صمود الثقافة

صمود الثقافة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٥ يناير ٢٠١٩

رغم الانهيارات الكبيرة في الجسم الثقافي الهائل وانكشاف سواد معتلي سروجها وسقوطها أمام رعاتها وهالتها ومشاريع استسهال حضورها، ومن ثم العمل الدؤوب من أجل بقاء إشراقها والفسح للمهتمين بشأنها متابعة مهام تطويرها، وبسبب كونها صيغة وطنية مرئية ومسموعة ومحكمة من شفاه وطن، وهي تخص أفراداً ومجتمعات ودولاً، فإننا مدعوون لفهم تركيبتها القائمة من مبادئ الجذور التاريخية، تتناقل الأجيال خصوصيتها التي تشعر حامليها بثوابتها التي تراكم الواقع الذي يدلنا على الاقتراب من حقيقتها.
المؤكد أن مهمة الثقافة تمثل عبقرية أي نهضة، لأنها تجسد روح الصراع بين المثل العليا وواقعية الحياة، ناهيكم عن قدرتها على تحطيم مأساتي الطموح المستهتر والغيرة القاتلة، وتأخذ بالمرء إلى رؤية العالم كما هو، لا كما يتوهم وجوده الفكر اللاعاقل، فهي التي تشد شعوب الأرض إلى وحدتها الإنسانية التي تنهي الكره، وتكشف دعاة الحروب والاستعمار، تفرزهم لأنها تبحث عن التألق الصادق والحب الأمين، لأن أي تقدم للثقافة يعني تقدماً للشعب، وكلما تقدمت ثقافة المشهد انحدرت الخرافات، وقلت المظالم وتعزّز التفاؤل وتطور الأداء، وظهرت عليه لغة الجمال الجاذب، فتغري الجميع، وتدافع عنهم بقوة أمام المحاكم الإلهية والوضعية، وهنا يتجلى نظام قوتها، فهي تخلط منجزات العالم القديم بما أنجزه العالم الحديث، ليظهر علينا الغرام ضمن الأدب والثورة على القديم بفعل الحداثة وحقوق الإنسان أو الحقوق الإلهية التي يدعيها الأقوياء، بأنه منحها لهم، إنها تخترق بحور الأديان ومفاهيم السياسة والساسة وتهاجم المتكالبين على الحياة الراغبين دائماً في السطو على وداعتها وإرثها النوعي الجميل.
قد تتنازع الثقافة أحياناً في شخص المثقف، تثور مزبدة نعم، تحنق على ما تراه من خلال ما تحمله من لغات اجتماعية جميلة ولبقة، وحينما يتعذر التوفيق بين ما تراه وما يؤمن به تصيبه باضطراب، وتفقده توازنه، فإما أن يخرج من واقعه الذي يعتبره دوناً، وإما يكون في حدّ ذاته دوناً، لأنه لم يؤمن يوماً بثقافته الوطنية التي حمته، إلى أن ظهر كمثقف بين مجتمعه، وهنا نوجه إلى أن أشعة الفكر الثقافي ثاقبة، تفيد كثيراً العقل الواعي وما يمتلكه من عمق ثقافي، فتجعله يصمد أمام أي حدث فجائي؛ بل أكثر من ذلك تأخذ به إلى عمق الحدث، وتمنحه فرصة التفاعل معه والإسهام الموضوعي في إصلاحه أو تعزيز وجوده، فالثقافة لا تقبل الشخصيات المزدوجة، لأن حامليها مؤكد ساقطون على سبلها، ولن تلتقطهم أبداً، ومادامت الثقافة ترعى الفنون السبعة «العمارة والنحت والرسم والموسيقا والمسرح والرقص والسينما»، وتعمل على تطويرها والحفاظ على الإرث المتنوع والموروث الجيد والأوابد التي تحكي تاريخ الحضور وأسباب حضورهم فهي قوية فاعلة، ولحظة أن تهتز هذه الرواسخ يبدأ تفعيل صمودها أمام الهجمات التخلفية التي تريد تجهيل المجتمعات، فالثقافة على تضاد مع الجهل والتجهيل والقتل والتدمير، لأنها تمثل أنوار العقل وانعكاساته على الظلام والظلاميين، تحيا في النور وتحت أشعة الشمس، فلا تخفى على أحد، تريدنا أن نأخذ بها كي تتحول حياتنا إلى أكثر من طبيعية، وتصبح واقعية ومتجذرة مستقرة وخالية من مظاهر التدليس والمكابرة، وللأسف إن المعادين للثقافة الحقيقية حاولوا تقسيمها، فغدونا نسمع ثقافة الفساد، وثقافة المعارضة، وثقافة المسؤول، وثقافة العدوان، وثقافة الرشوة، وثقافة الثورات، متناسين أن الثقافة لا تعترف إلا بثقافة الإنسان الوطنية التي تتجانس مع الإنسانية أينما وجدت.
هل نستسهل لقب مثقف والكيفية التي يصل إليه، وهل يعتبر الثقافة برجاً عاجياً يسعى إليه، ومن ثم ينفصل عن مجتمعه؟ هل الشكل ينبئ عنه أمام ما ينطق به ويعبر عنه أسلوبه؟ هل إذا أجدنا حفظ بعض من لغة المنابر الثقافية العالمية نغدو مثقفين، أم يجب أن يكون للمثقف هوية وطنية تصبغه بها أولاً وأخيراً؟
