ما هو السرّ.. لماذا يراهن بوتين على أردوغان؟…

ما هو السرّ.. لماذا يراهن بوتين على أردوغان؟…

أخبار عربية ودولية

السبت، ٣١ ديسمبر ٢٠١٦

أحمد الشرقاوي
مشكلة الأطراف المتصارعة في وعلى سوريا تكمن في أن لا أحد يثق بأردوغان، لا روسيا وإيران ومحورها ولا أمريكا وحلفائها وأدواتها الإقليمية، لأن السلطان يتعامل في السياسة من منطلق عقيدة إديولوجية تبدو في أحيان كثيرة بعيدة عن الواقعية التي تحكم لغة المصالح وقواعد التعامل في العلاقات الدولية.

هذه هي نقطة الضعف التي استغلتها واشنطن لتوظيف أردوغان في تدمير سورية والعراق موهمة إياه بأنها ستجعل منه سيد المنطقة بتمكينه من بسط نفوذه على العالم العربي “السني” لإخضاعه للهينة الأمريكية والأطلسية، وعزل إيران في محيطها الجغرافي الضيق لانهاء دعمها لحركات المقاومة في المنطقة.

وهذه أيضا هي نقطة الضعف التي نفذت منها روسيا لدق إسفين بين تركيا وأمريكا والحلف الأطلسي بعد أن أنقذت أردوغان من الموت المحقق خلال الانقلاب الفاشل وقدمت له الإغراءات الاقتصادية والسياسية الكبيرة لإقناعه بتغيير بوصلته من التحالف مع الغرب إلى الانخراط في مشروع الشرق الصاعد والواعد.

والحقيقة أن من يعتقد أن بإمكانه معرفة حقيقة السياسة الأردوغانية من تحليل ظاهر الخطاب، فمثله كمثل من يبحث عن إبرة في جبل من قش، وسيصيبه الدوران حد الغثيان قبل أن يصل إلى نتيجة.

والسؤال هو: – متى كانت التصريحات السياسية تجسد تعبيرا واضحا عن نوايا ودوافع وأهداف أصحابها؟..

– ألم يكن الخطاب الأمريكي في عهد أوباما مثلا، هو أيضا مثقل بالتناقض والتعارض والتضارب لدرجة اختلط فيها الأمر حتى على الحلفاء الأوروبيين فأحرى الأدوات الإقليمية؟..

*** / ***

وبعيدا عن الخطاب السياسي التركي الذي يتسم بالضبابية المقصودة والغموض الممنهج، ما يجعل معظم المحللين يشككون في مصداقيته وصدق توجهات أصحابه، نظرا لصعوبة الوقوف على خلفية دوافعه حتى من خلال قراءة ما بين السطور، لأن الأمر في حقيقته لا يعدو كونه بالونات اختبار يبعثها أردوغان وحكومته في اتجاه واشنطن حينا، وفي اتجاه روسيا وإيران بهدف رفع سقف المساومة السياسية أحيانا.

لكن ما يجب التركيز عليه لتجاوز هذه الصعوبة في قراءة السياسة الخارجية التركية، هي الأهداف التي يسعى أردوغان لتحقيقها وفق شروط يعتقد أن بمقدوره فرضها من منطلق تحكمه في اللعبة الجيوسياسية.

وحقيقة الأمر، أن تركيا بما لها من موقع ودور في المنطقة عموما وفي سورية والعراق خصوصا هي مفتاح الحل والعقد الذي لا غنى عنه سواء لأمريكا وحلفها الأطلسي أو لروسيا وحلفائها، وبالتالي، فلا مناص من التعامل مع أردوغان لتغيير سياسته الخارجية، بالمقاربة السياسة إن أمكن، أو بالمقاربة الأمنية كوسيلة ضغط ناجعة ما دام تحقيق ذلك بالحرب مستحيلا.

من هنا أدركت موسكو أن ما يخيف أردوغان على مستوى الداخل التركي هو إقدام أمريكا وحلفها الأطلسي على الانتقام من خلال التلاعب بأمن واستقرار تركيا، سواء بالانقلاب العسكري أو الاغتيال السياسي أو تثوير المعارضة المنضوية سرا تحت لواء الزعيم فتح الله غولن لتغيير النظام، وقد سمعنا بوتين يقول قبل يومين، أنه غير قناعته بشأن تركيا بعد اغتيال سفير بلاده، لأنه أدرك أن تركيا مخترقة من الداخل من قبل النظام الموازي.

