ماكرون المتمرد الذي أراد أن يصير ملكاً… كيف وصل إلى هنا؟

ماكرون المتمرد الذي أراد أن يصير ملكاً… كيف وصل إلى هنا؟

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٨ مايو ٢٠١٧

سلم الفرنسيون مفاتيح الاليزيه الى إيمانويل ماكرون (39 سنة)، واضعين بين أيدي هذا الشاب الذي كان قبل سنة من الان شخصاً مغموراً، مستقبل بلادهم ومعها أوروبا الى حد ما، بعدما خذلهم “فيلة” الاشتراكيين وأقطاب الجمهوريين. فمن أين أتى هذا المتمرد الذي قال يوماً إنه يريد أنه يغير النظام ويصير ملكاً؟
كان التغيير الشعار الطاغي لماكرون. وعد بفجر سياسي جديد لفرنسا وبمستقبل واعد للفرنسيين. وعود كثيرة أخرى ساهمت في فوزه اليوم، اضافة الى الرفض الواسع للبدائل التي قدمتها الحملة الانتخابية، وفي مقدمها البديل الذي تمثله زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن. ومع ذلك، ليس هذا الرهان على التغيير “الماكروني” والرفض الواسع لنظام طبع الحياة السياسية طوال اكثر من قرن الا مقامرة مفتوحة على كل الاحتمالات.
سبق لماكرون أن أثبت براعة في عز الازمات. فعندما انضم الى مصرف “روتشليد” العملاق، كان القطاع المالي يعاني أزمة عالمية. وفي حينه، كما هي حاله مع الرئاسة اليوم، لم يكن يتمتع بأي خبرة مصرفية. كان رصيده علاقات قوية أوصت “روتشيلد” به كشخص مميز ذي علاقات واسعة يمكن أن يستقطب الاعمال. وأثبتت الايام أن الرهان عليه كان صائباً. فعند مغادرته الامبراطورية المصرفية بعدما أمضى فيها أربع سنوات، كان قد فاوض على عقد بمليارات الدولارات وصار أحد شركائها الأصغر سناً.
كفاءات
في الميدان السياسي، اعتمد ماكرون بحسب عارفيه، نفس القواعد التي مارسها في مهنته المصرفية والتي قلبت المشهد السياسي في فرنسا ووضعت مفاتيح الاليزيه بين يديه، إذ لم يتوان عن نسج صداقات في مناصب رفيعة دفعته الى أعلى الهرم في المجتمع الفرنسي. وفي طريقه تلك، استغل ذخيرة واسعة من الكفاءات، من البيانو الى الفلسفة والتمثيل وصولاً الى خبرته المالية. وكل ذلك ساعده في إقناع معلميه اللاحقين بقدراته.
لم يسلك ماكرون الطرق التقليدية المعروفة بالسياسة، وإنما أخذ درباً مختصرة. فبدل أن يترشح لمنصب محلي في مسقطه ويتدرج صوب مناصب عليا، اختصر الطريق وقصد باريس مباشرة حيث صار خبيراً في الأعمال المصرفية والتكنوقراطية الاوروبية. وفي بورتريه طويل له في صحيفة “وول ستريت جورنال” كتب مدير مكتب الصحيفة في باريس أن ماكرون فهم القوانين المعقدة، من قانون العمل الفرنسي المؤلف من 3334 صفحة إلى قوانين السوق الاوروبية الموحدة، وهو ما أتاح له أن يصير مستشاراً لمسؤولين سياسيين أربكتهم تعقيدات الاتحاد الاوروبي وتقلبات الاسواق المالية.
أوروبا تنفست الصعداء
بفوز ماكرون، تنفست أوروبا الصعداء، بعدما اطمأنت الى أن باريس، أحد المحركين الاساسيين للمشروع الاوروبي، صارت في يد مدافع قوي عن الاتحاد الاوروبي الذي يريد إنشاء مركز قيادة للدفاع في القارة، وإنشاء قوة شرطة حدودية، وتخفيف القيود التي تقيد سوق العمل الفرنسية، وخفض الضرائب على الرواتب وخفض العمالة الفرنسية في القطاع العام بنحو 120 الف وظيفة.
