الحل في العروبة

الحل في العروبة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٢ مارس ٢٠١٩

حاضراً ومستقبلاً، وإعلاء شأنها لا يتحقق بالمنطق الجامد، بل بالقيامة التي تأخذ بنا وبها إلى الأمام، وبما أننا نحيا في زمن يخيم عليه القلق والخوف، ويشكل منهما انحرافاً فكرياً مرعباً، لأن ما يحيط بهذه الأمة المتنوعة المذاهب والمشارب أكثر وأكبر من الخوف ذاته، لذلك أرى أن الحيطة غدت أكثر من واجبة، إن أردنا الاستفاقة مما نحن فيه وعليه، وخوف الأفراد والمجتمعات الدائم يعني عداءً للتطور والتنمية، لأنه ينطوي على التغيير والتجريب والتبديل، ومع تطوره يبدأ المرء مرحلة القلق وعدم الطمأنينة، ما يأخذ به للتمسك بما هو واقع، أو يعود إلى استذكار الماضي وتوهانه فيه.
هل الأمان يتحقق في قبول السكون والجمود وعدم التطور، ونحن نرى أن الكل يتطور؟ ألم ندرك أن القيم والمفاهيم والمقاييس تتبدل من جيل إلى جيل، وأن ما يصلح لزمن ما، لا يتوافق مع زمن آخر؟
حينما نتحدث عن العروبة بأنها قائمة من المعنى والمغزى اللذين يمثلان قدرتها على التطور ومحاكاة الزمن مع إدراكنا بأنها ليست حالة مثالية، إنما كائن متطور بشكل دائم، فإن ذلك يوضح أنها تعي الظروف والحالات الخاصة والعامة والتطورات الحاصلة بين مجتمعات الأمة، فهي لا تمتلك دستوراً كي تفرض حضورها، ولا شكلاً نهائياً كي يُسَلّم العرب به، إنما هي أسلوب من أساليب التطور والنمو وسبيل من سبل الحياة التي تدعو الأمة للسير عليها، وغايتها تحقيق الوصول إلى الرشد والرشاد ونوع من أنواع العقائد الإنسانية التي علينا العمل لتأصيلها في فكر الفرد، لتغدو قيمة من قيمه، وفي الوقت ذاته، أصبح لزاماً على القيمين المسؤولين عن شؤون البلاد فرز الوطنيين العروبيين عن المتأرجحين بين هنا وهناك، وأن الذين يرفعون صوتهم من أجل الإصلاح والإشارة إلى مواطن الخلل، لا يجب وصفهم بالمتآمرين، أو اتهامهم بزعزعة المجتمع والدولة، فالذي حدث مع بلدان العروبة الحقيقية عبر عقد من الزمن ليس بالأمر السهل، ويجب أن نكون استوعبنا ما يريدونه، وأهم ما يطلبون هو الخضوع والانجرار وراء التبعية والاستسلام، لا الذهاب لتعزيز الاستقلال بالبناء وتحصينه.
إعلاء شأن العروبة وامتلاك قيمها يولدان في أفراد مجتمعاتنا الحرية النوعية، ومن ثمّ ينهيان مفهوم العبودية والاستبدادية، فإن أدركنا ذلك وصلنا، وإن بقينا نطرحهما هكذا كخطاب رصفت كلماته من حجارة صماء فسيهابها المجتمع والأفراد، من دون السعي لامتلاك أدبياتها وبقائنا بعيدين عن أن الإيمان بأن الأجيال قادرة على توليد رؤى خلاقة، فهي تحتاج للفرص والتوجيه بالشكل الصحيح، فنأخذ منها حياة وقوة وصلاحاً.
تابعوا عن كثب أعداء العروبة والكيفية التي يعملون بها، يخططون ويبرمجون أجيالهم جاهدين لضرب جوهر العروبة، لذلك أجد أن سعة الفكر ومرونة التعامل تفسحان المجال أمام المستقبل الذي طالما نتحدث عنه، وأنه يخص فقط القادرين على النمو والتطور ومقاومة أساليب أعداء العروبة الذين أرادوا أن يدفعوا بالعرب إلى البطش ببعضهم، وعلى أفكار مثلنا العليا ومبادئنا، وأن نتراجع عن خوض المعارك قبل أن تبدأ.
