حدود أوروبا: سمسرة بـ«مهاجري المتوسط»

حدود أوروبا: سمسرة بـ«مهاجري المتوسط»

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٣ يوليو ٢٠١٨

برغم أي عراقيل قد تواجه القادة الأوروبيين لناحية تنفيذ ما اتفقوا عليه بشأن ملف «الهجرة غير الشرعية»، فإنّهم يقتربون من صدّ أبواب قارتهم، ليس بوجه «اللاجئين» أو «المهاجرين» فحسب، بل بوجه المنظمات غير الحكومية المساعدة لهؤلاء أيضاً
في الأسابيع الأربعة الأخيرة وحدها، غرق أكثر من 600 شخص في البحر الأبيض المتوسط، من ضمنهم الرّضع والأطفال، حين كانوا يحاولون العبور باتجاه الشواطئ الأوروبية. يشكّل هؤلاء نصف المجموع الكلي للوفيات في البحر لعام 2018 حتى الآن، ومن المتوقع أن يرتفع عدد الضحايا مع استمرار عمليات «الهجرة الجماعية»، لكن من دون وجود قوارب إنقاذ هذه المرة.
غياب تلك القوارب يعود إلى الحملة الشرسة التي يقودها قادة في الاتحاد الأوروبي ضد الجهات التي كانت تُنقذ من كانوا يوصفون إعلامياً في سياق الاتهامات الأوروبية المتبادلة بـ«أبناء (المستشارة الألمانية أنجيلا) ميركل»، وباتوا اليوم «مسلمين غزاة... يهددون التوازن الديموغرافي لأوروبا»، وفق رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
 
«عسكرة الحدود»
في هذه الأيام، وبعد سنوات من الاستثمار السياسي والإنساني في ملف «الهاربين من حروب الشرق الأوسط»، تأخذ أوروبا مساراً سياسياً جديداً في تعاطيها مع «أزمة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط»، أحد أسبابه رضوخ المنظومة الأوروبية أمام ضغوط زعماء سياسيين شعبويين جدد يرفعون شعار «رفض الهجرة».
تزامناً، «حدود أوروبا» التي ما فتئت تتسع ثم تضيق خلال الأعوام القليلة الماضية، وذلك وفق الحسابات السياسية لزعماء القارة، ووفق توافقات «الأمر الواقع» التي كانت تفرضها تركيا على الأوروبيين (آخرها اتفاق آذار 2016)، ها هي تخسر من صورتها المادية كما المتخيّلة بسبب الضغوط الداخلية التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي وبسبب العوامل الجيوسياسية المحيطة به.
من بين تداعيات مجمل هذه الظروف، ثمة جهود جديّة حالياً لتعزيز «ضبط» حدود القارة وتوسيع مهمات قوات بحرية ستكون بمثابة «حرس حدود» لأوروبا، ولعرقلة عمل سفن إنقاذ «الغارقين في البحر» التابعة للمنظمات غير الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، يُرادُ أيضاً من قبل بعض القادة الأوروبيين إنهاء العمل بـ«نظام دبلن» الخاص باللاجئين الذي أقيم في التسعينيات، وتطور لاحقاً، والهادف بالأساس إلى تحديد هوية الدولة المسؤولة عن تلقي طلب اللجوء ودراسته والبت فيه من الناحية القانونية أو الإنسانية.
في هذا الصدد، اجتمع القادة الأوروبيون في بروكسل، في اليومين الأخيرين من شهر حزيران الماضي، في قمة وضعت على صدارة جدول أعمالها «ملف الهجرة»، وسعت لمعالجة أزمة أوروبية داخلية ضخّمها الشعبويون اليمينيون الذين يبثون مشاعر الخوف على «هوية القارة». خلال هذه القمة التي تبعتها بعد أيام قمة أخرى في النمسا على مستوى وزراء الداخلية، تعهد قادة الاتحاد الأوروبي «دراسة» مبدأ إقامة «منصات إنزال إقليمية» خارج أوروبا «للمهاجرين الذين يُنقَذون في المياه الدولية»، شبيهة بمراكز الاحتجاز الممولة من الاتحاد الأوروبي الموجودة في ليبيا. وتناقش الدول الأوروبية حالياً إمكانية التعاون بالخصوص مع دول مثل الجزائر ومصر وليبيا والمغرب والنيجر وألبانيا، ولكن حتى الآن لم توافق أي دولة بعد على استضافة هذه المراكز. وفي إشارة إلى «سفن الإنقاذ» التابعة لمنظمات دولية، يدعو الاتفاق إلى ضرورة احترام كافة السفن للقوانين، وعدم تدخلها في العمليات التي يقوم بها خفر السواحل الليبيين.