قدم ماكرون داماً نفسه غريباً عن المجال الذي ينخرط فيه، أولاً في القطاع المصرفي الذي برع فيه من دون اي خبرة، ثم رأسمالياً داخل حكومة اشتراكية قبل أن يتفق مع قوميي الحزب مقدماً نفسه مرشحاً مدافعاً عن أوروبا.
تظهر مقابلات كثيرة أجربت معه ومع مساعدين له أنه وضع عينه على المناصب العليا باكرا، وأظهر رغبة في تحدي التقليد لتحقيق ذلك الهدف، وهو ما وضعه في النهاية في مسار تصادمي مع الرئيس فرنسوا هولاند، معلمه الذي رقاه الى مناصب عليا في الحكومة.
مدّرسة المسرح
وحتى في حياته الخاصة، لم يكن تقليدياً. فابن الطبيبين المولود في أميان بشمال فرنسا، أغرم بمدرّسة المسرح التي تكبره ب23 سنة، إذ كان في الخامسة عشرة من عمره.
كان المراهق يمضي ساعات مع بريجيت ترونيو للتدرب على مسرحية للكاتب ادواردو دي فيليبو عن ممثل نشيط يحاول التحايل على مسؤول محلي، وأعطته فيها الدور الرئيسي.
ويحكى أن أهله أرادوا ابعاده عنها فأرسلوه للدراسة في باريس، الا أنه بقي على اتصال بترونيو. وبعد ذلك بسنوات انفصلت عن زوجها وانقتلت الى باريس للعيش معه قبل أن يتزوجا. علماً أن لها ثلاثة أولاد، أكبرهم أكبر من إيمانويل.
وقبل بريجيت، كان لايمانويل علاقة استثنائية أيضاً بجدته التي كان يسميها نانيت. وبحسب كتاب جديد صدر عن حياته، كان يمضي ساعات طويلة يقرأ مقتطفات من موليير وجورج دوهاميل معها. وكانت علاقتهما قوية الى درجة أن أمه تذمرت كون أمها تسرق إيمانويل من عائلته.
لم يقل يوماً إنه فكر بأن بصير رئيساً للجمهورية. كان أكثر ميلاً لأن يصير كاتباً بعد كل القراءات التي كان يقوم بها مع جدته، أيام الاربعاء والسبت اللذين كان يمضيهما عندها.
ومع انتقاله الى باريس، بدأ الانخراط بالدوائر المهمة. درس الفلسفة وصار مساعداً لبول ريكور، أحد الفلسفة الاكثر شهرة في فرنسا. التحق بالمعهد الوطني للادارة، اكاديمية النخبة التي تخرج منها رؤساء وزراء ورؤساء مصارف ورؤساء.
دائرة من المعارف و…روتشيلد
تخرج الاول في دورته، ,بدأ عمله في الادارة العامة مفتشاً للمالية، منطلقاً في مسيرته المهنية كشهب من اللهب. عام 2008 صار المقرر المساعد للجنة جاك أتالي التي أنشئت لاعادة اطلاق النمو في البلاد. وأقام دائرة واسعة من المعارف من أصحاب السلطة، على غرار ألان مينك ورئيس الوزراء السابق ميشال روكار.
ويتذكر، سيريل حرفوش، أحد الخريجين الذين عرفوه، بأنه عندما جلس مع ماكرون للمرة الاولى سأله أين يرى نفسه بعد ثلاثين سنة، فأجابه: “رئيساً للجمهورية”.
في حينه نصحه حرفوش بتجنب السياسة التقليدية، قائلاً له إنها لن توفر له الامان المالي، وساعده على الحصول على وظيفة لدى روتشيلد حيث اثار اعجاب أسياده.
وخلال عمله المالي، عمل ماكرون مساعداً للجنة اقتصادية ضمت رئيس شركة نستلة بيتر برابيك-لتماث.ونجح في اقناع نستلة بتعزيز وجودها في الصين، التي لم يكن فيها احضور قوي للشركة.
