إعمار الأخلاق

إعمار الأخلاق

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١١ ديسمبر ٢٠١٨

مسؤولية من تحوّل المجتمع إلى غاب؟ مؤكد أن هذا يحصل عندما تغزو الميوعة الأخلاق، وتتآكل بعد ضياع الأمانة وانهيار القيم وتشرذم الذمم، وتضعّف الهمم، وينتصر الفساد حينما تظلم العقول وينطفئ ضوء القلوب، ويستبيح الظالم المظلوم، ينتشر الظلم فلا من رقيب ولا من حسيب، وتغدو العدالة مختطفة من الإقطاع السياسي العالمي الذي ولد الإقطاع الاقتصادي الدولي، ومن ثم انتقل إلى القطري وفيما بعد إلى الفردي، بعد أن تم ولعقود ضرب الإقطاع الزراعي وأشكاله اللامرغوبة وظهور النقابات العمالية والاتحادات الطلابية والفلاحية وغرف التجارة والزراعة والسياحة والمقاولين، إضافة إلى تراكم الأحزاب السياسية التي لم تجتهد من أجل أن تكون الحوامل البانية، والتي تعتبر العمود الفقري للمد الجماهيري، هذه التي ينبغي أن تعمل على جغرافية وطن كخلايا نحل متفقة أو مختلفة، غايتها واحدة هو بناء وطن وتعزيز وجوده، إلى جانب مظلة السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

كل هذه التشكيلات الأكثر من مهمة، التي من المفترض أن يكون عملها أكثر من دقيق، نرى فيها تفلتات مركبة، تنبئ عن خطورة ما نسير إليه، بدلاً من أن يكون لدينا الانضباط والإيمان بأن هذا الوطن هو وطن الحياة التي لا تكون إلا من خلال الانسجام في العمل. كي يحدث التطور والتقدم دائماً اتجهوا إلى الحياة بنظرة جميلة شرط أن تكون في الاعتبار النظرة الأخيرة، لأن هذه النظرة هي التي تولد فيكم الطاقة وقوتها، لأنكم إن حولتموها إلى اعتياد، فلن يكون هناك أي نشاط، أي بحث، أي تقدم.

لقد غدا الانفلات رهيباً، ووصل إلى حد نفي الأخلاق، فقيل ما قيل عن واقعنا الذي حمل الصح والخطأ، ودخل عليها (عليه) الغريب والقريب، ظهرت معادلات معقدة قوامها اللاأخلاق، وسادت ثقافة التدمير، ما هذه الثقافة التي حضرت؟ أهكذا نحن؟ كيف سنمضي إلى الأمام؟ هل نستطيع التقدم بلا أخلاق في عالم التعادل؟ الإنسان بمفرده قليل، لا يستطيع التقدم رغم قدرته التي تتجلى في الحفاظ على وجوده، إننا نعيش في عالم يدمر نفسه بنفسه بفعل عقلية الحماية والتعدي والسطو، والمنطق يقول: إنه من المستحيل، بل من الصعب هذا الذي وصل إليه التذبذب العالمي، والذي دمر العمليات الأخلاقية برمتها، وهنا أشير إلى أن الحفاظ على الاستقامة السير إلى الأهداف بأخلاقية نوعية، ومن ينجح فمؤكد أنه صنّع له الكثير من الأعداء الذين يأخذون على عاتقهم عرقلة قيامه ومسيره أو إفشال الوصول إلى ما تصبو إليه المجتمعات. من يبالي؟ من يدرك قيمة وطن يمتلك حيزاً من الأخلاق؟ من يضيف؟ من يأخذ على عاتقه فلسفة البناء والإعمار؟ هل كل من يبني يمتلك الأخلاق؟

هل أصبحنا وأمسينا في حاجة للعلاج من مرض اللاأخلاق؟ من يقدر على إنماء شيء من لا شيء؟ ونحن ليس لدينا شيء واحد بل أشياء، وإذا كنا حقاً نمتلك الإيمان، فما معني أن تضيع من قلوبنا الفضيلة؟ أم إنها تحيا متقلبة بين صنوف الحرمان اللاأخلاقي الذي أخذ بها إلى النهم المادي والجوع الجنسي المؤديين حتماً إلى هدم الأخلاق ونتائجها متماثلة مع مخرجات الحروب المتمثلة في الدمار والقتلى والجرحى واللقطاء، هذه النتائج التي تودع فينا لغة اللهاث خلف بعضنا، وتدخلنا بذلك منظومة العذابات التي لا يمكن علاجها بسهولة، كيف يحدث اختلال التوازن بين العيش والحياة وضياع فهم الدنيا؟