في المقابل، إنّ «الحكومات الأوروبية متهمة بالتواطؤ في ما يخص توقيف مهاجرين في ظروف مروعة في ليبيا، تُمارَسُ خلالها أبشع أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان الرئيسية»، يقول مؤسس منظمة الإغاثة الألمانية «ميشن لايفلاين» أكسيل ستيير، في سياق حديث إلى «الأخبار»، مضيفاً أنّ «آلاف المهاجرين يتعرضون للتعذيب، بينهم نساء وأطفال». من جهته، يدعو منسّق مشروع «أطباء بلا حدود» على سفينة «أكواريوس» ألويس فيمارد، الاتحاد الأوروبي إلى «وضع آلية مخصّصة لإنقاذ الأشخاص في عرض البحر، عوضاً عن تطبيق سياسات المنع والاحتواء التي ينتج منها إبقاء الأشخاص عالقين في ظروف غير إنسانية داخل ليبيا».
النقطة الثانية التي طُرحت خلال القمة، تتمثل في إقامة «مراكز خاضعة للمراقبة» في دول أوروبية «على أساس تطوعي» يوضع فيها «المهاجرون» بعد وصولهم، وتجري فيها «بصورة سريعة» عملية فرز لتوزيعهم لاحقاً ضمن الاتحاد الأوروبي، أو إعادتهم إلى بلدانهم. وهذا ما يفتح الباب أمام دفن اتفاقية دبلن الأوروبية الموقعة في بداية التسعينيات، ما يعني أنّ ثمة دولاً لم تعد تريد المشاركة في تقاسم «أعباء اللجوء». واستخدمت القمة مصطلح «خاضعة للمراقبة» بدلاً من «مغلقة»، لكن في الحقيقة فإنّ هذه المراكز بمثابة سجون وليست واضحةً بعد المدة الزمنية التي سيحتجز فيها اللاجئون.
برغم ذلك، لم توافق أي دولة أوروبية على إقامة «مراكز استقبال لمهاجرين» جاؤوا من دول أوروبية أخرى. حتى إيطاليا المرحبة بالمقترح الذي جاء استجابة لرغبتها في أن يحصل «تشارك المسؤولية»، فإنّها لم توضح إنْ كانت ستقيم مراكز من هذا النوع على أراضيها. في السياق، أعلن الرئيس الفرنس إيمانويل ماكرون، أنّ بلاده «ليست بلد استقبال أول، وبالتالي لن تقيم مراكز» من هذا النوع، فيما قال البولندي ماتيوش مورافيسكي، إنّ تضمين جزء «التطوع» يمثّل «نجاحاً هائلاً»، خاصةً بعدما رفضت بلاده «استقبال المهاجرين» على غرار المجر. وفي هذا الصدد أيضاً، أعلن رئيس الوزراء المجري أنّ بلاده «ستبقى بلداً مجرياً ولن تتحول إلى بلد مهاجرين»، فيما أشار نظيره السلوفاكي بيتر بيليغريني إلى أنّه «بشأن الحصص الطوعية، سأكون حذراً جداً».
جدير بالذكر أنّه بحسب الأرقام الصادرة عن المفوضية الأوروبية، فإنّ هنغاريا وبولندا هما الدولتان الوحيدتان اللتان لم تلتزما استقبال أي لاجئ بموجب «نظام إعادة التوطين»، فيما استقبلت كل من النمسا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك ما بين 12 و 16 لاجئاً فقط. ولعلّ عضو قيادة حزب «اللائحة الموحدة» اليساري في الدانمارك هانس يورغن، نجح في توصيف الوضع الحالي بقوله إنّ «القارة بدأت تركع أمام اكتساح الفكر الشعبوي... لقد خلقنا قلعة أوروبية مغلقة».
