التصوف والموسيقى

التصوف والموسيقى

الباحثون

الخميس، ٢٣ يوليو ٢٠٠٩

محمد قجة

 

نشأت الموسيقى مواكبة للفطرة الإنسانية في الانسجام مع الإيقاعات والأنغام. وتطورت من خلال ارتباطها بالسحر والمعابد القديمة، واستخدامها في تلك المعابد على نطاق واسع لتأدية الطقوس الدينية المختلفة. وكانت تؤدي دوراً هاماً في صهر الجماعات وضبطها وانتظامها في نمط متجانس.

ولكي تؤدي هذا الدور سُخّرت لها الثقافات والإمكانات خلال كل الحضارات منذ فجر التاريخ البشري، ومن المعابد إلى القصور، إلى كل شرائح الحياة الاجتماعية.

وعرف الشرق القديم تطور هذا الفن في سومر وبابل وأوغاريت وحلب ومصر القديمة. ونحن نذكر اورنينا في حضاراتنا العريقة، كما نذكر المغنية المصرية تنتنوت التي جاءت مع فرقتها إلى بلاد الشام وذهبت فرقة من بلاد الشام لتغني في مصر وذلك حوالي 1600 ق.م وهذا أمر بالغ الدلالة والأهمية.(1)

وفي الجزيرة العربية تروي لنا الدراسات التاريخية أخبار "جرادتي عاد" اللتين كانتا تغنيان لمعاوية بن بكر من ملوك العماليق(2) وكذلك جرادتي أمية بن أبي الصلت.

وعرف العرب في باديتهم الحُداء والأرجاز والسّناد والنصْب(3).

* * *

وحينما هاجر الرسول الكريم"ص" إلى المدينة المنورة استقبلته فتيات بني النجار وهن ينشدن:

نحن جوارٍ من بني النجار يا حبذا محمد من جارٍ

إلى جانب إنشاد النسوة والصبية للأنشودة المعروفة:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا الله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع

وكانت سيرين جارية حسان بن ثابت الأستاذة التي تتلمذت عليها عزة الميلاء في المدينة المنورة. وفي المدينة المنورة تطور فن الموسيقي والغناء على يد عزة الميلاء وجميلة وسائب خاثر وابن سريج ومعبد وابن محرز والغريض وسواهم. إلى درجة أن زرياب عندما افتتح معهداً لتدريس الموسيقى في قرطبة سماه "دار المدنيات".

واشتغل كثير من الخلفاء وأبنائهم بالموسيقى – كما يروي الأصفهاني في كتابه الأغاني- من أمثال: عبد الملك بن مروان وسليمان وعمر بن عبد العزيز والهادي والواثق وابراهيم بن المهدي وعلية بنت المهدي.

كما شهد منتدى سكينة بنت الحسين نشاطاً أدبياً وموسيقياً رفيعاً. وعرف العرب التأليف الموسيقي أيام الأمويين على يد يونس الكاتب الذي ألف كتاب النغم وكتاب القيان.

وتطور التأليف الموسيقي في بغداد والأندلس على يد الأصفهاني وإبراهيم الموصلي وابنه اسحاق وزرياب والكندي والمسعودي وابن سينا والأرموي واخوان الصفا، وفي حلب الفارابي لدى سيف الدولة. ومقدم بن معافر وابن قزمان وعبادة القزاز في الأندلس.

وخلال هذا الطور عرف العرب عدداً من الآلات مثل: القانون والعود، والرباب والكمنجة، والقيثارة والطنبور، والناي، والراح، والكنارة، والدف والصنج، والكاسات، والطبل، والقصعة…إلخ (4).

* **

بين التصوف والموسيقا:

ليس مجالنا الآن البحث في أصل تسمية "التصوف" أهي من الصفاء، أم من الصوف، أم من الصفة أم من كلمة "صوفيا" الإغريقية بمعنى الحكمة. ويبدو من ملاحظة شعر ابن عربي وغيره من المتصوفة أن التسمية ترتبط بخرقة الصوف التي كان يلبسها المتصوفون(5) أما تعريف التصوف ففيه آراء متباينة منها:

1- التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس وتنقية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية. وهذا التعريف لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (6).

