لقاء الأديان

لقاء الأديان

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٩ أبريل ٢٠١٩

كثيراً ما راودني فكري أن أكتب هذا العنوان أمام الذي شاهدته وقرأته وسمعته عن الحديث الدائم في المحافل المحلية والدولية، ألا وهو حوار الأديان، وصراع أو حوار الحضارات، وأؤكد أن لكل إنسان فكره، ولكل دين ثوابته، ولكل أمة تاريخها وثقافتها، وإقناع الفكر ليس بالأمر السهل، وربما غاية لا تدرك.

أدخل مباشرة لأسأل: هل هو حوار بين الأديان والثقافات والحضارات؟ أم هو حوار بين مديري الأديان وحاملي الثقافة والمتمترسين خلف الماضوية الحضارية الآبدة، وبمعنى أدق إنها بين مريدي ومديري الأديان، لا بين المؤمنين الذين لا يحتاجون إلى وسيط بينهم وبين الإله، وهنا أجد أنه من الضرورة تفنيد هذه المعضلات التي تسهم إلى حدٍّ كبير بجرح مشاعر الإنسانية الخلاقة، التي أسست منذ بدء الخليقة على الإيمان والعمل والإبداع، ومن ثم أوجدت الاختلاف من أجل تطوير الفكر البشري لا حصره دينياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً وإبداعياً.

نحن أبناء البشرية، ولدنا من أسر الأرض، وغدونا أتباعاً فيها، لما تعتنقه من دين أو معتقد أو فلسفة، ووُجدنا على أرض لها مسمى، ووُسمنا بما تحمله من مسميات بعد تقسيمها؛ أي سوري، صيني، روسي، أمريكي، إفريقي، ألماني، وأيضاً في المعتقد؛ بوذي، هندوسي، يهودي، مسيحي، مسلم، وجودي، ماركسي، وأوقعنا الظلم الذي لا يدَ لأحد فيه سوى أيادينا على بعضنا، ورحنا نضغط به دينياً واقتصادياً، سياسياً وعسكرياً، من أجل الحصول على تنازلات، وكل حوار يجري بين طرفين يبنى على أن هناك خاسراً ورابحاً، فما معنى حوار الأديان، أو حوار الحضارات أو الثقافات؟ وأي حوار يجب أن يخلص إلى نتيجة؟ فهل اقتنع المديرون الإسلاميون بأنّ السيد المسيح موجود على الصليب؟ وهل أيّد المسيحيون فكرة أنه نبي ورفع إلى السماء؟

إذاً نتوقف لنقول ما معنى الحوار؟ والأفضل أن نقول لقاء الأديان، لأن اللقاء ينبئ عن حالة الود أو التودد، عن حالة الإيمان الدقيق لا تَديّن المريد للمدير، كيف بنا نتحاور ولا نلتقي؟ أي نخرج بعجالة، وكل يذهب إلى مركزه، يمارس سلطته من خلال الطقوس التي وثّقها المؤسسون له، من دون أن يجري أي تقويم للحوار الذي جرى، وبعدها نشهد صراعات دينية ومذهبية، طائفية وعرقية، لتعود المناداة بضرورة الحوار، بعد أن يكون كل متحاور قد بنى أسواره، وتهيأ لغزو أسوار الآخر بالدعوة أو بالتبشير، كل لدينه أو طائفته.

عالم يضج بلغة الحوار، والمطالبات مستمرة في غرفها المغلقة، ثرثرات ترينا نتائجها حجم التنافس المحموم للسباق على حصد الفوائد، والمؤمنون مستمرون في الاشتكاء من حجم الجهل، وسرعة انتشار هذه الثرثرات تظهر على شكل مبادرات واقعية، وحتى إستراتيجية، تحمل هدفاً واحداً، ألا وهو تخفيف مشاعر الإحباط والإحساس باليأس.

كيف بنا نتابع الأزمان، ونقارب بين الأمم، ونوحد الأديان من خلال الأعمال الإلهية الكاملة؟ كيف بنا نغذي العقول الشاردة، وما أكثرها، بالعلم والمعرفة التي لم تعد واجباً يومياً، إنما هدف إنقاذي لشعوب الأرض قاطبةً؟ لأن حوارات الأديان والاقتصاديين والساسة ما هي إلا مبارزات غير متكافئة، تحكمها صراعاتٌ، غايتها لفت الأنظار، يمارسها مديرو كل تلك الشعوب التي تنتظر، تأمل، تحلم، تمارس العبادات، بعد أن غدت عادات، وتتناول السياسة من دون معرفة قواعد ألعابها، منشئةً حالة تواكل مرعبة.

