ما بعد إسقاط الـ«اف ١٦»: سيناريو مستقبلي محتمل

ما بعد إسقاط الـ«اف ١٦»: سيناريو مستقبلي محتمل

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٥ فبراير ٢٠١٨

محمد بلوط, وليد شرارة
لا أحد يتوقع أن تُنهي إسرائيل عملياتها الجوية في سوريا، بعد العاشر من شباط، ومن المبكر جداً اللجوء إلى ذلك التوصيف المبتسر والمتسرع بالقول إنّه لا تصح مقارنة ما قبل الحدث بما بعده، قبل تفحص السيناريوات المحتملة.
وكما أنّ سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً، كذلك هو سقوط «اف ١٦» واحدة، الذي لن يمدّ «توازن الرعب» من جبهة جنوب لبنان، إلى خط الفصل بين الجولانين المحتل والمحرر، حتى وادي اليرموك، وفي السماوات السورية. إنّ مدّ معادلة التوازن إلى الأجواء السورية يشترط إدامة الإرادة السياسية التي أطلقت صواريخ العاشر من شباط، وأن تتوافر إلى جانبها أيضاً الامكانات الميدانية والتقنية، التي دمرت جزءاً كبيراً منها الحرب السورية، لمواجهة السيناريوات التي سيلجأ اليها العدو لمواجهة التحدي الجديد الذي يفرضه إسقاط طائرة الـ«اف ١٦» في الأجواء الإسرائيلية نفسها، للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتقييد حرية حركته جواً ما بعد بعد حيفا
ينبغي التفكير أولاً في أي سيناريو مستقبلي أنّ عنصر المباغتة الذي سمح بتحويل المواجهة الجوية إلى كمين جوي لا يزال قيد النقاش في الأوساط الإسرائيلية التي لا تزال تستمهل تحديد ما حصل، بانتظار انتهاء الأركان الإسرائيلية من تقييم الأحداث والمعطيات، وأهداف عملية العاشر من شباط. ذلك أنّ الموجة الثانية من الهجوم الإسرائيلي المضاد على ١٢ هدفاً، من بينها ثلاث منصات جوية في الطوق الدمشقي، لم تتعرض لأيّ خسائر، ما يعني أن الاستدراج ليس كافياً لبناء استراتيجية ردع جوي. فعندما أطلقت الـ«اف ١٦» الأولى صاروخها نحو مطار التيفور جنوب حمص من الاجواء اللبنانية، كانت الطائرة الثانية من السرب الإسرائيلي تقوم بعملية توجيه الصاروخ إلى هدفه من الأجواء الإسرائيلية، عندما فاجأها الصاروخ السوري. كذلك ينبغي التفكير في ما إذا كانت الدفاعات الجوية ستكون قادرة في أيّ سيناريو مستقبلي على إطلاق أكثر من عشرين صاروخاً على كل طائرة مهاجمة، كما جرى في موقعة العاشر من شباط، وفق صحيفة هآرتس، من دون أن تتعرض لاستنزاف. يعكس إغداق الصواريخ على الهدف الإسرائيلي وجود قرار استراتيجي سياسي وتصميم واضح على توجيه ضربة للعدو، في حين تقضي قواعد الاشتباك الجوي في العقيدة الروسية السورية مواجهتها بصاروخين لا أكثر.
وأمام احتمالات الذهاب نحو إدامة الردع الصاروخي الجوي يجب تفحّص ما تعرضت له بنية الدفاع الصاروخي الجوي السوري، خلال سبعة أعوام من الحرب، من أضرار كبيرة، نتيجة تحوّلها الى هدف غير مبرر من قبل المجموعات المسلحة التي عمدت الى تخريب وتدمير العشرات من كتائب الدفاع الجوي السوري، التي كانت تتألف من فرقتين و٢٥ لواءً جوياً، تحمل منصاتها صواريخ «سام ٢ و٣ و٦، واوسا، وبانتسير، و٤٤ منصة صواريخ اس ٢٠٠»، ومنظومة صواريخ «سام ١٧» تحمي بشكل خاص طوق دمشق. لعب «جيش الإسلام» دوراً أساسيا في تدمير هذه الكتائب التي لا علاقة لها بالعمليات العسكرية، لا سيما في منطقة الغوطة الشرقية. وخلال «غزوة كتيبة الافتريس» في غوطة دمشق الشرقية في تشرين الثاني ٢٠١٢، دمّر مقاتلو زهران علوش منظومة «سام ٥» مكلفة بحماية دمشق من الهجمات الجوية الاسرائيلية. ورغم ذلك، نجت خمسون كتيبة دفاع جوي من بين أكثر من أربعمئة كتيبة كانت تنتشر في ستمئة موقع على الأراضي السورية، بحسب «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية»، ولم يتبقَّ منها أكثر من أربعمئة موقع. ومن بين ثماني محطات للإنذار المبكر، دمّرت المجموعات المسلحة ست محطات، في تدمر وتل الحارة وإدلب وغرب دمشق، والشعالة في حلب، وفي مطار الطبقة.
