دع الكلمات تتدفق

دع الكلمات تتدفق

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢٦ فبراير ٢٠١٩

مؤكد أننا لا نكاد نفهم كل شيء من بعض المتكلمين؛ قادة، ساسة، مفكرين، مبدعين علميين أو من عامة الناس، ذاك الفهم الدقيق النافذ، إلا إذا فهمنا أطوار حياتهم، فنربطها بتجاربهم الماورائية وأحلامهم التي يريدون أن يصلوا إليها، فندرك إلى حدٍّ ما غاياتهم، وما عانوه من صدام وصراع مع واقع الحياة، وينبغي أن تعنينا لغتهم التي تكشف عن البواعث والولائد المستترة في قرارة كل نفس منهم للعنصر الوجداني الذي يخرج من خلال ذلك إلى عالم النور.

هنا تجدني أطالبكم بأن تفسحوا للكلام السبل، وبعدها قوموا بفرزها، أتلفوا السيّئ من مفرداتها، وطوروا القابل منها للتداول، حافظوا على الجيد الثمين، وارموا بعيداً الغث والرخيص، لأن اللا مفيد في الزمن الصعب يفني المفيد.

كنا ونحن أطفال دراسة مطالبين أسبوعياً بتقديم موضوع تعبير، وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي (ابتدائي وإعدادي) وتحته تنضوي مئات بل آلاف العناوين؛ أي عَبّر عن رحلة قمت بها مع الأسرة، مع المدرسة، أو علاقتك بالمدرسة وبأصدقائك، أو كيف تعيش في بيتك؟ عن الحب والعواطف والجمال والنظافة والعمل والأحلام والمستقبل، وماذا تريد أن تصبح فيه؟ عن الوطن والعلم والذود عنه والرياضة والمطالعة وأجمل قصة قرأتها أو سمعتها، واللوحة الفنية التي تجذبك، عن الربيع وأزهاره وحرّ الصيف وثماره، عن الخريف وحفيف الأشجار وتكسر أوراقها اليابسة تحت أقدامنا الصغيرة، وعن الشتاء برده وثلجه ورياحه وأمطاره، عن دفء بيوتنا الصغيرة، وعن مسارنا من البيت عبر الحواري والأزقة، وصولاً إلى المدرسة، عن قصص الأجداد؛ أعمالهم، مهنهم، حبهم، غزلهم، بطولاتهم.

إن كل أنواع الكلام ما هو إلا حالات تعبر عن شيء؛ طلب أمر خطاب توجيه حزن فرح حب ألم رفض قبول.... إلخ، لذلك كان معلمونا الأوائل يقولون لنا: دع الكلمات تتدفق، وكنا نشغل أهلينا معنا، ونحن نعد الموضوع رغم قوة الآباء أو بساطتهم وعطف الأمهات، إلا أننا كنا ننجح بعد عرضنا للمواضيع وإصلاحها من المعلم الذي يهذبها ويشذبها، كي تغدو لائقة، ويكتب على دفاترنا: «ضعيف- وسط- جيد- أو ممتاز» والذي لا يجيد يعنّف مع مسطرتين على باطن الكف، كم كان هذا نوعياً ومهماً، وأدعو لتفهمه وأكثر، أي العودة إلى إعلاء شأنه، لأنه في زمن المآسي نحتاجه أكثر، قد يقول البعض هناك الأهم، ربما وإنما ليكن استمراره، ولتكن المواضيع عن الوطن والجيش والتضحيات والقومية والعروبة والجرحى والشهداء والفداء والبناء والمقاومة والتخلف والتبعية والافتخار والسيادة والإيمان بالنصر بعد التمسك بالعمل والعلم والنظافة والثقافة، وعن بناء الحياة وحبها، والحوار بدل العنف، من خلال فهم بناء الأخلاق وتعميق فهم الإيمان من أجل الإيمان بالله، بالأرض وما تخرجه وما يدب عليها، وصولاً للإيمان بإنسانية الإنسان التي تأخذ بنا للإيمان ببعضنا بعيداً من أي مذهب أو معتقد.

الكوارث تقرب الناس من بعضهم، لأنها تحيا التجارب وتخوض المحن معاً، دعونا نبحث عن الأشياء التي تزيد في الإحساس، وتحسن المشاعر في الحب للوطن، للبناء، للوفاء، للأداء والانتماء والولاء، رغم حدوث الانقسام الدائم بأن في هذا الوجود ثنائيتين لا ثالث لهما، الله والشيطان، الخير والشر، الحرب والسلام، الحب والكراهية، الداء والدواء، إنه عالمنا وهو خطِر جداً من أفراده على أفراده ضمن أوطانه أو خارجها، هل تحيا الشعوب وفي داخلها نَفَسُ الحرب؟ أم إنه تم اختيارنا للحروب التي يجرونها على أراضينا وتجريب أحدث ما توصلوا إليه من أدوات التدمير وزيادة القتل وإرادتهم قتلنا جميعاً، لكننا قبلنا التحدي، ونجحنا إلى حدٍّ كبير حتى الآن رغم ما نحياه من صعاب، فهل يمكننا رؤية الصواب؟ طبعاً إن كنا مخلصين ننتصر، لا ينبغي أبداً أن تحل الذكريات محل الآمال والتطلعات والأحلام، لأنه إن حدث نكن قد هزمنا، وهذا ما يظهر هَرمنا بالفعل، ويعمل دبيب الشيخوخة في أوصالنا، ما يعني أننا نسير على سبل العجز، نريد أن نؤوب إلى الحياة، كي نصنع لها بعد أن نتعلم كل مبهج جديد.

