السياسة الامريكية الخرقاء.. إلى أيـن؟!

السياسة الامريكية الخرقاء.. إلى أيـن؟!

أخبار عربية ودولية

السبت، ١١ أغسطس ٢٠١٨

لاشك في أن المراقب أو المتابع السياسي يحتاج إلى قدرة إضافية من أجل الإمساك بشكل دقيق وموضوعي بخيوط ومسارات وتوجهات السياسة الأميركية، أي يحتاج إلى ضرورة التفريق بين الكذب والصدق في المواقف الأمريكية، وبين الثانوي والأساسي، وبين التكتيكي والاستراتيجي وقبل ذلك وضع اليد بشكل كامل على ما تثيره الولايات المتحدة بلسان رئيسها ترامب من بالونات اختبار حيال الأوضاع ليس في سوريا فحسب، بل أيضاً حيال أوضاع المنطقة عموماً، خاصة بشأن موقف أميركا من إيران ومن سوريا ومن القضية الفلسطينية وما تطرحه من مشروعات تريد من خلالها استمرار ادعائها بالخصومة مع روسيا، وفي أفضل الأحوال ما عبّر عنه الرئيس ترامب في قمة هلسنكي من أن روسيا ليست صديقاً، بل هي منافس شريف، وذلك في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس فلاديمير بوتين.
منذ شهور والولايات المتحدة تعلن أنها ستسحب قواتها من سوريا في ظل الضغط الروسي والدولي على الإدارة الأميركية، والأهم من ذلك بسبب الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري حتى في المناطق القريبة والمتاخمة لوجود هذه القوات التي هي في القانون الدولي قوات احتلال وغير شرعية، لكن في الوقت نفسه تسعى أميركا إلى الاستمرار في تبني ودعم ما تبقى من «داعش»، وهو ما جرى في بادية شرقي السويداء، فأميركا شكّلت غطاء لمجموعات «داعش» الإرهابية وجرائمها في السويداء وشكّلت أيضاً الحاضن لهؤلاء الإرهابيين عبر نقلهم إلى مناطق تعتقد أميركا أنها قد تكون ساخنة لإعادة تشغيل هذا التنظيم الإرهابي المتوحش، وهو ما يطلق عليه «الحروب المتنقلة» والتي تريد أميركا من خلالها الإبقاء على وجودها لاستباحة الأرض السورية.
وفي الوقت الذي بدأت فيه أميركا بفتح حرب جديدة على الجمهورية الاسلامية الايرانية بعقوبات أرادت أن تستكملها بشأن انسحابها من الملف النووي الإيراني، وتراجعت في الوقت نفسه كنوع من التأجيل بإعلان «صفقة القرن» حيال القضية الفلسطينية وهي الصفقة التي ماتت قبل أن تولد.
كل هذه النيّات الأميركية تدلل على أنه ينبغي عدم الوثوق مجدداً بالسياسة الأميركية المقامرة والخرقاء والعدوانية ولابد هنا من إجبارها على التخلي عن هذه السياسة.
ويقول الكاتب إدريس هاني حول طرق ترامب لباب طهران: يحار المرء في تصنيف النزعة التّرامبية ما بين آلتين للنّفخ النّحاسي: Trumpet وTrombone..تبدو الأولى آلة متطورة أكثر بعد التحسينات التي خضعت لها وإن كانت مثل ترامب من أصول ألمانية (ظهرت ترامبيت عام 1920).. لكن هو أكثر ميلاً إلى ترامبون لأنّها تملأ الفراغات ويكتفى باثنتين في الأوركسترا مقابل ثلاثة من الترامبيت.. ثلاثة أزرار تجعلها تنتقل عبر السلم الموسيقي وحيث تبدو الطبقات مشروعة من «دو» الخفيضة إلى «دو» العالية وكل شيء رهين بالنظم النغمي ذهاباً وإياباً: (دو ري مي فا صو لا سي دو) + (دو سي لا صو فا مي ري دو).. تتوقف المهارة هنا على تحكم العازف في مسارات النفخ..لا أدري إن كان ترامب يحسن عزف الترامبيت لأنني أتصوره مسبقاً لا ينزل عن الخامسة.. والأهم أنه لا يحسن ترتيب الصولفيج أعلاه.. فهو ينشز كثيراً ولا يتقن العودة على أصول السلم الموسيقي للسياسة.