2- التصوف أمر باطن لا يُطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي. والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات: الصلاح والفقر وزي الصوفية، وأن لا يكون مشتغلاً بحرفة وأن يكون مخالطاً لهم بطـريق المساكنة. وهذا رأي الغزالي.

3- التصوف رياضة النفس ومجاهدة الطبع بردّه عن الأخلاق الرذيلة(8)

وهذا تعريف ابن الجوزي في كتابه تلبيس ابليس.

4- يرى ابن خلدون في مقدمته أن التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملّة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه. والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.(9)

وهناك تعريفات أخرى كثيرة للتصوف لا مجال لها الآن. ومن المعلوم أن تطور التصوف ارتبط بأسماء مثل الحسن البصري والمحاسبي والجنيد والسري السقطي والكرخي والحلاج والتستري وابن عربي وابن سبعين والسهروردي وابن الفارض وعبد القادر الجيلاني وجلال الدين الرومي وعبد الغني النابلسي والمكزون السنجاري وحسن بن حمزة الشيرازي والكرماني وسواهم.

** *

بعد هذه العجالة في تعريف التصوف وأعلامه، يمكننا أن نتساءل عن العلاقة بين التصوف والموسيقى.

لقد أشار بروكلمان في حديثه عن التصوف إلى أن المتصوفة يلقون الدروس العامة في المساجد وفي الأوساط المختلفة الخاصة بهم وهم يحاولون أن يحركوا في نفوسهم الشعور الصوفي ويصقلوه عن طريق السماع والموسيقى.(10)

وقد كان السماع والموسيقى سمة لبعض الطرق الصوفية، في الوقت الذي رفض فيه بعض المتصوفة ذلك. بينما وفّق سواهم بين الموقفين.

ومن المعلوم أن المولوية وزعيمها جلال الدين الرومي من أكبر المؤيدين للسماع والرقص في الأذكار الصوفية. لأن السماع فيه تيسير للإيقاعات المحببة إلى النفوس. وحركات الرقص في الأذكار فيها تصعيد للرغبات وترويض للنفس ورمز عن الحركات الدورية للأفلاك والكواكب وعن الروح الثملة بالعشق الإلهي…

ويرى الشبلي أن السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة، وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية(11).

وبصورة عامة فإن الطرق الصوفية ارتبطت بالسماع بطريقة أو بأخرى سواء أكانت قد استخدمت الدفوف والمزاهر والطبول والنايات أم اكتفت بالكلام الموقع الموزون المغنّى وفق مقاماته وأنغامه.

وقد عرف التاريخ الإسلامي عدداً كبيراً من الطرق الصوفية كالقادرية والرفاعية والسهروردية والشاذلية والبدوية والدسوقية والمولوية والكبراوية والششتية والحريرية والنقشبندية والبكتاشية واليونسية. وقد انقرض كثير من هذه الطرق وبقي بعضها حتى اليوم، وهي تختلف في نسبة استعمالها للموسيقى في أورادها وأذكارها.

ومن أبرز المدافعين عن السماع في الطرق الصوفية الهجويري في كتابه كشف المحجوب إذ يقول:

"اعلم أن السماع وارد من الحق وتزكية لهذا الجسد من الهزل واللهو ولا يكون طبع المبتدئ قابلاً للحديث الحق بأي حال. وبورود ذلك المعنى الرباني يكون للطبع انقلاب وحرقة وقهر، فجماعة تفقد الوعي وجماعة تهلك ولا يوجد أحد يخرج طبعه عن حد الاعتدال في السماع". (12).

إن السماع في الطرق الصوفية يتوسلون به إلى حالات من الوجد والتواصل مع المحبوب. وقد اخذ حيزاً من حياة الصوفيين وانتقل من خلالهم إلى الحياة العامة. (13)

وقد أفاض الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين في الحديث عن الصوفية والسماع واستغرق في ذلك اكثر المجلد الخامس من كتابه. وهذه خلاصة رأي الغزالي في السماع (14).