سآخذكم معي إلى هذا الملمح الذي يدلنا على المشتركات الأخلاقية بين الإنسان والحيوان المولودين من ثنائية الذكر والأنثى، فالحواس الخمس متوافرة تماماً بينهما، كما هو حال الغرائز والميول، وأيضاً الدوافع للقتال والدفاع والهجوم والخوف والجنس واللعب والأمان والحرية وحتى في الأمزجة، إنهما يلتقيان في الدرجات الدنيا، ويختلفان في الدرجات العليا؛ أي حواس العقل والنطق، وأيضاً في الوقوف والحركة، فالإنسان عمودي يتحرك أفقياً، والحيوان أفقي يتحرك أفقياً، إذاً ما الذي يجعلنا بشراً نسعى للوصول من جديد إلى إنسانيتنا التي تكمن فيها جملة الأخلاق؟ فما يتميز به الإنسان عقله الذي يرسم حياته، وقدمه إلى أين تقوده، ويده وما تبذله أو تأخذه؟

ألا تعتقدون معي أنه بقدر من الحب وامتلاك جزء أو بعض من فنون الثقافة نواجه الحياة بأفراحها وأتراحها؟ وهل يقدر الإنسان أن يحيا بلا حب؟ ألا يشكل لنا دافعة مهمة للفضيلة؟ وأن جميع قصصه وعلى اختلاف أسبابها ونتائجها تعني قصة الإنسانية، ولولا وجوده، أي الحب فيها لما تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، لأن الحب يعني التهذيب في المفهوم الميثولوجي، حيث يختص بجملة آداب السلوك العامة التي تحتاجها الحياة لاستمراره فيها.

إن ما يمر بالإنسان وهو يعد سنوات حياته لا يذهب بدداً أو ينتهي سدى، وقدراته على صناعة المستقبل واستقدامه والوصول للحياة فيه لم تكن عبثاً، لأنه قادر على الرجوع إلى الماضي من الحاضر ومزجه فيه أو فرزه عنه بعد مشاهدته عقلياً لقدراته على الحياة، يأخذ به إلى الغد، لأن تذبذب الحياة بين الأزمان الثلاثة أكسبته حيويتها التي من دونها لكان حاضره ضاق عليه، وسعى للتخلص من وجوده، وأيضاً لولا كل ذلك لما سارت الحياة إلى الأمام، لذلك نرى أن الإنسان اختصر في حياته تاريخ الحياة الكونية، أسكنها في عقله، جمع فيه كل ما مرت به من حقب وأطوار، شملت النمو والتطور الفكري والحضاري، كل هذا كوّن جيناته وطباعه وخصاله، فكل كائن حي ينمو ويتطور سلباً أو إيجاباً، ولا يتوقف هذا النمو والتطور إلا عندما تتوقف حياته.

هل سألنا جوهرنا كيف بنا نولد النور لوطن الحياة بعد أن سادته ظلمة مقيتة كادت تصيب منه مقتلاً؟ ألا تقول الحكمة: إن النور يلد من الظلمة، وتتشابه مع المقدس المكنون فيه، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) أي إن على الإنسان أن يحيا الظلمة، ليدرك قيمة النور، فإذا بغى وطغى وفسد عاد إلى الظلمة، ليتقلب في مآسي الظلمة، وها هو قائد الوطن ورئيسه يأخذ بأيادي أبناء وطنه من الظلمات إلى النور لحظة أن دعا لمكافحة الفساد بإصلاح القانون، أي إنه يريد أن يكون وطنه وطن المواطنة، والمواطنة لا تقصي أحداً، لأنها تدعو الجميع للانخراط في بناء وطن، فها هو قائد الوطن يعلنها جهاراً ونهاراً، إني رئيس لجميع المواطنين متفقين ومختلفين، مؤيدين ومعارضين، شريطة أن يكونوا مواطنين مؤمنين بالوطن، وحينما يصل الجميع للإيمان، ويدركون معنى أن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، ندرك أن المؤمن الأول هو الله، والمؤمن الثاني هو الإنسان، لأن من أسمائه الحسنى المؤمن، فهو السلام المؤمن المهيمن، نقلها إلى إنسانه، وجعله خليفته، وها هو سيادته يتحدث بلغته عن الإصلاح وضرورة تطوير الفرد المسؤول لأخلاقه وخضوعه للقانون، وأن يؤمن بوطنه ويندفع لحمايته والذود عنه بالعمل المخلص الذي به يكون الخلاص، وكثيراً ما كتبت بأن الخلاص لا يكون إلا بالإخلاص الذي يبدأ من جوهر الإنسان، ويظهر عليه سلوكاً ومنتجاً.

الإنسان مبني ويبنى بحكم الطبيعة، إنما فكرة إعماره هو الهم والأهم، فهل نتجه إلى تحديد المسؤوليات، ونأخذ بالمهام المنطقية لإعمار الفكر الإنساني، فننجو من كامل مسوغات ما يطلق عليه الفساد والإفساد والمفسدين في الأرض؟

د. نبيل طعمة

.