المتحدث باسم «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» (القريب من ملفات الهجرة واللجوء عبر المتوسط)، رمضان بن عمر، يعيد سبب هذه المقترحات وطبيعة النقاشات بخصوصها إلى ارتفاع أصوات ونفوذ «اليمينيين من الشعبويين المتطرفين» حتى أصبح المزاج العام في أوروبا «معادياً للاجئين». ويقول في حديث إلى «الأخبار»: «لطالما كانت الهجرة عبر التاريخ عامل إثراء إنساني للمجتمعات، ومصطلحات تهديد الأمن والاستقرار والنسيج الاجتماعي شعارات دفعت بها قوى يمينية متطرفة معادية للهجرة وتدافع عن انغلاق أوروبا وانعزالها». ويأسف بن عمر لنجاح «هذه التيارات في الوصول إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية، (فيما) تشكلت مجموعات ضغط قوية تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي وبكل المقاربات الإنسانية في التعامل مع قضايا الهجرة».
أما النقطة الثالثة من الاتفاق، فهي تشير إلى تعزيز الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد، اعتبرت القمة أنّ النهج المتبع حتى الآن «ناجح»، إذ انخفض عدد الوافدين بنحو غير قانوني إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 95 في المئة منذ تشرين الأول 2015. ومن المتوقع منح المزيد من الموارد، بما في ذلك العسكرية منها (نحو 10 آلاف عنصر) لحرس الحدود، وتحديداً لوكالة حماية الحدود الأوروبية (فرونتكس). لكن يبقى أنّ «عسكرة الحدود الأوروبية لن تمثل الحل لوقف تدفقات المهاجرين، وإعطاء المزيد من الموارد لن يكون إلا بهدف التدخل الخارجي»، يقول بن عمر، معتبراً أنّه «كان من الأجدى أن تكون هذه الإمكانات الضخمة جزءاً من المقاربات الإنسانية والعمود الفقري لعمليات الإنقاذ بالمتوسط».
 
«أسوأ مقبرة جماعية»
«أيدي الاتحاد الأوروبي ملطخة بالدماء»، يقول أكسيل ستيير في سياق حديثه إلى «الأخبار»، معتبراً أنّ «أوروبا أثبتت في الأسابيع الماضية أنها لا تكترث بمصير اللاجئين وأنّ أرواح الأبرياء لا قيمة لها عندها، وهذه الانتقادات (تجاه المنظمات غير الحكومية) لن توقف عملنا أبداً». وحالياً، إنّ «ترك الرجال والنساء والأطفال يغرقون في البحر المتوسط، قرار أوروبي متعمّد»، تقول منظمة «أطباء بلا حدود»، مذكرة في الوقت نفسه بمنع السلطات الإيطالية قبل أسابيع لسفينة البحث والإنقاذ «أكواريوس» التي تديرها المنظمة بالشراكة مع منظمة «أس أو أس ميديتيراني»، من إنزال 630 شخصاً كانوا قد أُنقذوا من البحر (ظلت السفينة في عرض المتوسط نحو 8 أيام بحثاً عن مرفأ، قبل أن تستقبلها مدينة فالنسيا الإسبانية). وقد وجه كل من رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، انتقادات حادّة إلى هذه المنظمات، ولا سيما «أكواريوس» و«ميشين لايفلاين»، إلى درجة اتهامها بعدم احترام القوانين، وبشكل غير مباشر بـ«خدمة مهرّبي البشر».
ألويس فيمارد، يرى أثناء حديثه إلى «الأخبار»، أنّ «الاتفاق الأوروبي (الأخير) مخيب للآمال، ولا سيما أنه اتُّخذ بعد الأشهر الأكثر دموية في 2018»، كما يشرح في الوقت نفسه أن «الشيء الوحيد الذي اتفق عليه قادة الاتحاد الأوروبي، إبعاد الناس عن شواطئهم بأي ثمن».