وهذا بالتحديد هو ما عمل أردوغان على تجنبه من خلال سياسة التطهير الجذري التي اعتمدها بعد الانقلاب الفاشل، وسعيه الدؤوب لتغيير النظام من برلماني إلى رئاسي لتشديد قبضته على كل مفاصل السلطة في البلاد والتحكم في كل كبيرة وصغيرة، ما يحوله إلى زعيم أوحد ضامن لأمن واستقرار وازدهار تركيا دون منافس أو منازع.

لكن ما لا يستطيع التحكم فيه السلطان هو الخطر الخارجي القادم من سورية والعراق، ويتعلق الأمر بالعامل الكردي الذي فشلت تركيا في مواجهته في العراق خلال أربعين سنة من المطاردة الأمنية والعمل العسكري دون جدوى، فكيف سيكون الحال إذا اتخذ الأكراد من الشمال السوري منصة لاستهداف تركيا؟..

هذا هو العامل الحاسم الذي نستطيع من خلاله الحكم على مواقف وتصرفات أردوغان من جهة، وقياس مدى حقيقة استدارته نحو روسيا إن كانت استدارة استراتيجية أم فقط تكتيكية من باب الضحك على الذقون لتمرير ما تبقى من عهد أوباما في انتظار الوقوف على حقيقة سياسة ترامب.

ويمكن القول اليوم بثقة، أن العامل الكردي هو نقطة التحول الأولى في سياسة أردوغان الخارجية حين أعلن بعد فشل الانقلاب والتصالح مع روسيا “أن مشاكل المنطقة يجب أن تحل من قبل دول المنطقة دون تدخل من الأطراف الدولية”، في إشارة إلى أمريكا وأوروبا، وهو الأمر الذي اعتبرته واشنطن والحلف الطلسي بداية تحول مقلق يهدد بتقريض نفوذ إمبراطورية روما الجديدة في المنطقة.

وقد جاء هذا التحول كما هو معلوم بعد أن وضع أردوغان واشنطن أما خيارين لا ثالث لهما، إما تركيا أو الأكراد، فاختارت واشنطن الأكراد وقررت الاستغناء عن أردوغان الذي أصبح يمثل عائقا كبيرا في وجه تحقيق مخططاتها التفتيتية للمنطقة.

ولعل منا من لا يزال يذكر خطاب الرئيس السوري بشار الأسد حين قال في إطلالته الأولى مع بداية الأزمة من على قناة الإخبارية السورية “أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد تركيا هو العامل الكردي”، في رسالة ضمنية تقول، أن لعب أردوغان بالعامل التكفيري لإسقاط سورية سيدفع سورية وحلفائها للاستثمار في العامل الكردي لرد الجميل للسلطان من باب “وما جزاء الإحسان إلا الإحسان”.

وبهذا المعنى، فلا شك لدى روسيا وحلفائها أن تركيا مجبرة على الاستدارة الإستراتيجية نحو المشرق وإن بخطوات بطيئة ومدروسة، حماية لأمنها القومي أكثر منها سعيا لتحقيق مصالح اقتصادية مهما بلغت أهميتها.

*** / ***

لأنه إذا كان المشروع الأمريكي لتقسيم سورية والعراق يمر حتما من بوابة الكانتون الكردي في الشمال، فإن هدف أردوغان الأساس هو منع أمريكا من إقامة هذا المشروع الذي يتهدد وحدة تركيا وكيانها في المستقبل المنظور، وهو نفس الهاجس الذي يؤرق سورية وإيران والعراق، بل ولبنان واليمن وليبيا و”السعودية” ومصر والجزائر والمغرب كما أعلن عاهله في اجتماع الخليج الشهير عندما صرح بأن أمريكا تسعى إلى تقسيم دول المنطقة بما في ذلك المغرب.

والمشروع الأمريكي كما أصبح واضحا للجميع، سبق وأن وضعت له الخرائط منذ عام 1982، وكان غزو العراق مجرد مقدمة لتجسيده كأنموذج سياسي ناجح لديموقراطية عرقية وطائفية قابلة للتعميم في المنطقة، لكن فشله الذريع في العراق بسبب تصدي إيران له خوفا من تكرار تجربة لبنان، دفع الولايات المتحدة لفرضه واقعا على الأرض بمنطق القوة في سورية، وذلك بتغيير المقاربة واستبدال الحرب المباشرة بالحرب الناعمة لنشر الفوضى التي كان يفترض أن تؤدي إلى تدمير المنطقة لإعادة تشكيلها وفق نظرية “بناء الأمم” في ما أصبح يعرف بـ”ديموقراطية الأقليات” من أعراق وطوائف ومذاهب تفضي إلى تغيير الجغرافية القديمة وتأثيث المنطقة بكيانات ميكروسكوبية ضعيفة وهجينة تقبل بالتعايش مع “إسرائيل” القوة الإقليمية الكبرى وتدور جميعها في الفلك الأمريكي الذي يحدد لها قواعد اللعبة وحدودها.