بات أكيداً أنّ الروس زوّدوا القوات البرية السورية بعدد كبير من دبابات «ت ٦٢» الموجودة في مستودعاتهم منذ نهاية الحرب الأفغانية، والتي تناسب الميدان السوري، كما زوّدوا هذه القوات بأقلّ من مئة دبابة «ت٧٢ب»، وبعض دبابات «ت٩٠»، ومدافع «ميستر ١٥٢»، وراجمات سميرتش، وعربات «بي تي ار ٨٠»، إلا أنه ليس من المؤكد أنّ إعادة الترميم قد أصابت بالاتساع نفسه الدفاع الجوي السوري، إذ لم تنفذ صفقة الـ«اس ٣٠٠» التي وقّعتها سوريا عام ٢٠١٠ بقيمة ٩٠٠ مليون دولار. وحصلت سوريا على منظومة إضافية لصواريخ «سام 5» أو «اس ٢٠٠» في مطار كويرس بعد فكّ الحصار عنه في تشرين الثاني ٢٠١٥. وتمّ تحديث منظومة الـ«اس ٢٠٠»، ولكن من ضمن اتفاق جرى توقيعه قبل اندلاع الحرب في سوريا، ولا يزال الـ«سام ٢» يشكّل العدد الأوفر من منصات الدفاع الجوي في سوريا.
وتبدو سيناريوات المستقبل رهينة استكمال الإسرائيليين خطط إعادة بناء الدفاع الجوي الاسرائيلي، من بين قوات أخرى، أُطلقت منذ حرب تموز ٢٠٠٦، وأُنجِز ٩٠ في المئة منها، ولا تزال تضع توقيت أيّ معركة لمصلحة سوريا ومحور المقاومة. تندرج ضمن لائحة الانتظار والتأجيل، التغييرات الجارية في العقيدة العسكرية الاسرائيلية، في إطار خطة «جدعون» التي ينبغي أن تنتهي بحلول عام ٢٠٢١، بالتركيز على العمليات الصغيرة خلال خطوط العدو، والقوات الخاصة، وتطوير المعارك بين الحربين أو ما دون الحرب. فمنذ حرب تموز، ودخول إيران إلى المشهد السوري، لم تعد إسرائيل تعتبر أنّ تهديدات الحرب الكلاسيكية تأتي من الجيوش المحيطة بها مباشرة في مصر والأردن، أو من سوريا المنشغلة بالداخل. ولا يزال التهديد الوحيد بحرب كلاسيكية يأتيها من إيران البعيدة، فيما يشكل حزب الله وقوى المقاومة التهديد الأكبر. ووفق قائد الأركان غادي أيزنكوت، لا بد من مراجعة مفهوم الحسم العسكري المستحيل في حرب كلاسيكية مع قوة كحزب الله الذي يبقى متربّصاً ومتهيّئاً للحرب باستمرار. ولأن التفاهم مستحيل أيضاً، فإنّ الهدف من تطوير المعارك ما دون الحرب مع وصول الميدان السوري الى منعطف النهاية هو منع سوريا وحزب الله من إعادة التسلح وتحقيق الإشباع الدفاعي، كي لا ينتقل الى مرحلة الهجوم.
قد يكون من المفيد أيضاً استطلاع القراءة الأولية الإسرائيلية لموقعة العاشر من شباط. يرى الطرف الإسرائيلي أنّها الاشتباك المباشر الأول مع الإيرانيين. بيد أنّ المواجهات غير المباشرة لم تتوقف منذ عام ١٩٨٢، عبر ذلك الدعم الإيراني النوعي والكبير للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وقيام إسرائيل بعشرات العمليات التي استهدفت منشآت وعلماء إيرانيين. لكننا اليوم أمام مشهد مغاير.
