الخطاب النخبوي..

الخطاب النخبوي..

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٢ أبريل ٢٠١٤

ومن يمتلك قيمة وقوة عنوانه من المفترض أن يلقيه على الجمهرة الإنسانية بعد أن يتمتع بفكره، فهذا الخطاب ينشره كوكبة من أبناء المجتمعات، يظهرون من خلال برجوازي النشأة أو إقطاعيِّ الممتلكات أو رأسماليِّ الفعل، توءمه المفضل: الأديان، أو أنه منتقل من الشعبوية إلى الجماهيرية إلى النخبوية، وسرعان ما ينفصل عن واقعه بعد أن يصل إلى تلك المرتبة، فأفكارها التي تسكن جوهره تجذبه إليها؛ بعد أن تتحكم به من باب التلاعب بمشاريع العقائد الثقافية للمنهج البشري، وتأخذ به بعيداً عن واقعه، تضيّق عليه الحضور فيغدو منفصلاً عن جماهيره، ويلتئم حوله كوكبة قليلة من المؤيدين، يشكلون ندرة تتفهّم التفاعل معه؛ مبتعداً بهم عن الكل الكثيف بحكم صعوبة تفكيك أفكاره.. فخصوصية النخبوي تحوِّله إلى ناقد وناقل في آن، ينضوي تحت هذه التسمية، معتبراً وجوده في القمم ضرورة، ويدور في فلك إدارات الحكم وقياداتها ورئاساتها، بل أكثر من ذلك هو مشارك فيها أو مستشار عندها منطوٍ على بعضه، وغالبية تكوينه من أصحاب الشهادات العلمية والأدبية والفلسفية القادمة من الغرب؛ بشكل خاص والشرق بشكل عام، مؤدلج بطباع تلك الدول وأفكارها مهما حاول إخفاءها تنفلت منه لتدلّ عليه.
فلماذا حدثت القطيعة بين النخب (القمة) والجماهير (الطبقة الوسطى) والشعوب (القاعدة الكبرى)؟ ولماذا لم تقوَ تلك النخب على صياغة أفكارها لتنتشر بين الناس؟ هل لأن مجتمعاتنا العربية لا تتقبل التطور المطلوب فكرياً، أو عدم القدرة على امتلاك نواصيه، أم المطلوب أن تبقى تلك المجتمعات بكافة مكوناتها استهلاكية؟ وفي الوقت ذاته تسير خلف الراعي النخبوي كرعية امتلكت الإيمان النهائي بثقافة القطيع!!
مسؤولية من تلك الهوة التي نشأت مع ظهور الدولة الحديثة؛ أي: منذ نهايات القرن التاسع العشر وبدايات القرن العشرين، وما أطلق على رواد تلك الحقبة في عصر النهضة العربي؛ حيث تجمّعوا ضمن دولهم على شكل نخب، وجميعهم كان من أبناء الذوات: درس في أوروبا أو عالم الشمال وعاد مؤلفاً وباحثاً وكاتباً مفكراً وسياسياً وقائداً امتلك علوم التنظير واكتفى ضمن أبراج فكره، لم يقدر على النزول إلى قواعده، ولم يستطع تطويع أفكاره كي تكون قابلة للتداول الجماهيري والشعبي..
من ذلك نجد أن الشعب العربي في سواده الأعظم بقي على الأرض دون مستوى النخبة، والنخب انقسمت إلى مادي جشع أي عادت إلى برجوازيتها المعروفة من قبل شعوبها على أنها منجبة التخلف والتبعية، والقسم الآخر تقوقع على فكره، غير قادر على الحركة بسبب انعزاله عن مجتمعاته.
صحيح أن هذه النخب قادت عمليات الوصول والحصول على استقلال الدول العربية، وجلاء المستعمر عنها، واشتغلت مع الغرب الاستعماري في المحافل الدولية لتحقيق المنشود، وشكلت دافعة وطنية ضمن فكر المواطنة الحديث النشأة، وقدمت بعضاً قليلاً ونادراً من الضحايا، ووثّقت نفسها ضمن تاريخ الدول كنخب مناضلة ضد الاستعمار من أجل الوصول للاستقلال؛ لكنها بقيت منعزلة تماماً عن شعوبها، والسبب اكتشاف الشعوب لاحقاً حجم الخلل وهول الضرائب التي تدفعها الشعوب؛ نتيجة إذعان تلك النخب وقبولها ببقاء كثير من الاختلالات التي كانت ومازالت السبب في الْتهاب الصراعات بين الشعب الواحد وفيما بين الشعوب العربية، وكأنها حتى اللحظة لم تحصل على الاستقلال الحقيقي؛ حيث التبعية الفكرية للغرب والشرق قائمة في فكر المجتمعات، والنار تحت الرماد باقية ما إن يُنفخ عليها حتى تتأجج.. واستمرت أجيال النخب على ذات العادات والتقاليد التي حملتها تلك النخب، والوافدون الجدد إليها أيضاً حضروا بعد أن درسوا في عالم الشمال، سواء أكانوا مثقفين أم مفكرين أم فلاسفة أم أساتذة جامعات، وهم الذين تتشكل منهم أكثرية النخب السياسية التي تجتمع إلى فكرة الخطاب النخبوي المنفصل تماماً عن مجتمعاته.
مازال الخطاب النخبوي العربي مبتعداً عن واقعه، ومشكِّلاً لأزماته، بحكم أن جميع النخب العربية لم تستطع حتى اللحظة من إبداع خطابٍ نخبوي عربي خلاق منتج من خصوصية تاريخه وثقافته العربية، رابطٍ بين تنوعات وطبقات مجتمعاته، ينبع من جماهيره وخصوصية دوله، عائداً عليها بالمنفعة الفكرية أولاً والبنائية العلمية ثانياً، ولم يستطع النخبوي العربي أن يتخلّى عن نظريات ما رآه في عالم الشمال، وما حمله من فكر ذلك العالم رغم أهمية تلك الأفكار؛ إلا أن الأرضية العربية تحتاج استنباط الحلول من واقعها لا أن يركّب عليها حلول سرعان ما تتنافر معها.. ويعترف العالم العربي برمّته بأن تخطيط المدن والبلدان والأرياف والصناعة والمصانع والتجارة والمتاجرة والفن والفنون؛ ما كان ليكون كلّ هذا الإنجاز لولا ذلك الفكر النخبوي الذي أنجز حضوره في عالم الشمال، ونُقل إلينا، ووزّع بيننا ضمن مساحات ضيّقة لم نقدر على فهم حضوره الآني، فوقعنا في المستقبل وتداعياته، وعدنا إليه من أجل المساعدة!
أيُّ خطاب نخبوي عربي استطاع تقديم حلول ناجعة لأزمات متراكمة؟ هل قدر على حلِّ مشكلة واحدة؟ وهل استطاع أن يقدم إبداعاً فكرياً يتجه إليه الكل؟ ولماذا هذا الانفصال، ولماذا بقي على تضاد مع الخطاب الجماهيري والشعبوي؛ الذي يتألف جمهوره من السواد الأعظم من الشعوب العربية الحامل الرئيس للنخبة دون وعي؟! بحكم عدم قدرة النخب على تشكيل رافعة لوعي تلك الجماهير.. لأن القاعدة البنيوية عند الفكر الإنساني تقول بأن الأكبر ينزل إلى الأصغر وليس العكس.

د.نبيل طعمة