*** / ***

وبهذا المعنى، فاستدارة أردوغان نحو روسيا تفهم في هذا الإطار، ودخول تركيا الشمال السوري بموافقة ضمنية روسية كان بهدف إسقاط المخطط الأمريكي في سورية، لكن وفي نفس الوقت دق إسفين بين واشنطن وأنقرة وخلق الظروف الملائمة لمواجهة سياسية بينهما تفضي إلى استدارة كاملة تنتهي بنزع تركيا من المعسكر الأطلسي الغربي وضمها إلى المعسكر الروسي الإيراني الشرقي.

اجتماع موسكو الذي ضم وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران كان محطة مفصلية جسدت التحول التركي وأعطته بعدا استراتيجيا عميقا أقلق واشنطن التي تم استبعادها بمعية حلفائها وأدواتها، ما اعتبر إهانة لهم وصفعة لا يمكن السكوت عنها، وقد جاء اجتماع الخبراء العسكريين على هامش اجتماع وزراء الخارجية ليؤكد أن التنسيق لن يقتصر على المسار السياسي في سورية، بل سيتجاوزه إلى التنسيق الأمني والعسكري للقاء على إرهاب “داعش” و”النصرة” والجماعات المتطرفة التي ترفض إلقاء السلاح والقبول بالانخراط في التسوية السياسة التي وضعت خطوطها العامة موسكو بالتعاون مع تركيا والتشاور مع طهران ودمشق.

والهدنة التي تم إعلانها الخميس في سورية جاءت لتؤكد جدية التوجه التركي وانخراطه في الرؤية الروسية الإيرانية للحل السياسي في سورية بموازاة سحق الإرهاب وتطهير البلاد من رجسه.

صحيح أن ما تم إنجازه حتى الآن في هذا الصدد لا يعدو كونه أرضية تمهيدية لما ستسفر عنه المحادثات في أستانا من نتائج قد لا تكون بالشكل المرجو نظرا لتحكم قوى دولية وإقليمية أخرى في اللعبة السورية وخصوصا الولايات المتحدة و”السعودية”، أما قطر فلا تستطيع الخروج عن نهج تركيا.

وقد رأينا كيف أن إدارة واشنطن وفي رد على الصفعة الروسية استصدرت قرارا من مجلس الأمن حول المستوطنات في فلسطين لإجهاض مساعي موسكو للدخول على خط التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية، ورأينا كيف أن أوباما وقع قرارا يرفع حظر تسليح “المعارضة السورية، وتلاه بقرار آخر يسمح بتزويدها بالصواريخ أرض جو النوعية، ورأينا كيف تم اغتيال السفير الروسي في موسكو لضرب العلاقات الروسية – التركية، وكيف تم اغتيال ممثل روسيا لدى الحلف الأطلسي في بروكسل، وهي كلها خطوات لعرقلة أي تقارب محتمل بين ترامب وبوتين بشأن حل أزمات المنطقة.

وجاء الرد من موسكو اليوم على لسان الوزير لافروف الذي قال أن أمريكا يمكنها الانضمام إلى جهود التسوية في سورية، لكن بعد تسلم إدارة ترامب لمهامها، ما يعني أن الباب أصبح موصدا في وجه الإدارة الحالية.

لكن الخطير في الأمر هو ما حدث الخميس، حيث صدر قرار من واشنطن باستبعاد 35 دبلوماسي روسي من واشنطن وسان فرانسيسكو بزعم قيامهم بأنشطة مرتبطة بعمل المخابرات الروسية، وتم إغلاق مجمعين روسيين في ماريلاند ونيويورك بذريعة نفس التهمة.

وهذا تصعيد خطير أرادت إدارة أوباما من ورائه وقبل رحيلها، إفساد أي تقارب محتمل بين روسيا وأمريكا في العهد الترامبي الجديد.

وبالتالي، لا يبدو مسار الحل الروسي في سورية مفروش بالورود، وعلينا انتظار ما بعد 20 من الشهر القادم لمعرفة التوجهات العامة للقادم الجديد إلى البيت الأبيض، وما إذا كان أردوغان سيتغير توجهه وينقلب على عقبه أم سيمضي قدما في استدارته نحو روسيا.

حينها نستطيع القول إن كانت استدارته التي تبدو استراتيجية الآن هي كذلك أم تكتيكية ليس إلا.. وحينها لكل حادث حديث.