لنرمِ جانباً سيَر الأرواح الخاطئة، وما جلبته من أحزان، ولنتمسك بالحب، فقد يتحدث البعض عن الحب بأنه مسألة بسيطة وربما ساذجة، ويقولون كفانا ما عانينا آلام الخطوب التي حلت بنا، وأنا أقول لكم: التألم الذي أصاب جميعنا ولّد القدرات على الصمود أولاً، والاندفاع للتخلص مما أصابنا ثانياً. من منا لم يَسِرْ خلف الشهوات المحمومة؟ ومن منا لم ينجرف سائراً وراء الشيطان، وقضى أوقاتاً تناهبته بين الخطيئة المادية وحواف الخمر أو الميسر، أو في أحضان النساء؟، ومن منا لم يفرَّ في لحظة إلى صومعة فكره النائية بين خبايا رأسه، ليتزهد ويتعبد بالصلاة والاستغفار وتلاوة الكتب المقدسة سعياً وراء الوصول إلى الإله؟ من منا لم يخطر بباله الشذوذ والانحراف عن الصراط، أو حلم بممارسة كل أنواع العهر بعد أن يخلع أثواب التألق والتملق والسياسة والمال وإرادته التعري من كل شيء؟ ربما هي غرابة الأطوار البشرية في نزعتها للتمرد بعد الوصول إلى نهاية أي شيء، تحيا فاصلاً كي تبدأ من جديد رحلة اللهاث وراء العيش والحياة وما بينهما برزخ لا يبغيان، وبعد أن لفظنا مفهوم التعايش القسري وحتى الودي منه، لأنه يحمل الفرقة ويقبل القسمة، وجَسّدنا فكرة العيش التي تعني اللهاث خلف لقمة العيش، أي رغيف الخبز المصنوع كالعجلة والكهرباء والماء والوقود والغاز، علينا أن نتجه إلى فكرة الحياة، وهي أهم ما في الوجود، حيث تعني العطاء والإنتاج والإبداع والتمتع بصنع الحياة الجمالية، لأنها حقيقة الحياة.

أزح الخوف من فكرك مادمت ممتلئاً بالحب، لا رقيب ولا عسس سوى حبك، فالكلام سرّ هذا الوجود المحجب قديماً وحديثاً، ماذا يحول وأيان منتهاه؟ فكثيراً ما وقف هذا الإنسان واجماً مبهوتاً باحثاً عن لغة يركبها، كي يتحدث عما سكنه من رؤى، فهو خلق مستمر، وامتداد من عالم الحرية إلى عالم السرمدية، آونة قاتمة وآونة ملتمعة، حيناً تنقبض النفس وحيناً تجدها منارة، فتأملوا معي، إن تدمير أي بلد لا يحتاج إلى نووي أو بث نوع من الأمراض البيولوجية، إنما يكفي قتل القدرة على التعبير بين أبنائه أو تخفيضها والسماح للغش أن يستشري، حينها ترى أن الأشجار لا تموت واقفة، بل توئد نفسها بنفسها، وتعم الفوضى، وينتشر تشويه الجمال، ويفقد القضاء مصداقيته، ويرى الآخر انهيار الدولة، فيفرح ليبتسم فكره، لكونه حقق ما أراد الوصول إليه أو العبث فيه، فهل ندرك ذلك؟ مواضيع يجب تلافيها بالسرعة الممكنة، مادمنا نحيا صراع المصطلحات التي تتناهب حاضرنا، ونسأل: كيف نعبر عن علاقة الدولة بالدين والدين بالسياسة، ونفرق بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، بين سمة العرب ومفهوم العروبة، بين الأخلاق والتدين، بين الاشتراكية والرأسمالية، بين الإلحاد والكفر، بين الإيمان والأديان، بين الحب والجنس، بين العطاء والأخذ، بين الإيثار والتبرع والتطوع؟

مواضيع للتعبير أتمنى أن نجيد بناءها، كي نصل إلى علاقة المواطن بالوطن، والفرد بالأسرة، والأسرة بالمجتمع، والمجتمع بالدولة خاصته.دع الكلمات تتدفق وتعبر عما يجول بخاطرك، وقم بتقويمها أو استعن بصديق أو رفيق درب يسير على دروب وطن، تحصد من خلالها حضوراً، وتبني وجوداً، وترسم على جدار الزمن لغة حميمية، تمتن العلاقة بينك وبين من تحب.

د. نبيل طعمة