الصورة الأمريكية في المزاج الألماني، امتعاض شعبي وتراجع في الثقة

الصورة الأمريكية في المزاج الألماني، امتعاض شعبي وتراجع في الثقة

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٨ مايو ٢٠١٨

يبدو أن أمريكا بدأت تخسر الكثير من قوتها الناعمة التي حاولت تكريسها على مدار العقود الماضية لدى الشعوب خاصة في الدول الحليفة لها، حيث إن استطلاعات الرأي تشير إلى أن المزاج الشعبي في الدول الأوروبية وخاصة في ألمانيا، لم يعد يميل إلى الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا، بل إن الأغلبية القصوى من الشعب الألماني لم تعد تثق بأمريكا كشريك سياسي، خاصة بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض وسياساته الاستعلائية حتى مع الحلفاء.
 
يشير استطلاع للرأي قامت به صحيفة "ديولت" الألمانية في الأول من مارس/آذار الماضي أن 65 في المئة من الألمان يعتقدون أن العلاقة بين بلادهم وأمريكا سيئة، وأشار أيضاً إلى أنّ 11 في المئة فقط من الشعب الألماني يثق بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبعد أقل من شهرين جاءت دراسة أخرى لتشير إلى مزيد من التراجع في الثقة بالشريك الأمريكي. حيث أكدت الدراسة التي أشرفت عليها القناة التلفزيونية الألمانية الثانية (زي دي اف) وتم الإعلان عنها 18 مايو/أيار الحالي، أن نسبة 82 في المئة من مواطني ألمانيا أعربوا عن عدم ثقتهم بأمريكا فيما وصف 14 في المئة فقط من الأشخاص الذين شملهم المسح "أمريكا" بأنها شريك يمكن الثقة به، والمفاجأة أن ثقة الألمان بروسيا والصين كانت أكبر من أمريكا، حيث أظهرت نتائج المسح أن 36 في المئة منهم يثقون بروسيا فيما أعرب 43 في المئة أنه يمكن الثقة بالصين.
 
وكان لصعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض تأثير سلبي على ثقة الألمان بأمريكا، حيث وصف كتّاب أوروبيون سلوكه بالغرابة والخداع والتهور والصبيانية والفظاظة، كما شكّل ترامب مادة دسمة للتهكم والسخرية لدى الأوروبيين، تجلّت في الرسوم الكاريكاتورية للصحف والمجلات، وصنع مجسمات ساخرة في الكرنفال الشعبي في ألمانيا (شباط/فبراير الماضي)، ومَردُّ ذلك للسياسة الاستعلائية الواضحة لترامب تجاه الاتحاد الأوروبي، كما أن صعود اليمين الأوروبي بشكل عام عزّز النزعة باتجاه أوروبا، بل باتجاه كل بلد منها على حدة.
 
طبعاً الأمر لا يتوقف على ترامب، إذ إن هنالك امتعاض عام من لعب أمريكا دور الوصاية على الدول الأوروبية والتدخل في شؤونها، بل التجسس على قادتها، حيث أبدت استطلاعات الرأي انزعاج الألمان من تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على هاتف "ميركل" المحمول – هذا الأمر حصل في عهد أوباما-، بل إن هنالك تعاطفاً واضحاً في الشارع الألماني مع الأمريكي "إدوارد سنودن" المطلوب لأمريكا بتهمة تسريب وثائق سرية حول برنامج التجسس الأمريكي، حيث ينظر أغلبية الشعب الألماني لسنودن كبطل.
 
من ناحية أخرى فإن خروج أمريكا من اتفاقية باريس للمناخ، وهي الاتفاقية التي وقّعت عليها جلّ دول العالم، والإصرار على التصرف كدولة فوق القانون، فاقمت من تدني الصورة الأمريكية لدى الشعب الألماني، والشعوب الأوروبية عموماً، وأخيراً وليس آخراً، أسهم خروج أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني في تراجع الصورة الأمريكية لدى الشعب الألماني، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ نحو 94 بالمئة من المواطنين الألمان يؤيدون اتخاذ دول الاتحاد الأوروبي موقفاً موحّداً بشأن الإصرار على الابقاء على الاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي فإن انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، كما يراه الألمان يشكّل خطوة نحو مزيد من القلاقل في المجتمع الدولي، وتؤثر سلباً على المصالح الاقتصادية الألمانية مع إيران.
 
في الوقت الذي تقوم فيه الإدارة الأمريكية بتأجيج الصراعات في العالم، يرى الألمان أنها تقوم بالضغط على بلادهم لتحميلها التكلفة وزيادة مساهمتها المالية في حلف الناتو، حيث رضخت ألمانيا لقرار ترامب برفع الميزانية العسكرية في الناتو من 1.2 إلى 1.5 في المئة من إنتاجها القومي، فيما لا يزال ترامب غير راضٍ ويطالب بالأكثر حيث يريدها أن تتجاوز 2 في المئة من الناتج القومي الألماني.
 
الإدارة الأمريكية مؤخراً لم تعد تفضّل التعامل مع الاتحاد الأوروبي كمنظمة إقليمية، حيث إن تكتل الأوروبيين داخل اتحادهم يجعلهم أكثر قوة في مفاوضاتهم التجارية والاقتصادية، لذلك تفضل أمريكا التعامل مع الدول الأوروبية كل على حدة وفق ما تقتضيه مصلحتها، وهو الأمر الذي يجد فيه الألمان محاولة لدفع الاتحاد الأوروبي للانهيار، ما عزّز النزعة لديهم نحو أوروبا، وتراجع ثقتهم بالشراكة مع أمريكا.
 
مما سبق يبدو أن الشرخ الأوروبي الأمريكي مرشح لمزيد من الاتساع، خاصة مع صعود الحركات اليمينية في أوروبا، ويبدو أن أوروبا ستركز أكثر على قدراتها العسكرية خارج الناتو، وهذا بالفعل ما ظهر مؤخراً من خلال الحديث عن قوة أوروبية مشتركة، في الحقيقة ما يحصل فرصة للأوروبيين لتعزيز استقلالهم السياسي والعسكري كما الاقتصادي، ولاسيّما أن العالم سيتّجه نحو التعددية وليس القطبية.