الجنرال آموس يادلين، في مقال مشترك مع آري هايستين، رأى أنّها «المرة الأولى، طائرة مسيّرة عن بعد من قبل الإيرانيين (تخترق) الأجواء الإسرائيلية، وهي المرة الأولى أيضاً التي تشنّ فيها إسرائيل هجمات مباشرة على القوات الإيرانية في سوريا». عامل مربك آخر للإسرائيليين هو الغموض الذي ما زال يلف مهمة هذه الطائرة. الجنرال تومير بار، القائد الثاني للقوات الجوية الاسرائيلية، اعترف بأنّه لا يملك إلى اليوم يقيناً عن مهمة «شاهد ١٤٠»: «من الممكن أن تتراوح ما بين الاستطلاع والهجوم. من الممكن أيضاً أنهم كانوا يختبرون قدراتنا وجاهزيتنا ودرجة حماية الأجواء الاسرائيلية. المهم هو أن نفهم حقيقة مهمة الطائرة، لكني لا أجزم بها حتى اللحظة».
انشيل شيشل، شكّك في «هآرتس» في أن تكون المهمة هجومية، إذ لا وجود لمتفجرات أو سلاح بين حطامها، «ما يُبقي فرضية الاستطلاع أكثر ترجيحاً». السابقة الثانية التي يتحدث عنها الإسرائيليون هي إسقاط «اف ١٦» حديثة بصاروخ «سام ٥» القديم. بعضهم يرى أنّ ما يجري هو محاولة من محور المقاومة لفرض قواعد لعبة جديدة، في مقابل تلك التي سعت إسرائيل لفرضها في الفترة السابقة في سوريا، من خلال معارك وعمليات ما دون الحرب، تمنع مراكمة قدرات عسكرية كاسرة للتوازن.
«هدف إيران واضح وقابل للتحقق»، كتب أوفير هايفري، في «معاريف»: «هي لا تحتاج ولا تريد حرباً مع إسرائيل الآن، بل مجموعة من العمليات المحدودة التي تتيح بناء ميزان ردع يحدّ من حرية قيام إسرائيل بهجمات في سوريا. هكذا نجح حزب الله، عبر افتعال مجموعة من المواجهات المحسوبة في تقييد أيدي إسرائيل في مجالات مهمة... النتيجة النهائية هي أنّ منظمة إرهابية تتحكم في لبنان، وتمتلك ترسانة صواريخ ضخمة موجهة نحو الدولة اليهودية».
قواعد لعبة جديدة إذن في مقابل القواعد الاسرائيلية. السياق الدولي المستجد قد يكون مؤاتياً لمثل هذه المحاولة. فمع التطورات على مستوى العلاقات الروسية ــ الأميركية وغلبة منطق الصراع فيها، يكتسب التموضع العسكري الروسي والأميركي في سوريا بُعداً آخر يتجاوز مجريات المواجهة في هذا البلد، ويرتبط من الآن فصاعداً باستراتيجية الاحتواء التي ما زالت الولايات المتحدة وحلفاؤها يعتمدونها في مواجهة روسيا، ومحاولات هذه الأخيرة الالتفاف عليها.
سبق تدخل روسيا عام ٢٠١٥ إجهاضها مشروع «حلف شمال الأطلسي» ضمّ أوكرانيا وجورجيا إليه، والوصول إلى أسوارها. كذلك، أتى الإعلان عن استراتيجية الامن القومي والدفاع الوطني والوثيقة النووية الاميركية، ليحمل إليها المزيد من اليقين أنّ واشنطن لا تنفك ترى فيها التهديد الاول. وهكذا، تنظر روسيا إلى التموضع العسكري الأميركي على الاراضي السورية بصفته قراراً بالبقاء أمداً طويلاً، نظير قواعدها في حميميم وطرطوس، وفي إطار المواجهة معها. كان التموضع الأميركي قد بدأ بحجة مقاتلة «داعش»، ولا يزال يماطل في الاعلان عن الانتصار على جنود أبي بكر البغدادي، كما فعلت سوريا وروسيا والعراق، وذلك للبقاء في سوريا ما شاء لها البقاء.
تحوّلَ هذا التموضع الى وجود عسكري مديد مع إقامة قاعدتين أميركيتين كبيرتين شرق سوريا في تل حجر في الرميلان، والأخرى في التنف، تزدحمان بالأسلحة الحديثة وبتقنيات عالية. وتحوّلت تل حجر منذ ثلاثة أعوام من مدرج احتياطي للجيش السوري شرق الفرات إلى قاعدة تستقبل طائرات النقل العسكري الأميركي الثقيل. إنّ هذا التداخل الاميركي الروسي الإيراني الإسرائيلي في سوريا، سوف يؤمن لمحور المقاومة تغطية روسية، وللمحاولة الجارية لفرض قواعد جديدة لردع العدوانية الاسرائيلية، في أيّ سيناريو مستقبلي.
الأخبار