إزاء هذا المشهد، يُعلّق الأديب الإيطالي إري دي لوكا، في سياق حوار أخير أُجري معه، قائلاً: «اليوم، جعلنا من المتوسط أسوأ مقبرة جماعية». الأديب نفسه، كان قد خلّد ذكرى 800 شخص غرقوا في البحر في نيسان عام 2015، عبر قصيدة تقول: «ليتبارك ملح بحرنا؛ لتتبارك أعماقه المحتضنة للمراكب المزدحمة؛ (مراكب) بلا دروب أبحرت فوق أمواجك... لونك قمحي في الفجر؛ وبلون كروم العنب عند الغسق؛ زرعناك بالغرقى أكثر مما فعلته أزمنة الأعاصير».
من جهة أخرى، ففي ما يخص العلاقة الأوروبية بـ«موجات الهجرة»، قد يُضيّع الباحث بوصلته إذا درس الأمر من ناحية «المهاجرين» ودوافع «هجرتهم» من جهة، ومن ناحية «مجتمعات الاستقبال» الأوروبية من جهة أخرى. بمعنى آخر، التركيز يجب أن يكون على «مجتمعات الاستقبال» لأنّه لمرة تكاد تكون الأولى تتعرى السياسات الأوروبية أمام ملف بهذا القدر من المحمولات الإنسانية. ولا داعي للتذكير هنا بأنّ السياسات الأوروبية تجاه «المهاجرين» كانت استثمارية الطابع وكان يجري توظيفها في ملفات سياسية داخلية وأخرى خارجية.
لكن برغم ذلك، يرى ألويس فيمارد أنّه «يجب على أوروبا وضع ما يسمّى أزمة اللاجئين الأوروبية في منظورها الصحيح، إذ إنّ الأزمة ليست أزمة لاجئين، بل هي بالأحرى أزمة سياسيّة»، موضحاً أنّ «الأعداد الهائلة للاجئين والمهاجرين التي يتحدّث عنها القادة الأوروبيون ليست سوى جزء بسيط من عدد النازحين حول العالم... فتركيا وأوغندا وباكستان ولبنان والعراق، لا أوروبا، تحتل صدارة لائحة البلدان المضيفة للاجئين».
أما رمضان بن عمر، فيتهم أوروبا بـ«تمويل النزاعات في دول الجنوب، متورطةً (فيها) عبر أذرعها المالية والتجارية والعسكرية»، ويضيف أنّها أيضاً «جزء غير ظاهر من العوامل الطاردة للسكان في دول الانطلاق من خلال سياساتها في تلك المناطق، وبالتالي ليست في موقع يسمح لها بإعطاء المواعظ للمنظمات الإنسانية». وتعليقاً على الاتفاق الأوروبي الأخير، يقول بن عمر إنه «انتهاك واضح للحقوق الإنسانية للمهاجرين»، لافتاً إلى أنّ بعض الدول الأوروبية رفعت صراحةً شعار «دعه يمُت!».
 
 
ميركل تنازلت عن «الباب المفتوح»
سياسة «الباب المفتوح» الشهيرة التي اتبعتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في خريف عام 2015، سرعان ما بدأت تتراجع عنها خلال الأشهر التالية. وفي 2016، قال مثلاً الوزير السابق سيغمار غبريال إنّ «ما نفعله اليوم يتعارض مع ما كنا نفعله العام الماضي»، في إشارة إلى بداية التخلي عن سياسة «الباب المفتوح».
برغم ذلك، إنّ القطيعة الأساسية مع تلك السياسة بدأت خلال الخريف الماضي عقب الانتخابات التشريعية التي أجريت في شهر أيلول. وقد تبع ذلك الاستحقاق مرحلة امتدت على مدار 120 يوماً لتشكيل ائتلاف حكومي برئاسة ميركل، التي أضعفتها الانتخابات التشريعية وشهدت فوز أقصى اليمين بعدد من المقاعد. وعقب قمة بروكسل الأخيرة، ضجّت الصحف الألمانية بصورة أنجيلا ميركل، وهي تضع رأسها على صدر رئيس وزراء فنلندا يوها سيبيلا. «ميركل الضعيفة» هزّت الرأي العام الألماني، بعد 3 أيام من القمة التي شهدت انقلاب «ماما ميركل» على توجهاتها السابقة.