وعندما اندلعت حرب بين الصين ومنافسة نستلة، شركة دانون، سارع ماكرون الى انتزاع صفقة بقيمة 11,8 مليارات الدولارات، وهو ما جعله رجلاً ثرياً. كذلك، ساهمت تلك الصفقة في جعله مستشاراً لكبار السياسيين، بينهم هولاند الذي كلفه طمأنة المستثمرين ورجال الاعمال القلقين حيال خطط المرشح في حينه لوضع ضريبة قيمتها 75 في المئة على المداخيل التي تتجاوز مليون أورو.
مستشار لهولاند
وبعد فوزه بالانتخابات عام 2012، استدعى هولاند ماكرون الى الاليزيه كنائب لرئيس أركان الموظفين. وعندما هدد رجال الاعمال بمغادرة فرنسا، حذر ماكرون رئيسه في بريد الكتروني من أنه يهدد بتحويل فرنسا الى “كوبا من دون شمس”.
عندما نجح في تليين موقف هولاند، اكتسب ماكرون سمعة جيدة بين بعض أقطاب الحزب الذين وقفوا الى جانبه، وبينهم جيرار كولومب، رئيس بلدية ليون، وهو احد الاسماء المرشحة حالياً لتولي رئاسة حكومة ماكرون.
وزير اقتصاد
وعندما بدأت الرياح تسير كما تشتهي سفنه، استقال فجأة من منصبه مساعداً لهولاند في صيف 2014، قائلاً أنه يريد بدء عمله الخاص.
وعندما أقال هولاند مونتبور من وزارة الاقتصاد بسبب رفضه خفض الانفاق، عرض المنصب على ماكرون الذي طلب تفويضاً لاصلاح الاقتصاد.
وفي منصبه الجديد، وضع ماكرون قانوناً لتبسيط اجراءات التوظيف والتسريح وسمح بفتح المتاجر ايام الاحاد. وهذه الاقتراحات المثيرة للجدل المعروفة باسم “قانون ماكرون” دفعته الى دائرة الضوء، بينما كانت الاتحادات تنظم تظاهرات واسعة في الشوارع.
ولكن هولاند الذي خشي ألا يمر القانون في البرلمان لم يعرضه على التصويت، وحذف مواد أساسية منه ثم أقر القانون بمرسوم.
التمرد…أريد أن أصير ملكاً
ومع تلك المواجهة، بدأت ملامح التمرد تظهر لدى ماكرون. وفي ذلك اليوم مطلع 2015، سألت “الوول ستريت جورنال” ماكرون ما اذا كانت لديه طموحات رئاسية، فاجاب:”لا، ولكن عندما تقرر أن تفعل شيئاً، يجب أن تبذل قصارى جهدك، أن تصبح مليارديراً عند تأسيس شركة ناشئة”، وتابع ممازحاً: “أو ملكاً…أريد أن أغير النظام”.
وتابع تحريضه لهولاند، موجهاً له رسالة عشية عيد الميلاد عام 2015، تحضه على اجراء تغييرات اقتصادية أكثر عمقاً، ودفع اوروبا والمانيا لتخفيف القيود على الانفاق.
ولكن هولاند الذي كان يئن تحت وطأة تراجع شعبيته، لم يرد عليه، خوفاً من اعادة تحريك الاحتجاجات في الشوارع.
الطموحات الرئاسية
ويقول ريتشارد فيران، وهو سياسي اشتراكي عتيق إن عدم اتخاذ هولاند اي خطوة شكل الفتيل الذي أضرم النار في الطموحات الرئاسية لماكرون.
وفي الاشهر اللاحقة، التقى ماكرون مع اقطاب من الحزب الاشتراكي لوضع خططه الرئاسية.وفي غياب حزب قوي وراءه، لجأ مجدداً الى اتصالاته في عالم الاعمال، متخذا خطوة غير معهودة بحسب الصحافة، في السياسة الفرنسية باقامة حفلات لجمع التبرعات ودعوة اشخاص لهم اصتلاتهم مع مانحين محتملين. وفي الربيع الماضي، كشف ماكرون عن حزبه السياسي “أن مارش” قاضياً على امال هولاند بولاية جديدة.
…لم يعترف ماكرون يوماً أنه يخبئ طموحات رئاسية، وأنه يريد إطاحة معلمه ليأخذ مكانه، ولكنه عمداً أو من دون قصد، استغل ضعف هولاند وانطلق بلا هوادة لغزو الاليزيه، فصار أصغر سيّد له.