إنما الاختلاف في استماع الأشعار بالألحان، وقد كثرت الأقوال في ذلك وتباينت الأحوال فمن منكر يلحقه بالفسق، ومن مولع به يشهد بأنه واضح الحق ويتجاذبان في طرفي الإفراط والتفريط. قيل لأبي الحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني؟ فقد كان جعفر الطيار يسمع، وإنما المنكر اللهو واللعب في السماع وهذا قول صحيح.

أخبرنا الشيخ طاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن الخوافي قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال حدثنا أبو بكر بن وثاب وقال حدثنا عمرو بن الحارث قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله ? مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول الله (ص) ? عن وجهه وقال: "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله (ص) ? يسترني بردائه وانا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى اكون أنا أسام. وقد ذكر الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله ما يدل على تجويزه، ونقل عن كثير من السلف صحابي وتابعي وغيرهم. وقول الشيخ أبي الطالب المكي يعتبر لوفور علمه وكما حاله وعلمه بأحوال السلف ومكان ورعه وتقواه وتحريه الأصوب والأولى. وقال: في السماع حرام وحلال وشبهة؛ فمن سمعه بنفس مشاهدة شهوة وهوى فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معاني تدله على الدليل ويشده طرفات الجليل فهو مباح، وهذا قول الشيخ أبي الطالب المكي وهو الصحيح. فإذن لا يطلق القول بمنعه وتحريمه والإنكار على من يسمع كفعل القراء المتزهدين المبالغين في الإنكار، ولا يفسح فيه على الإطلاق كفعل بعض المشتهرين به المهملين شروطه وآدابه المقيمين على الإصرار.

ونفصل الأمر فيه تفصيلاً، ونوضح الماهية فيه تحريماً وتحليلاً. فإما الدف والشبابة وإن كان فيهما في مذهب الشافعي فسحة؛ فالأولى تركهما والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف.

وأما غير ذلك فإن كان من القصائد في ذلك الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات فلا سبيل إلى الإنكار، ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج، مما يثير كامن العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج.

وأما ما كان من ذكر القدود والخدود ووصف النساء فلا يليق بأهل الديانات الاجتماع لمثل ذلك.

وأما ما كان من ذكر الهجر والوصل والقطيعة والصد مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه وتعالى من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين، فمن سمع ذلك وحدث عنده ندم على ما فات أو تجدد عنده عزم لما هو آت فكيف يكون سماعه؟ وقد قيل إن بعض الواجدين يقتات بالسماع ويتقوى به على الطي والوصال، ويثير عنده من الشوق ما يذهب عنه لهب الجوع؟ فإذا استمع العبد إلى بيت من الشعر وقلبه حاضر فيه كأن يسمع الحادي يقول مثلا:

أتوب إليك يا رحمن إني أسأت وقد تضاعفت الذنوب

فأما من هوى ليلى وحبي زيارتها فإني لا أتوب

فطاب قلبه لما يجده من قوة عزمه على الثبات في أمر الحق إلى الممات- يكون سماعه هذا ذكر الله تعالى.

قال بعض أصحابنا كنا نعرف مواجيد أصحابنا في ثلاثة أشياء: عند المسائل وعند الغضب، وعند السماع. وقال الجنيد تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الكل لأنهم لا يأكلون عن فاقة، وعند المذاكرة لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين، وعند السماع بوجد ويشهدون حقاً.

وسئل رويم عن وجد الصوفية عند السماع فقال: يتنبهون للمعاني التي تعزب عن غيرهم فيشير إليهم إليّ فيمتنعون بذلك من الفرح، ويقع الحجاب للوقت فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يمزق ثيابه، ومنهم من يبكي، ومنهم من يصيح.

