أميركا واستراتيجيّة الفوضى العمياء..

أميركا واستراتيجيّة الفوضى العمياء..

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٦ أبريل ٢٠١٧

عمر معربوني - بيروت برس -

يقول روبرت كاغان أحد أبرز منظّري المحافظين الجدد أنّ بقاء أميركا يرتبط بمدى قدرتها على ممارسة سلطتها ونفوذها، وعلى مدى قدرتها على خلق وتثبيت "النظام العالمي الليبرالي"، كما يقول إنه "لا توجد قوة أخرى كان بإمكانها أن تؤثر على العالم بالشكل الذي أثر به الأمريكيون، لأنه لا توجد أمّة أخرى تتمتّع، أو تمتّعت في أي وقت مضى، بتركيبة الخواص الأمريكية الاستثنائية".

المحافظون الجدد هم امتداد للمحافظين الذين نشأت بنيتهم الأساسية في مطلع أربعينيات القرن العشرين، والتي نتجت عن أفكار المفكر ليو شتراوس اليهودي الألماني الذي هاجر الى اميركا وعمل استاذًا في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، ليتبلور فيما بعد ما سمّي بـ"الليبرالية الستراوسية Straussian Liberalism"، علمًا بأنّ هناك رأي آخر يقول بأنّ تسمية المحافظين الجدد ترجع الى العشرينيات من القرن العشرين عندما انتقد الليبراليين الذين انتقلوا الى اليمين من خلال ايرفين كريستيل وهو والد بيل كريستيل مؤسس مشروع "القرن الأميركي الجديد".

في الشكل، يعتبر المحافظون الجدد مجموعة سياسية وتيارات فكرية أمريكية، تميل إلى اليمين المسيحي المتطرف، والتي تُنظّر للهيمنة الأمريكية في "العالم الجديد"، مُؤسسةً هذه النظرية على القوة الأمريكية المُتعاظمة في الشرق الأوسط.
هذه المجموعة، وخلال السبعينيات من القرن العشرين، نشأت على ايدي مجموعة من الديمقراطيين الرافضين لسلوك الإدارة الأميركية التي تعتمد برأيهم سياسة لينة في مواجهة الإتحاد السوفياتي.

"الحرب هي الحرب" هو الشعار الذي شكّل أحد اعمدة المحافظين الجدد لتمكين اميركا من السيطرة وبسط نفوذها على العالم.
هذا الشعار كان سببًا في إطلاق الحرب على العراق ومن قبلها فييتنام وافغانستان، وكذلك الدعم الدائم واللامحدود للكيان الصهيوني كمخفر متقدم في قلب الأمة، والهدف الاساسي هو تشكيل نموذج إخضاع يمكن لأميركا من خلاله تطويع كل العالم والإنصياع لها.

بعد سقوط بغداد وكل العراق عام 2003 بيد المحتل الأميركي، بدأت أميركا بمحاولات التطويع وكانت زيارة كولن باول الشهيرة الى سوريا ولقاؤه الرئيس بشّار السد وما ترافق معها من طلبات وإملاءات تهدف الى تطويع سورية ووضعها في الفلك الأميركي، وهو ما تمّ رفضه بشكل قاطع من الرئيس الأسد.
بعد رفض الرئيس الأسد للإملاءات الأميركية بدأت حملة ضغوط على سوريا تمثلت في "قانون محاسبة سوريا" الصادر عن الكونغرس الأميركي والقرار "1559" الصادر عن مجلس الأمن، وعدوان 2006 على لبنان وعدوان 2008 – 2009 على غزة، وصولًا الى إطلاق "الربيع العربي" وبدء اميركا تحضيرات للإنسحاب من العراق بنتيجة ضغط المقاومة.

مع بدء التحضيرات للإنسحاب الأميركي من العراق ووصول القادة الأميركيين الى قناعة مفادها أنّ السيطرة بالجيوش لم تؤدِّ الغرض منها، تم إطلاق نظرية "الفوضى الخلّاقة" والتي أميل الى تسميتها بـ"الفوضى العمياء" أو استراتيجيا اللا-إستراتيجيا، بحيث يتم الإكتفاء بإطلاق الفوضى وترك مساراتها تتشكل دون تنظيم واكتفاء اميركا بالإستثمار في هذه الفوضى من خلال تغذية منابعها والبناء على ناتج الفوضى من خلال التعامل اللحظي مع التطورات لحظة بلحظة وتطور بتطور.

في الشكل وفي المضمون، أميركا تملك مشروعًا للسيطرة على المنطقة دون الغرق بالتفاصيل والإكتفاء بطرح مفهوم الجيوش البديلة والتي ترجمتها اميركا من خلال تفريخ ودعم الجماعات الإرهابية، هذه المجموعات التي تقاتل بالوكالة عن الأصيل الأميركي، والحرب الناعمة المتمثلة في الحرب الإعلامية والنفسية التي تتم من خلال جيوش جرارة من المحطات والشخصيات والجهات تتم ادارة الصراع من خلالها.

على مدار المراحل التي مرّ بها تطور حركة المحافظين الجدد، كانت العلاقة مع الكيان الصهيوني خطًّا أحمر لهؤلاء من غير المسموح كسره وتخطيه، حيث يشكّل الكيان الصهيوني بالنسبة للمحافظين الجدد صمّام أمان استمرارهم وبسط نفوذهم في المنطقة، وهو ما تؤكده المراحل المتتابعة من الحرب على المنطقة والتي تهدف الى تفتيت كياناتها السياسية ومجتمعاتها بما يضمن بقاء "إسرائيل" وسيطرتها من خلال عامل التفوّق الذي تحرص اميركا على ابقائه كصفة من صفات استمرارية وبقاء الكيان الصهيوني.

ولأننا ما زلنا في قلب الصراع، ولأنّ كثيرًا من مفاعيل الهجمة الصهيو – اميركية قد تم احباطه بسبب حالة الصمود والمقاومة، ولأنّ اميركا لا يمكن لها انطلاقًا من تجذّر الفكر الإستعماري في تركيبتها السياسية وطوال تاريخها أن تتراجع عن مشروعها لارتباط هذا المشروع بالبعد الذي قامت عليه اميركا، وهو نهب خيرات وثروات الشعوب. لهذا سنرى في المراحل القادمة من الصراع مزيدًا من الآليات والسلوكيات الأميركية القائمة على اللا-إستراتيجيا والتجريب متوخية وصول مشروعها الى نهاياته، وهو الأمر الذي بات متعذرًا بسبب حصول متغيرات مفصلية وجذرية في حركة العالم وعلى رأسها صعود روسيا وتحوّل الصين الى قطب اقتصادي، ما يعني استمرار الفوضى الى حين استرجاع السيطرة على جغرافيا الصراع من قبل محور المقاومة والحليف الروسي، وهو أمر سيكون له أكلاف إضافية في الارواح والبنية التحتية للمنطقة الى حين تبلور مشهد تسوية بين اميركا وروسيا لن يكون لمصلحة اميركا، ولكنه لن يكون على حسابها بالتأكيد طالما هي قادرة على استثمار الفوضى العمياء وناتجها.