هل الروائي والقاص والشاعر والنحات والممثل على خشبة المسرح أو الدراما أو السينما مثقف أم متخصّص؟ وهذا ينطبق على رجل السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع وغيرهم، إنهم تخصّصوا في منحى، ومن الضروري أن يكونوا مثقفين، كي ينجحوا في تخصصاتهم، وإلا تكن حياتهم وأفعالهم وظيفية لا حياة فيها، فالثقافة حياة وروح وحب وخدمات فكرية، وصمودها وتفاعلها يدلان على حيويتها وتألق مجتمعاتها، هذا يقودنا إلى أن نسأل: هل لدينا ثقافة؟ نقول أجل ولدينا ثقافة ومثقفون، ومجتمعنا خلاق بعيداً عن مدعي الثقافة وما أكثرهم، وسوادهم كشف عنهم الغطاء، فظهر عريُّهم الانتفاعي فقط، وأسقطوا أنفسهم عند مفارق الواقع الوطني الذي من المفترض أنهم تأسسوا عليه، ونهلوا من مشاربه، فغادروا إلى خانة معاداة الثقافة وقناعتهم أنهم أخذوا الثقافة معهم، ولم يدركوا حجم وقوة الثقافة وصمودها ضمن أعتى الظروف، وأن صمودها مبهر رغم التعتيم عليها إعلامياً نظراً لانشغال الإعلام في اعتقاده بما هو أهم، أي بما أسقط على الأمة من أزمات خطفت أضواءه إليها، من باب أن الإعلام تنفيذي وناقل لسياسات تمتلك جداول الأولويات من دون الانتباه إلى أن الثقافة -ماضياً وحاضراً ومستقبلاً- تمتلك المبادئ والقيم والمثل التي تدعو الجميع للتمسك بها، ناهيكم عن سعيها الدؤوب للحفاظ على وحدة الأمة من خلال الحفاظ على لغتها الجامعة وأرضها المانعة ومقاومتها لكل أشكال التشرذم، فهي تمتلك أدبيات بناء الجسور الاجتماعية، تمدها فتعبر البشرية عليها محدثة الاتصال المباشر وغير المباشر مهما تعددت الألوان واختلفت الأفكار.   
إذاً ما أهم معوقات حضورها أو منع انتشارها أو حصدها للنتائج الخيّرة، ومن معرقلو تقدمها؟ وما دور الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ناهيكم عن وسائط التواصل الاجتماعي؟ من المسؤول عن تقدم الثقافة وتراجعها؟ ألا تحتاج إلى الإعلام لكونها تقدماً للحياة بكل أنواع الإبداع وجماليته؟ وحينما يقصّر الإعلام تجاهها فكيف يكون حالها؟ ألا يجب أن يكون الإعلام من أهم مناصريها، إضافة لمهامه التنفيذية؟ كيف يتم التعامل الإعلامي مع مفردات الثقافة التي تمنح الجميع ليالي جميلة، وتعدهم بانبلاج يوم جديد يضجّ بالحياة والحب والمغامرات عبر القصص الشعبية والروايات المتقدمة والفلسفة التحليلية، ومن خلال سيناريوهات الدراما والسينما وجمال العمارة ورهافة الموسيقا وصورة المسرح ومداعبات الحب النوعي بين الأجيال على اختلاف أعمارها.
من يحارب الثقافة يحارب الحياة، والحياة قوة قاهرة، ومن نحن كي نحاربها؟ من ينقلب على الثقافة لا منطق له ولا إيمان، بأي شيء ممكن جداً أن يعترف الإنسان ويقول إني لست مثقفاً، لكن أبداً لا يمكن له أن يدعي بأنه عليها، لأنها سرعان ما تكشفه، وسواد مجتمعنا حتى اللحظة لا يعرف ماذا تعني الثقافة، وكثير أيضاً من المثقفين إذا دققت ودخلت عليهم لا تجد أي إشارة إلى وجود حالة ثقافية في بيوتهم، وربما تجدهم ميالين للتديّن؛ أي مناهضون لأي مشروع ثقافي، ونجدهم يستخدمون لغتها باستعارات مفرداتها، ويجسمونها ويطرزونها على مقاساتهم، ويصلون إلى حدّ البلاغة والشعر، ولكثرة ما يرددون أنهم مثقفون يغدون أقرب للواقعية.
بعيداً عن كل ذلك، أكثر من ضروري تعاون الإعلام مع الثقافة، وصحيح أنها صمدت ضمن الأزمة، وانهار الكثير من مدّعيها، وغاب الإعلام عنها لانشغاله بالأحداث، إلا أن تطويرها وتقدمها يحتاجان إلى إعلام مهتم حقيقةً بها، ومنها نجد أهميتها في تطوير مجتمعنا وأسرنا وأفرادنا نتيجة دخول الإعلام إلى كل زاوية من زوايا البصر، صمود الثقافة يؤسس دائماً لثقافة الصمود.

د. نبيل طعمة