وروت عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندي جارية تسمعني فدخل رسول الله? وهي على حالها، ثم دخل عمر ففرت، فضحك رسول الله (ص)? فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله (ص)؟ فحدثه حديث الجارية فقال : لا أبرح حتى أسمع ما سمع رسول الله، فأمرها رسول الله؟ فأسمعته وذكر الشيخ أبو طالب المكي قال: كان لعطاء جاريتان تلحنان وكان إخوانه يجتمعون عليهما، قال: أدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين أعدهن للصوفية، وهذا القول نقلته من قول الشيخ أبي طالب فقال: وعندي اجتناب ذلك هو الصواب، وهو لا يسلم إلا بشرط طهارة القلب وغض البصر والوفاء بشرط قوله تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وما هذا القول من الشيخ أبي طالب المكي إلا مستغرب عجيب، والتنزه عن مثل ذلك هو الصحيح.

وأما وجه الإنكار فيه فهو أن يرى جماعة من المريدين دخلوا في مبادىء الإرادة ونفوسهم ما تمرنت على صدق المجاهدة حتى يحدث عندهم علم بظهور صفات النفس وأحوال القلب حتى تنضبط حركاتهم بقانون العالم ويعلمون ما لهم و عليهم مشتغلين به.

حكي أن ذا النون لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوّال، فاستأذنوه أن يقول شيئاً فأذن له له فأنشد القول:

صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتبكا

وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا

أما ترثي لمكتئب إذا ضحك الخلي بكى

فطاب قلبه، ونام وقام وتواجد على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض. ثم قام واحد منهم فنظر إليه ذو النون فقال: اتق الذي يراك حين تقوم؛ فجلس الرجل، وكان جلوسه لموضع صدقه وعلمه أنه غير كامل الحال غير صالح للقيام متواجد، فيقوم احدهم من غير تدبر وعلم في قيامه وذلك إذا سمع إيقاعاً موزونا يسمع يؤدي ما سمعه إلى طبع موزون، فيتحرك بالطبع الموزون للصوت الموزون والإيقاع الموزون، وقد يرقص بعض الصادقين بإيقاع ووزن من غير إظهار وجد وحال، ووجه نيته في ذلك أنه ربما يوافق بعض الفقراء في الحركة فيتحرك بحركة موزونة غير مدع بها حالاً ووجداً، يجعل حركته في طرف الباطل، لأنها إن لم تكن محرمة في حكم الشرع ولكنها غير محللة بحكم الحال لما فيها من اللهو، فتصير حركاته ورقصه من قبيل المباحات التي تجري عليه من الضحك والمداعبة وملاعبة الأهل والولد ويدخل ذلك في باب الترويح للقلب. وربما صار ذلك عبادة بحسن النية إذا نوى به استجمام النفس. كما نقل عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم نفسي بشيء من الباطل ليكون ذلك عوناً على الحق.

وأما وجه منع الإنكار في السماع فهو ان المنكر للسماع على الإطلاق من غير تفصيل لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما جاهل بالسنن والآثار، وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار.

ونقل أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع ولا يحس بها. ونقل أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع فأخذ شمعة فجعلها في عينه، قال النافل: قربت من عينه، أنظر، فرأيت ناراً أو نوراً يخرج من عينه يرد نار الشمعة وحكي عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع من الأرض في الهواء أذرعاً يمر ويجيء فيه.

وقال الشيخ أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه: إن أنكرنا السماع مجملاً مطلقاً غير مقيد مفصل يكون إنكاراً على سبعين صديقاً، وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين، وإلا فإنا لا نفعل ذلك لأنا نعلم ما لايعلمون، وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا يسمعون. وهذا قول الشيخ عن علمه الوافر بالسنن والآثار مع اجتهاده وتحريه الصواب ولكن نبسط لأهل الإنكار لسان الاعتذار، ونوضح لهم الفرق بين سماع يؤثر وبين سماع ينكر وسمع الشبلي قائلاً يقول:

أسائل عن سلمى فهل من مخبريكون له علم بها أين تنزل

فزعق الشبلي وقال: لا والله ما في الدارين عنه مخبر.

