بين كنيستين

بين كنيستين

افتتاحية الأزمنة

الأربعاء، ٨ أبريل ٢٠١٥

 مدينتان، عاصمتان، صاغتا حقيقة الأرض وصورتها الإيمانية وروحانيتها الأممية، ظهرت بينهما المئذنة التي لولاهما لما كانت، حيث إن وجودهما كضفتين أو جناحين، ما كان لها أن تصدح بلغتها الجديدة، وتنتشر إليهما وفيما بينهما، وأيضاً ما كان لتكون، لولا أشعة الأنوار التي سلطت عليها، فغدا لها شأن بحضور رسولها وظهوره عليها أولاً، وتجواله فيما بينهما ولقاؤه مع الراهب بحيرة، واستفادته من علومه وعلوم أهل الشام أثناء تجارته فيها، ليحفظ لهما ودّ حقيقة الحقّ التي آمن بها، وتحدث عنهما مباركاً فيهما، فهو القائل: بارك الله في شامنا ويمننا، قالها ثلاثاً، فقيل له: ونجدنا؛ فأجاب لا، لأنه يخرج منها قرن الشيطان، ويؤكد أهمية ومكانة الشام من حديثه عليه السلام حيث يقول: (استُلَّ عمود الإيمان من تحت رأسي، فأتبعته بصري، فإذا به في الشام). وبما أن ولادته كانت في بكة، أي بين الهبوط لآدم وحواء في جنان عدن، ورسالة المسيحية التي حملت منها إلى العالم أجمع مع علومها الدينية والدنيوية، ومن ثمّ وصول رسالته الأخلاقية الإيمانية السمحة تحت العنوان الواسع والعريض الإسلام، واللتين قبلتاه بمحبة وإيمان عظيمين، وعملتا على نشره من خلال فتوحات، وصلت الشرق بالغرب بين كنيسة (القليس) في صنعاء اليمن، وهي أعظم كنيسة بناها أبرهة الأشرم، ملك اليمن، جدّ النجاشي ملك الحبشة، محتضن المؤمنين برسالة النبي العربي محمد عليه السلام، والذي أمّنهم إلى أن انتصرت دعوة رسولهم، بناها وأرادها كعبةً مقابل كعبة قريش، التي كان على رأسها عبد المطلب بن هاشم، حيث ثار صراع بينهما من أجل مئتي ناقة، أظهر الخلاف المادي الذي نشأ بينهما على الحجيج إلى هنا أم إلى هناك، وكذلك كانت كنيسة حنانيا، ومعناه التحنّن، في دمشق الشام، والتي حضر إليها شاوول على رأس جيش يهودي وإرادته قتل مسيحيي دمشق، إلا أنه عمي على أبوابها، فكان أن ساعده حنانيا، وعمل على شفائه باسم السيد المسيح، فصحا فيها، وآمن من وحي الرب، وغدا منها رسولاً للمحبة؛ حملها إلى العالم أجمع.
الأعراب أصحاب قريش مكة والجزيرة العربية، حملوا حقد الجمل الكليّ في جوف فكرهم من دون وعي، وساروا به يعيثون في الأرض فساداً، محاولين رميه على المئذنة الشامخة في بكة، وعلى الكنيستين اللتين تجاورتا مع مآذن دمشق وصنعاء، وكذا فعلوا بما كان يجاور مئذنة مكة، فأبعدوا منها كل ما يخالف فكرهم، واستحضروا جيوشاً غريبة تحميهم، وسعوا مذ ذاك الزمن بحقد لم يشهد التاريخ مثيلاً له جاهدين لتدمير صنعاء اليمن، وجنان عدن، ودمشق أموية الشام، وبغداد عباسية الكوفة والنجف.
هلاَّ تفكرنا حينما نسير فيما ننحو إليه، لكشف الأهداف الخبيثة والخطيرة التي اشتغلوا عليها من عمق التاريخ لمحاربة جوهر الإسلام وحقيقة المسيحية الحقّة حتى اللحظة، من أولئك الأعراب الذين خاطبهم الكتاب المكنون في آياته الكريمة: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) وأعتقد جازماً بأن ما جرى ويجري للأمتين العربية والإسلامية تحت مسمى الربيع الدموي، والذي يظهر بين حقبة وأخرى على جغرافية الوطن العربي، ما هو إلا برنامج دقيق خفي، على جميعنا يقع عاتق كشفه والجهر به للعلن، هذه الأعراب التي قبلت أن تكون أداة طيِّعة مخربة مدمرة مذ لبست لبوس الإيمان الذي لا علاقة لها به، وتعاملت تحته مع قوى الشر والعدوان، نجدها تعمل في الظلام تحت مسميات السلفية وفتاوى ابن تيمية والمستحدث من الوهابية، والتي أنجبت القاعدة والنصرة والداعشية، واتجهت بأفكار جميعهم لهدم وتدمير ليس الكنيستين، بل للمدينتين العريقتين وكل المدن التي حملت كشف الحقيقة، حيث يعمل الأعراب من خلال البرامج على مسح الذاكرة الإنسانية التي تؤمن بإنسانية الإنسان، وتعزز لغة العداوة والشقاق والنفاق، تريد تدمير أي أثر يشير إلى عظمة إنسان هذه الأرض، فصحراؤهم لم تعرف لغة الأثر والآثار، وقيمة وقوة العلم والإبداع  والاختراع والإنتاج والناتج، يريدون الجميع بلا ذاكرة، كي يزرعوا فيها الحقد والقتل ولغة النزاع؛ فلماذا يجري كل هذا ومن أجل ماذا؟
الرسول العربي التاجر الصادق الأمين، الذي ارتحل متاجراً بين مدينتين، وشاهد الكنيستين، استثمر علومهما مع الوحي الإلهي، فأظهر للحياة ديناً قيّماً سمحاً، آمن بالكل فآمنوا به، وحافظ مع خلفائه وصحبه على الكل فحفظ له الكل قيمته وقيامته؛ فأين نحن الآن من كل ما يجري؟ فصنعاء اليمن بجنان عدن تدمر، ودمشق الشام مع بغداد عباس يسعون لتدميرهما جاهدين بعد أن استباحوا محيط الكل منها. لذلك أجدني أخاطبكم أيها الناس؛ هل نعي مرة ثانية ما يحاك لنا؟ وما الأهداف التي يسعون جاهدين لمحو الذاكرة الحاملة لحقائق التاريخ ولغة عظمائه الذين أشاروا بدقة إلى المحبة والتسامح والصدق والأمانة، والذين دعوا  للحوار ونبذ الخلاف بدلاً من مشاريعهم المستمرة القائمة على المكر والمقامرة والمغامرة، فلا ينبغي لنا أن ندعهم في طغيانهم يعمهون، وعلى جميعنا أن نوقفهم عند حدودهم التي ينبغي ألا يتجاوزوها، إنها قصة فكرية ليتأمل جميعنا بها، هي ليست فقط قصة كنيستين بينهما مئذنة، إنما هي قصة العداوة التاريخية على الشعوب التاريخية فهل ننتبه؟!