بالنسبة إلى ميركونتيلي يظلّ للنشاز قيمة مضافة حتى وإن لم تكن مقنعة لكنك تجد لها آذاناً مصغية في نظام دولي فاقد للذوق الموسيقي.. ويحتاج هذا النّشاز إلى وسائط إمبريالية لكي يحتلّ مساحات أوسع من السّماع.. لو كان ترامب في دولة عالم ثالثية لكان عنواناً لأتفه مسخرة.. ولكنها الإمبريالية ومساحيقها التي تقلب سلّم القيم كما تقلب سلم النغم..
إنّ الترامبيت حين تخرج عن سلالمها النغمية فهي من أنكر الأبواق، وكذلك استطاع ترامب وبمنهجية أن يملأ العالم بضجيج كاف لكي يجعله الرئيس المميز في تاريخ البيت الأبيض: التميّز بالنّشاز.
وأعلن تراماده للقاء الرئيس الإيراني والحوار مع القادة الإيرانيين من دون شروط مسبقة، وذهب إلى حدّ إمكانية إمضاء اتفاقية جديدة مع إيران مختلفة عن تلك التي خرج منها، وكل هذا يتم بعد أن نفخب استعد في ترامبون الوعيد بالحرب.. الكرة اليوم في يد الإيرانيين، وهي فرصة لكي يلقنوا درساً لخصومهم في الخليج الفارسي.. لكن هناك فرق كبير بين النزعتين.. الإيرانيون لا يهرولون كما يفعل قادة مدن الملح، لذا هم يطالبون أميركا بأن تعود إلى الاتفاق وتحترم قواعد وأعراف المعاهدات الدولية.. ومعروف مسبقاً أنّ حواراً بين أميركا وإيران على الرغم من أنه مطلوب إذا جرى على أسس عادلة ومتينة، هو حوار صعب ومعقّد ليس نظراً لطبيعة العلاقات المتشنجة منذ عقود بين البلدين، بل نظراً للسياسة الأميركية الثابتة في المنطقة التي تقوم على الهيمنة وخرق السيادة ومحاربة استقلالية القرار.
موانع قيام حوار بين أميركا وإيران كثيرة ومنها التزامات إيران المبدئية تجاه القضية الفلسطينية..هذه الأخيرة قضية جادة في البرنامج الإيراني سبّبت الكثير من التحدّيات والحصار لإيران.. ما تسمّيه الترامبونات بأطماع إيران في المنطقة أحجية بالية تعتمد سلطة التكرار لكنها لا تقوم على أيّ سند في التاريخ: إيران تاريخياً لم تكن توسّعية شأن الأتراك؟ ما الذي جعل المنطقة تسكت عن عودة التوسع العثماني بكيفية أخرى؟ مفارقة جيوبوليتيكية ترتكز على مقترب ميتا_طائفي صرف.
إلى أي حدّ يستطيع ترامب أن يكون مقنعاً وهو يقفز فوق رأس الاتفاقيات الدّولية؟ وهل يملك الرّوية السياسية لكي يخوض لعبة الشطرنج مع من أخضع منطق الاستراتيجيا والسياسة لفصل العلم الإجمالي ونظرية القطع الطريقي والموضوعي والمشتق بمشتقاته اللغوية والفلسفية والأصولية؟.. أريد بهذا أن أؤكّد أنّ ما يشتمل عليه دماغ السيد الخامنئي من حوامل النظر يفوق ثقافة المقاول ترامب.. السيد الخامنئي أستاذ أيضاً في فقه المتاجر والمكاسب المحللة والمحرّمة.. مدرستان لا تلتقيان.. أمّا «سقط المتاع» الاستراتيجي في المنطقة فهو في «برزخ» بين أميركا وإيران أشبه بأطرش في زفّة جيواستراتيجية لا بدّ لها من نهاية.