وقيل الوجد سر صفات الباطن كما ان الطاعة سر صفات الظاهر، وصفات الظاهر الحركة والسكون وصفات الباطن الأحوال والأخلاق. وقال أبو نصر السراج أهل السماع على ثلاث طبقات: فقوم يرجعون في سماعهم إلى مخاطبات الحق لهم فيما يسمعون، وقوم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبات أحوالهم ومقامهم واوقاتهم فهم مرتبطون بالعلم ومطالبون بالصدق فيما يشيرون الله من ذلك، وقوم هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والجمع والمنع فهم يسمعون لطيبة قلوبهم ويليق بهم السماع فهم أقرب الناس إلى السلامة وأسلمهم من الفتنة. وكل قلب ملوث بحب الدنيا فسماعه سماع طبع وتكلف.

قال الشيخ أبو بكر الكتاني رحمه الله: سماع العوام على متابعة الطبع، وسماع المريدين رغبة ورهبة، وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعماء، وسماع العارفين على المشاهدة، وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان، ولكل واحد من هؤلاء مصدر ومقام. وقال أيضاً الموارد ترد فتصادف شكلاً أو موقفاً فأي وارد صادف شكلاً مازجه؟ وأي وارد صادف موافقاً ساكنه؟ وهذه كلها مواجيد أهل السماع وما ذكرناه حال من ارتفع عن السماع، وهذا ا اختلاف منزل على اختلاف أسام البكاء التي ذكرناها من الخوف والشوق والفرح، وأعلاها بكاء الفرح بمثابة قادم يقدم على أهله بعد طول غيبته فعند رؤية الأهل يبكي من قوة الفرح وكثرته.

مبنى التصوف على الصدق في سائر الأحوال وهو جد كله، لا ينبغي لصادق أن يتعمد الحضور يكون في مجمع فيه سماع إلاّ بعد أن يخلص النية لله تعالى ويتوقع به مزيداً في إرادته وطلبه، ويحذر من ميل النفس لشيء من هواها، ثم يقدم الاستخارة للحضور ويسأل الله تعالى إذا عزم البركة فيه. وإذا حضر يلزم الصدق والوقار بسكون الأطراف، قال أبو بكر الكتاني رحمه الله: المستمع يجب أن يكون في سماعه غير مستروح إليه يهيج منه السماع وجداً أو شوقاً أو غلبة أو وارداً والوارد عليه يفنيه عن كل حركة وسكون، فيتقي الصادق إستدعاء الوجد ويجتنب الحركة فيه مهما أمكن سيما بحضرة الشيوخ.

ومن أبرز الطرق الصوفية التي تستخدم السماع:

1- الطريقة المولوية: ومقرها مدينة قونية في تركيا وكان لها مركز هام في مدينة حلب هو التكية المولوية في باب الفرج. وكان رجال هذه الطريقة يرتدون ملابس خاصة برقصتهم ويضعون على راسهم "الكلاه". ويستخدمون المزامير والطبول. وقد توقفت هذه التكية في حلب عن تأدية الأذكار.(14)

2- الطريقة الشاذلية اليشرطية: وأصل مؤسسها من تونس. رحل إلى فلسطين ومات فيها. وهذه الطريقة لا تستخدم الآلات الموسيقية وتكتفي بالإيقاعات الشفوية في الذكر القائمة على التسارع والتصاعد.

3- الطريقة الرفاعية: وهي تستخدم بعض الآلات الموسيقية والإيقاعية. وكان لها حلقات كثيرة اندثر اكثرها. ومن أمثلتها في حلب الزاوية الكيالية. ومن أواخر من كان يقوم بالذكر على هذه الطريقة الشيخ عبد الله سراج الدين في حلب.

4- الطريقة القادرية: نسبة إلى عبد القادر الجيلاني. وقد بقي منها في حلب الزاوية الهلالية التي تعمل منذ حوالي خمسمائة سنة في حي الجلوم. وتتوارث الأسرة الهلالية مشيختها وصولاً إلى الشيخ د.جمال الدين الهلالي شيخ الزاوية الحالي. كما تقوم الزاوية الباذنجكية بتأدية الطريقة نفسها في المدرسة الطرنطائية (مدرسة ابن العديم) في حي باب النيرب. والزاوية اليوسفية في جامع حي قارلق.