هل نحن ضحايا مسيّرون منهم في الحاضر، ولم نخطط يوماً للخروج منها، حتى محاولة مناقشتها؟ كثيراً ما تحاورت مع مديري أديان، وخاصة ضمن مثلث القداسة، الكل يجمع أنّ المصدر واحد، وأنّ الإيمان واحد، وأنّ الدين واحد، لكن الشرائع مختلفة، وكنت أقول لهم: مادمتم مؤمنين بكل هذا، فلماذا تعدّون الذي يخرج من شريعة إلى شريعة مرتداً أو كافراً، وتلاحقونه، وتنبذونه، وتمنعون عنه -إن قدرتم- حتى الماء والهواء؟ كانوا يتوقفون عند هذا كثيراً، وبما أن الكل من أمة إبراهيم، وأنه أبٌ للأنبياء والرسل؛ أي إن المصدر واحد، وأيضاً يقول المقدس إن اختلاف الأمة رحمة، فهذا لا يضير في الأمر؛ بل يؤكد ضرورة اللقاء الذي يوفر للحوار واقعية تدعوه لمناقشة ما أخطُّه.

أسألكم عن الصراع الذي ينتج الحوار، والذي لا ينتج حلاً، هل هو قائم بين الإنسان والله، أم بينه وبين محاوره العلمية والثقافية؟ أم إنه يجري داخل النفس البشرية؟ أم في تخليه عن حقيقته الإيمانية التي دعته للتعلق بالثورة الدينية، وذهابه للتصرف ضمن الصيغ الوهمية، هذه التي أنشأها الإنسان مع أخيه الإنسان، كي يستلب منه الإيمان.

المدير الديني مستمر في طرح الوجبات الروحية الدسمة، ومازالت أنسجة العقل تتشرّبها من ذاك القديم، الذي لم يقبل أبداً إلا أن يبقي عليه، من دون الانتباه إلى أن ثقافة الشعوب أصبحت ضخمة، ترسل أشعتها في جميع الجهات الفكرية، تبحث في أسرار الكون، وما يوجد خلف السموات السبع.

 نحن في مجتمعات تمتلك قبساً ضئيلاً من العلمية، تتجاذبها عناصر ظلامية مستشرية جداً في نفوسنا، وتتقاذفها أهواء مخادعة من مديريها، وبين هذا وذاك تخبو البشرية وتحبو، تشتعل أنوارها الإيمانية، وسرعان ما تنطفئ، لتخرج من خلالها أنوار متهافتة دائمة الاضطراب.

إذا كان هناك من صراع، فهو صراع على الوعي ضد اللاوعي، وهذا ينضوي على مأساة خطِرة، من خلال عدم القدرة على أن تحرز نصراً يظهر من أحد القوانين، فالوعي يصل بالحوار إلى التقارب، الذي يصرّ على حدوث اللقاءات واستمرار وجوده فيها، وخلال ذلك ينبغي أن تشكل اتفاقاً، طروحات يتوافق عليها، تقرّب الأديان من بعضها، كأن تلغي لغة تكفيرهم لبعضهم، والنصوص المسيئة بين الديانات، مثل موضوع الجهاد، ودخول النار، وحجب الجنة، والتبشير والجذب، وتسوير المريدين ومنعهم من الخروج، ومواكبة الحياة ومآلاتها كالحداثة وسبل التواصل. هل استمع أحد منا عبر كل الحوارات إلى هذا، أو إلى بعضٍ منه؟ ما يشير للمجتمعات إلى أن المتحاورين يتحاورون في كل شيء، عدا إحراز التقدم في الذي نطرحه.

إنَّ إحياء رمزية التسامح التي تآكلت مفاهيمها إلى حدٍّ كبير مع النهضة الفنية المتحركة إلى الأمام، والقادمة من الأجيال القابلة للوحدة أمام أي تيار، يخالف تطورها، وينقلها من منطق العنف والتطرف والتشدّد الديني ومناطقه المدارة من مديري الأديان والاستخبارات المتحركة على كوكبنا الحي إلى منطق التصالح والبناء والتسامح.

هنا أسأل كم تبعد مكة عن الفاتيكان، والأزهر عن القدس، وقُم عن دمشق وبغداد؟ إنها أماكن اللقاء والصراع، الحبّ والكراهية، التسامح والتطرف، وهنا أدعو للتدخل وبقوة في أماكن صنع القرار الديني ومنتدياته وحواراته، لأن الحاصل يشكل حالة فراغ، والكل تائه فيه، وكي لا تغزوه أدوات التزمّت والإرهاب المحرك من الديني والسياسي، فتاريخ العصر الحديث شهد ولادة أقسى أنواع التطرف؛ القاعدة وداعش والنصرة، كما شهد أقسى أنواع الاعتداء على دور العبادة؛ كنس وكنائس ومساجد، شهد خلاله القتل الوحشي والإبادة الجماعية واغتيال آباء وأمهات وأبناء وساسة، من المسؤول عن كل ذلك؟ ملوك، رؤساء، أمراء حرب ومديرو أديان، وهنا نسألهم: ماذا فعلوا عبر كل تلك الحوارات؟ وإلى أين وصلوا؟ وبماذا خرجوا على البشرية؟ حيث زلزال العنف الديني المتحرك من الماضي البعيد المسلح بآخر إنجازات العلم والتكنولوجيا العسكرية، مازال يتحرك وبقوة تحت مظلة حوار الأديان وحوار الساسة، لذلك عنونت ما أخطُّه بلقاء الأديان بعد كل هذا القتل والتدمير، لعلّهم كمديرين مسؤولين عن روحانية الشعوب ينتبهون.

د. نبيل طعمة