولاً إلى ما هو عليه، فناموس حياة السوريين انعكس على محيطهم التاريخي أو المتشكل بفعل إنجازاتهم الحضارية التي رسخت حضورها في ذهن الحاضرين مثل إيبلا وأوغاريت ورأس شمرا وتدمر وقصر الحير الشرقي والمسارح والقلاع، هذا كله كان في عهود الدولة القديمة التي تبادلت التنوعات الثقافية التي في النتيجة أثْرت الأسلوب السوري، فهل استوعب السوريون ما كانوا عليه؟ وإن قواعد التغيير تنحصر في تراتبيات أسلوبها الخاص، وبعد أن مر ما مر بهم ونجاحهم في الخروج من عنق الزجاجة نتاج تقديم نشاطهم وذكائهم، نجد في حاضرهم أن الدنيا تدور عليهم، فاللصوص امتلكوا الثروات، وقطاع الطرق أصبحوا حراسها، وافترش الناس العار، وناموا تحت الأشجار، انقلب الحال وغدا من في الأعلى في الأسفل، والعكس وصل إلى ما لا يحلم به، واختلط الحابل بالنابل، وكأن الأرض انقلبت ظهراً على عقب من خلال حرب كونية على الأسلوب السوري وعلى أناسه، وليس كما يصور بين ناسه.

إن كل الذي جرى في حاضرنا كان مشابهاً لما حدث عبر الزمن الماضي، والسبب دائماً هو كشف أسرار هذا الأسلوب الفريد في التعاطي مع الأحداث الجسام، لذلك أدعو الجميع لقراءة التاريخ والبحث فيه بشكل متواصل بعيداً من كتابات الدواوين المقدسة رغماً عن إيمانهم فيها، إن حقق هذا الإيمان غايته الرئيسة فسيؤدي إلى حماية الشعب في أوقات الشدة والظلمة، ويمنحه مع فهم التاريخ نوراً استثنائياً، فالشعب لابد أن يعاني الملمات عند مروره بالأزمات الحادة، وهي وحدها الكفيلة بأن تنقله من مستوى التفكير والخذلان إلى مستوى التأييد وتحقيق التأييد والانتصارات بمساعدة القائد الظاهر عليه والمنبثق من صميم الشعب، ليعبر عن أدق احتياجاته، ويحيا معه جميع المشاعر والأحاسيس، فتظهر الدولة على أنها بيت للحكمة.

إن فهم الأعسر من القضايا يؤدي للوصول إلى الأيسر، وتغدو الحلول أسهل، لأن الاستسلام للأسهل يعقد المسائل، ويؤدي لإضاعة الكثير من الوقت، وهنا أقول: إن لا حرية لشعب إن لم يمتلك أسلوباً، والذي لم يحفز في ذاكرته التجارب لا يستطيع أن يرى سبله، وشعب سورية الذي لم يؤمن يوماً بالتعصب أو الوحشية ورفض الهمجية بكامل مستنداتها، ميزته عن غيره من الشعوب التي نرى منها القسوة المنفرة والوحشية العدوانية المفرطة، وهذه ذاتها رسمت عنه، وقارنت تنوعاته واتزانه وعدم مبالغته في تقدير الواقع، فاستفادت منه وأيضاً عملت على أن تكون ضده في كثير من الأزمان، فظهر السوري مدنياً، وتمسك بنظرية الثورة المدنية التي تحمل على تطوير الذكاء والتمسك بالحقوق، والإشكالية الحاصلة في فكرة المدنية وعدم حصولها على الانتشار الكامل على جغرافيتها تكمن في التكاثر السكاني والأنا الفردية، والتعبير المدني الدقيق لا يعني التخلص من الزراعة والتمسك بالصناعة والتجارة، إنما يسعى لتطوير الزراعة والأرياف، وهذا ما عرقل عملية الانتقال النوعي للأسلوب السوري الذي مازالت تسيطر عليه الأفكار الروحية، حيث مازالت تدمج بين الآلة والإله ومقتضيات كل منها (آلة... إله) وهنا أيضاً علينا أن نفرق بين أبناء الصحاري والقفار وأبناء الخضرة والماء، أي بين أبناء القسوة وأبناء اللين، فالذي توحش من الطبيعة التي عاشها ومهما اشتغلت عليه فكرياً لا يمكن أن تحصّل منه إلا القليل من التطور، في حين تجد الآخر متشوقاً للتطوير متقبلاً للتفاعل والتعامل مع الإبداع وأدواته، ولذلك كنا ومازلنا نرى السوري يتموضع على ضفاف الأنهار أو الشواطئ والمناطق القريبة منها، الأمر الذي هيّأ له نضجاً للتكوين وبناء الروابط المكانية والزمانية.

الأسلوب السوري لم يرتبك طوال مسيره، ولم يستسلم لليأس المحفوف بالمخاطر؛ بل كان عنيداً في اجتيازها، تعثر في محطات كثيرة، إلا أن بعضه المجتهد تفوق على المتكاسل والمنحرف، لذلك كان النجاح حليفه، وأهم أسباب ذلك أنه براغماتي، يعرف كيف يتكيف مع الظروف والخروج من المآزق مهما كانت قاسية، لأنه ربط المسائل والحلول بالعقل، واعتبر أن ربطها بالغيب ليس حلاً لها.

من ذاك الموغل في القدم الذي تشكلت منه الحلقة الأولى من البناء السوري، حيث تعلم من خلاله بناء الحلقة الثانية وتداخلها معها، وهكذا استمر ليقول عنه العالم: إن الحياة لم تنقطع عنه، ولم يخلُ بناؤه منه، فاستمر كآبده المعيش، ليسطر تاريخاً للحياة، وكما تحدثت حمل التفاؤل وخيبة الأمل حيناً آخر، رفع النجاح وتعلق بالأمل، إلا أنه لم يستسلم يوماً للفشل، وما مرَّ بالسوريين في زمننا الحاضر أدى بهم إلى أن يدركوا ملياً أسلوبهم التاريخي، وأن يراعوا قيمه، ويتجهوا إلى ترميمه بعد أن أصابه الكثير من التآكل بفعل الانقضاض عليه، فليسرعوا بإعادة بنائه، لأن جوهره مازال قوياً ومتيناً، وهذا ما لا يرغب فيه العالم المحيط، لكن بالإصرار يصل إلى النهوض والانطلاق من الحاضر إلى الغد.

د. نبيل طعمة