وتؤدي الزاوية الهلالية بشكل مستمر لم ينقطع منذ مئات السنين ذكراً بعد صلاة العصر من كل يوم جمعة. ويستمر الذكر حتى موعد صلاة المغرب، وهو لذلك يطول ويقصر حسب طول النهار وقصره صيفاً وشتاء.

ولا تستخدم هذه الزاوية الآلات الموسيقية بشتى أنواعها وإنما تعتمد على الإيقاعات والأوزان والنغمات والسماع.

وقد أتيح لي أن أحضر حلقة الذكر هذه، وهي تستغرق خلال الصيف أكثر من ساعتين ونصف الساعة، بينما تستغرق في الشتاء ساعة ونصف الساعة.

وقد استعنت في جمع المعلومات عن هذه الزاوية بشيخها جمال الدين الهلالي، وبكبير المنشدين الشيخ محمد مسعود خياطة.

ومن المعلوم أن هذه الزاوية قد تعاقب عليها كبار المنشدين من المتصوفة وشيوخ الطرب في حلب وتخرج منها مئات المطربين الكبار خلال القرون الماضية حتى اليوم.

ومن أبرز شيوخ الإنشاد فيها:

أبو الوفا الرفاعي- مصطفى البشنك- محمد الوراق- أحمد عقيل- عبد السلام عبد الجليل(سلمو)- صبحي الحريري- عبد اللطيف تفنكجي- فؤاد خانطوماني- حسن الحفار- عبد القادر درعوزي- محمد مسعود خياطة(الباقي حتى اليوم).

تؤدي حلقة الذكر في الزاوية الهلالية سبعة فصول أساسية تطول أو تقصر حسب الزمن بين العصر والمغرب. ويرافقها فصل استثنائي كل أسبوع، بحيث تغدو الفصول الاستثنائية 52 فصلاً بعدد أسابيع السنة.

والفصول الأساسية السبعة هي:

1- فصل الجلالة: ويبدأ بترداد: فاعلم أنه لا إله إلا الله ثلاث مرات. ثم بشكل أسرع 11مرة.

ويبدأ بعد ذلك تكرار عبارة لاإله إلا الله بحيث يكون مجموع ما تؤديه المجموعة 70 ألف مرة.

وتؤدي المجموعة هذه العبارة بقيادة كبير المنشدين الذي يتوسط حلقة الذكر وامامه في صدر الحلقة شيخ الزاوية.

ويبدأ فصل الجلالة بأحد ثلاث نغمات من مقامات الراست والبيات والسيكاه حصراً. وتتناوب نقلات الحركة والسرعة. وهو يؤدى جلوساً. ويتخلله قيام من الجلوس. وقبل الانتقال إلى الفصل الثاني يتم إنشاد قصيدة من أمثال:

يا صاحب الأنوار يا ذا اللوا المعقود

أو: سلامي على أهل تلك الخيام

2- فصل المصدّر: ونغمة بدايته من مقام الراست حصراً ومحوره تكرار لفظ الله ثم تتم النقلة الأولى إلى البيات أو السيكاه مع لفظة الله ثم النقلة الثانية يا الله وبعدها ينتقل النغم إلى النوى أو بيات النوى أو السيكاه.

ويرافق هذا الفصل قصائد أو أدوار مثل:

أنتم فروضي ونفلي أنتم حديثي وشغليأو:

بالله حادي الأظعان رفقاً بصب ولهان3- فصل المقسوم: وفيه كل الأنغام أشهرها بيات وسيكاه وحجاز بداية ويبدأ بـ الله ثم اللهم ومحوره لفظ اللهم ّ بتسارع وتصاعد وعدد غير محدد. وقبل الانتقال إلى الفصل الرابع يتم تقديم فصل استثنائي. ودعاء رب ارحم يا رحيم

4- فصل الصاوي: من الراست حصراً

ومحوره لفظ الله بأداء مختلف عن فصل المصدّر بالقصر مع اللهج

5- فصل قسمة الصاوي: من النغم نفسه

ومحوره: اللهْ اللهُ هو اللهْ

مع فتلة من اليمين إلى اليسار وبتسارع وتصاعد

6- فصل الخمّاري: من السيكاه أو الحجاز أو البيات ومن قصائده:

إلهي سألناك بالمصطفى أقل عثرنا يا مقيل العثار

ومحوره اللـه طويلة11مرة ثم بتسارع ويتخلله تكرار بيت الشعر:

والطف بنا ربنا في كل نازلة لطفاً عميماً به الأهوال تنحسر7- فصل الدندنة: والنغم فيه مفتوح

ومحوره لفظ الله بشكل خافت وسريع بحيث يتم ترديد الكلمة 160 مرة في الدقيقة.