لقد تعامل عالم الشمال شرقه وغربه على أننا جاهزون للانقسام كخلية السرطان دائماً، وأن لا راية لنا، وكي يؤكدوا حقيقتهم قاموا بزرع كيان صهيوني تكنولوجي علمي مدني، هدفه الرئيس ليس شطر العالم العربي، بل العمل الدائم لتقسيمه وشرذمته وإلهائه، كي لا تقوم له قائمة، ومنعه من القيام بأي نهضة علمية صناعية، وحتى تحقيق أي رفاهية لأبنائه، وهذا هو الهدف الصهيوني الرئيس الذي يحمل بين طياته قيام الدولة اليهودية في فلسطين، ومن ثم توسيعها لتحقيق الحلم الديني التوراتي المسكون بين النهرين النيل والفرات، مستندين إلى أن إبراهيم النبي يهودي، ظهر من أور سومر على ضفاف الفرات وصولاً إلى موسى النبي الذي ظهر من أحضان الفرعون على ضفاف النيل، هذا يحصل بهدوء ضمن الكيان الصهيوني، وبعنف لا مثيل له على الأرض العربية الذي أشغل الكل، ما أدى إلى امتصاص القوى العربية ونخر عظامها، ولم يعد هناك حضور للبعد القومي أو حتى العروبي بعد نجاح الغرب مع الصهيونية وأدواتهم العربية في تدمير أفكار النهضة العروبية والإصلاح ومعالجة الكثير من القضايا، وأهمها علاقة الدين بالدولة، وهنا أوضح أكثر، لماذا الحل في العروبة؟ لأن التنوع الموجود في المنطقة يحتاج إلى مفهوم العروبة، كي يبقى متمسكاً بهذه الجغرافيا ومدافعاً عنها وفاعلاً منتجاً عليها، وإيجاد صيغة لموضوع الدين يعني أن العرب وصلوا إلى نقطة الانفراج، لأنهم حتى اللحظة في حالة حرج فكري وتاريخي أمام مفاهيم الأقليات، وما تحمله من مخاوف يدفع بها إلى أحضان أخرى بعيدة عن العروبة، إن لم تجرِ معالجة هذه المخاوف فالعروبة في الواقع والمستقبل يجب أن تكون الحاضنة والغطاء للجميع، وهذا لا ينجح إلا إذا خرجنا من حالات العجز السياسي عن تحقيق الوحدة أو التضامن أو حتى اللقاء على المصالح والرجعية الاقتصادية التي لم تعرف سوى فكر الأنا التجارية، وكافحنا الفساد الإداري المستشري عند الجميع، وأنهينا استغلال مديري شؤون الدين لمريديهم وللدولة، وفتحنا بالعلمية المنطقية بوابة الحريات، ومدنّا الأرياف، وطوّرنا علوم الجمال، واعتبرناها أساساً لتمدن الإنسان وتحضره، فبهذا المنطق نكون صناع حاضر نوعي ومستقبل جديد، لذلك أجد أن تنقيبنا في المشكلات لا من أجل الغوص فيها أو الانحصار ضمن مجرياتها؛ بل هو بحث غايته الاستقرار في الحاضر واستقراء المستقبل وإنارة سبله لجميع الأبناء بمن فيهم الأجيال الجديدة، وهذا يشكل النور الذي ينعكس بعد معالجته من المستقبل على الواقع، فتنكشف ظلماته، ومع إعلائنا لشؤون العروبة نتابع نتائجها، لنرى أنها تسد الفراغات لدى سمة العرب، وتغري المتحركين المقيمين على أرضها، والحاملين لهوية أقطارها، ما يؤدي لاندفاعهم وتمسكهم بهذا النسيج الذي يعلي من شأنهم، فيعودون ليعلوا شأنها، أي العروبة التي تحتاج على عجل فهم العرب والمكونات التي تأتلف معهم، أي تحيا بين جنباتهم لما يحاك لهم، إلى جانب القوميات والإثنيات والأديان المرافقة لدينهم الأساس.
لطالما كانت الغرائز الفكرية باحثة عما تتعلق به، لأن حرمانها من الوصول إلى عمق المفاهيم والمصطلحات يرمي بها في خانات الابتعاد عن الواقع والدخول في التشدد والتطرف، إن حرمان الجماهير من امتلاك مفهوم العروبة يؤدي إلى التقوقع عن كل من يمسك بفكرة قومية أو إثنية أو دينية أو عرقية.
مؤكد أن العروبة هي حلم كل من يحيا على أرض العرب، وما دعوة الرئيس الدكتور بشار الأسد للتمسك بالعروبة التي امتلك مقوماتها بدقة بعد أن حلل الواقع العربي، واستشعر نقاط ضعفه ومواطن خلله وعرف بإيمانه العروبي، إلا تأكيد أن لا حل للعرب بعد كل الذي حصل ويحصل معهم إلا بالعودة إلى العروبة، لأن التجارب أثبتت فشلها، والثابت الوحيد الباقي هو العروبة رغم الاعتراض على كلمة تجربة أو تجارب، وأعني بناء الوحدة وبناء الفكر القومي، وما أصابها من فشل كان نتيجة لعدم حمايتها بالبناء العروبي، فالوحدة لم تأخذ بخصوصيات كل قطر، والقومية لم تنتبه، إلا أن الموروث الديني كان أكبر من أفكارها، حيث إنها لم تستطع معالجة هذه المسألة قبل الوصول لبنائها، وما أخطه اليوم قليل، وأدعو معي الجميع لخوض هذا الغمار ونشره بالسرعة، فنكون قد حققنا منجزاً يصل إليه الجميع بسهولة، لأنه حل مسكون في العروبة.

د. نبيل طعمة