ويضيف هاني: حينما تابعت تلويحات ترامب وضجيجه السياسي كنت على يقين بأنه سيتعب، فمن لا ينزل عن الخامسة في النفخ في الترامبيت سينقضي نَفَسَه سريعاً وتنتفخ أوداجه وتجحظ عيناه..وفي النهاية: إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث.
إلى أي حدّ يستطيع ترامب التنازل عن كل هذه الموانع، لأنّ الحوار مع إيران هو في النهاية مشروط بمطالب معروفة: التراجع عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بما أنّ ما تقوم به إيران ليس سياسة توسع بل حماية لأمنها القومي.. فقط الجاهلون بمفهوم ومدى الأمن القومي يجهلون قراءة المشهد.. ليست إيران ضعيفة لكي تُقاس درجة تفاعلها مع الحدث الإقليمي بالسياسات الإقليمية للجوار.. ماذا في وسع ترامب أن يفعل إزاء قراره نقل سفارة بلاده إلى القدس؟ ماذا في وسعه أن يعمل بخصوص الحرب على سوريا؟ ماذا عن الحرب في اليمن؟ ماذا عن سياسته في العراق؟ العراق الذي أطاحت به أميركا بينما تحاول الرجعية التي ساهمت في ذلك تحميل إيران كل تبعات الغزو الأميركي للعراق.. نجهل أي مصير كان سيكون عليه العراق فيما لو أنّ إيران التزمت الحياد..غير أن ترامب ليس وحده بل هو يلعب دور مجنون البيت الأبيض بينما السياسات العميقة تحبك بمنطق الحسابات بعيدة المدى.. هو يدرك أنّ الجغرافيا هي المحدد الأساس للسياسات وليس العكس.. وهو كميركونتيلي يقرأ الجغرافيا جيداً وله حدس حيال المجال.. فالميركونتيلي يكره تجاوز قدرية المكان وهو لا يخضع السياسة للخيال ولاسيما أنه يدرك أنّ ما تنطق به أبواق المنطقة ينتمي إلى معزوفة المهزوم.
لقد قرر ترامب تحويل القوة الأميركية إلى مقاولة.. وهو قبل أن يخوض في أي مشروع – ولم يعد هناك من إمكانية للتفرد بالعالم – يريد محاسبة الدول المحمية على استحقاقات قديمة.. التلويح بالمواجهة هو شكل من العرض والإعلان التجاري للحرب.. ترامب يدرك تماماً أنّ الحرب مع إيران تتجاوز في تكلفتها قرار التخلّي عن حماية «إسرائيل».
لقد نجح خصوم سوريا في الاستهانة بإيران حتى أصبحوا رهينة لهذا الاعتقاد، وهنا تكمن الخطورة، لأنّ أميركا لا تطلب الحوار من دولة ضعيفة.. ولأنّ الغرب متقدّم في تشخيص القوة الإيرانية عن الكثير من الدول العربية التي تعد السياسة ضرباً من الممارسة الكيدية.
لقد ركل ترامب مؤخّرة كل الاستراتيجيين وقوّادي القلم في المنطقة، أولئك الذين مزّقوا بمناقيرهم كلّ الخرائط الوهمية ورسموا صورة مأسوية على هامش الضجيج الترامبّي/الترامبّيتي..استراتيجيون هم فضلاً عن جهلهم بقواعد التفكير الاستراتيجي وجهلهم بالمعطيات الكافية.. هم حالة توريطية ودعائية ترى في حبك المثالب استراتيجيا وفي «تربكة الحنك» بديلاً عن الحقيقة.. لقد حوّل العرب السياسة الدولية إلى عقائد تبسيطية ومواقف صبيانية.. وسوف يعمل ترامب على إفلاس العرب مادّياً ومعنويّاً في انتظار حوار مع إيران من دون شروط.