أما الفصول الاستثنائية فقد تلاشى بعضها وبقي منها في حدود ثلاثين فصلاً منها:

1- فصل الجلال: ترداد: "هو" 100 مرة تقريباً "حي" 50 مرة "قيوم"50 "قهار" 50 "حق".

ونغمته من الحجاز ومن قصائده:

لكل خطب مهم حسبي اللهأرجو به الأمن مما كنت أخشاه

2- فصل الصمد: اللهُ واحدْ أحدٌ صمدْ وزنه أكرك 6/8

3- فصل الفرج: رب فرج كربنا يا مفرج الكروبعلى نغمة النوى

4- فصل إلى حكم نشكو:

إلى حكم نشكو ظلامة معتد هو العدل كم أردى ظلوماً وجندلا5- فصل السلام: على نغمة البيات

هوْ اللهْ يا رحمنْ يا رحيمْ ربِّ سلمْ يا سلامْ سلّم رب سلم يا سلامْ6- فصل الأكرك:

كيف العمل ما حيلتي يا صاحب اللطف الخفي7- فصل حيّ صمد: نغمته البيات

حي صمد باقي وله كنف واقي8- فصل الهلالي:

هو واحد حي واحد لا إله إلا هو

9- فصل الفرج: على نغمة النوى

ويا واحد مالي سواك مفرج ويا صمد فرج وقل همك انجلى10- فصل القدوس: نغمته البيات

يا الله يا قدوس يا سلام رب ارحم يا رحيم11- فصل الوجوب: هو الله حي باق ٍ لا يموت هو الله حي واجب الوجود نغمته البيات

12- فصل الدايم: هو دايميا دايميا دايم يا الله البيات

13- فصل الحنان: يا حنان يا منان الأمان الأمان من زلات الزمان البيات

14- فصل الاستفغار: استغفر الله دائم استغفر الله - اللهْ

15- فصل الصلاة على النبي: صلى الله عليك يا نبينا يا محمد يا رسول الله البيات

16- فصل شهيد على قوم:

شهيد على قوم بما كان منهم فيا رب خذ بالثأر منهم وعجّلا نوى* * *

وبمقارنة سريعة مع حلقات الذكر المولوية، نجد أن المولوية تستخدم آلات التخت الشرقي من ناي ودف وصنوج ومزهر، وتدخل الموشحات والقدود من أمثال:

يا شادي الألحان هات اسمعنا

رنة العيدان

واطرب من في الحان وامنحنــــا

نشوة الألحان

صحت وجداً يا ندامى واصلوني واورحموني

يا من لعبت به شمولما ألطف هذه الشمائل

يا من يراني من علاه ولا أراهيا من يجير المستجير إذا دعاه

يا إمام الرسل يا سنديانت باب الله معتمدي

وفي الختام:

يا رب بهم وبآلهمُ عجل بالنصر والفرج

وتستخدم المولوية سائر الأنغام والمقامات الشرقية. وتتخلل هذه القصائد عبارات: مدد مدد . وترديد لفظ الله الله

* * *

لقد تركت لنا الزاوية الهلالية إرثاً صوفياً وفنياً كبيراً جداً وخلال القرن الماضي، وأثناء حكم ابراهيم باشا لبلاد الشام اتخذ من حلب مقراً لحملاته العسكرية، وكان الشيخ أمين الجندي بمثابة مستشار ثقافي لإبراهيم باشا، وقد لزم امين الجندي الزاوية الهلالية وتتلمذ فيها علي الشيخ أبو الوفا الرفاعي والشيخ مصطفى البشنك وكتب في هذه الزاوية كثيراً من القدود الجميلة التي اخذها من ألحان شائعة على السن الناس في حلب.

ومن أجمل الألحان ذات الطابع الصوفي موشح أبو الوفا الرفاعي الذي وضع له لحناً وكان ينشده ومن كلماته:

يا مجيباً دعاء ذي النون في قرار البحار

استجب دعوة المحزون قد دعا باضطرار

يا الهي طالما أدعو موقناً بالنجاة

ولحالي وقصتي رفع لك يا سيداه

أنت منك العطاء والمنع أنت أنت الإله

لك امر الكاف والنون ولك الاقتدار

انت من ظلمتي تنجيني فالبدار البدار

ومن أبرز شيوخ الزاوية الهلالية ومنشديها الشيخ محمد الوراق الذي جمع فصل اسق العطاس ورتبه وأعطاه شكله النهائي وهذا الفصل من اجمل الألحان والكلمات التي تعبر عن هذا اللون الني الثري الذي انتجته الزوايا الصوفية:

مولاي اجفاني جفاهن الكرى

والشوق لاعجه بقلبي خيما

مولاي لي عمل ولكن موجب

لعقوبتي فاحنن علي تكرماً

واجلُ صدى قلبي بصفو محبة

يا خير من أعطى الجزاء وأنعما

يا ذا العطا يا ذا الوفا

اسق العطاش تكرما

فالعقل طاش من الظما

والوراق صاحب عدد كبير من الموشحات والأزجال والقدود منها:

إن تواصل أو تزرنيأيها الظبي النفور

ليت شعري من يلمنيفيك يا وجه السرور

لو تزور

ومنها:

زارني المحبوب في رياض الآس

روق المشروب وملالي الكاس

قلت له يا زين يا أعز الناس

 

فيك كل ما أرى حسن مذ رأيت وجهك الحسن

جل من به عليك من أيها الذي الصدود سن

من لسيف أدعجيك سن لِمْ حرمت مقلتي الوسن

ومنها:

صلى إله العرش بالسلام لعل أن أغدو بهم نجيا بمحشر

ثم على أصحابه الفخام على النبي وآله الكرام وحيدر

 

 

هوامش

1- محمود حنفي- الموسيقا محيط الفنون ص 59 دار المعارف- مصر

2- المصدر نفسه ص61

3- السنا: الإنشاد للشعر بمصاحبة الدف والمزمار

النصب: نوع من الحداء.

4- المصدر السابق ص 72 وما بعدها

5- زكي مبارك التصوف الإسلامي1/51 وما بعدهاالقاهرة 1938

6- أحمد علي الحسن التصوف جدلية وانتماء19 دمشق 1990

7- الغزالي أحياء علوم الدين 2/153

8- أحمد علي الحسن 20

9- ابن خلدون المقدمة 439 القاهرة

10- بروكلمانتاريخ الشعوب الاسلامية236

11- أحمد علي الحسن201

12- الهجويريكشف المحجوب384بيروت1980

13- علي عقلة عرسان الظواهر المسرحية عند العرب 600 دمشق 1985

14- الغزالي5/112 وما بعدها

15- مقابلة مع الشيخ د.جمال الدين الهلالي شيخ الزاوية الهلالية. والشيخ محمد مسعود خياطة كبير المنشدين في الزاوية .

والمعلومات التالية من هذا اللقاء.

 

 

 

المراجع

الأغاني الأصفهاني

يتيمة الدهر الثعالبي

التصوف الإسلامي زكي مبارك 1938 القاهرة

تاريخ الموسيقى العربيةهنري فارمر

روح الموسيقى سمير الحاج شاهين

التصوف أحمد علي حسن

أعلام الأدب والفن ادهم الجندي

من كنوزنا فؤاد رجائي

إعلام النبلاء الطباخ

الموسيقا في سورية صميم الشريف

الموسيقى محيط الفنون

إحياء علوم الدين الغزالي

المقدمة ابن خلدون

إحياء علوم الدين الغزالي