واشنطن والرياض للعراقيين: العبادي أو «خراب البصرة»

واشنطن والرياض للعراقيين: العبادي أو «خراب البصرة»

أخبار عربية ودولية

السبت، ٨ سبتمبر ٢٠١٨

ليس الحراك الدائر في محافظة البصرة مفاجئاً أو من خارج السياق. هو نتيجة طبيعية لسياسات كل من تعاقب على حكم العراق في ظلّ الاحتلال الأميركي وبعده. سياسات حوّلت بلاد الرافدين إلى بؤرة لجميع أشكال الفساد والهدر وامتهان كرامة المواطنين. لا يمكن تبرئة أحد ممن جلسوا على كراسي الحكم في بغداد، من تهم الفساد والإفساد والسرقة والنهب وتحويل حياة العراقيين إلى جحيم. لكن أكثر من يتحمّل مسؤولية عما يجري في العراق اليوم، وبخاصة في البصرة، هو حيدر العبادي. رئيس الحكومة الذي فشل في تأمين الحد الأدنى من موجبات تحسين ظروف عيش البلاد العائمة على ثروات، لا يخجل من ممارسة انتهازية قصوى، على حساب دماء شعبه، وهو المسؤول عن الأمن والاقتصاد والمالية... انتهازية تسمح له بتخيير أهله بين الفوضى والتبعية للمشروع الأميركي الذي دمّر العراق، وأطلق عفاريت الطائفية والاقتتال فيه... انتهازية تسمح له اليوم بتحويل نفسه مطية لواشنطن والرياض الراميتين إلى استغلال الاحتجاجات لتشكيل «حكومة عميلة»؛ وتقديم نفسه، في آن معاً، حلاً وحيداً للأزمة التي يساهم في تسعيرها من خلال سحب الأمن «حيث يجب»، وإعادة فرض حظر التجول بعد إيصال «الاحتجاجات غير العشوائية» رسائله (ومن خلفه واشنطن) إلى الوجهة المطلوبة. لا أفق للحل في العراق، لكن، لا شك في أن أي بارقة أمل لا يمكن أن تظهر إلا بخروج حيدر العبادي من الحكم.
اتخذت الاحتجاجات المندلعة في مدينة البصرة (جنوب العراق)، يوم أمس، مساراً جديداً (كانت تسارعت مؤشراته خلال الأيام القليلة الفائتة)، مع تحوّلها إلى اعتداءات على مراكز «الحشد الشعبي» ومبنى القنصلية الإيرانية. اعتداءات تشي بوضوح بأن ثمة يداً تحاول استغلال الحراك الشعبي المطالِب بالخدمات وتحسين الوضع المعيشي لتحقيق غايات سياسية، لا تبدو بعيدة من «الكباش» الدائر على خط تشكيل الكتلة النيابية الأكبر والحكومة. يشير كثيرون، هنا، بأصابع الاتهام إلى الأطراف نفسها المُتّهمة من قِبَل فصائل المقاومة و«الحشد» وحلفائه بقيادة مخطط لإيصال «حكومة عميلة»، والمقصود بذلك الولايات المتحدة والسعودية، التي بدت وسائل إعلامها أمس مُغتبِطةً بـ«خراب البصرة».
المسار الذي آلت إليه احتجاجات الجنوب، والذي وصفته «تنسيقية التظاهرات في محافظة البصرة» بأنه «تصفيات سياسية على حساب جراحنا»، مُعلنةً انسحابها من الميدان، يظهر وكأنه محاولة لإيصال رسالة إلى إيران وحلفائها بأن ثمة من يملك القدرة على قلب الطاولة في أي لحظة، ومن ثمّ تقديم رئيس الوزراء حيدر العبادي كـ«إطفائي» لا مفرّ من القبول به، تحت طائلة تفجير الشارع، وجرّ فصائل المقاومة إلى اقتتال داخلي. ولعلّ ذلك السيناريو هو ما أرادت الفصائل التلميح إليه، بإصدارها بياناً دعت فيه العبادي إلى الاستقالة. وهي دعوة سرعان ما تبنّاها تحالف «الفتح» (بزعامة هادي العامري) أيضاً، بمطالبته العبادي بـ«تقديم استقالته فوراً».
مشهد النيران التي كانت تلتهم المقرات والمنشآت الحكومية ومراكز «الحشد الشعبي» ومبنى القنصلية الإيرانية في البصرة أمس، لا يبدو - في دلالاته السياسية - مفاجئاً، إذا ما استُعيدت مقدّماته التي كانت للرياض حصة الأسد فيها. طيلة الأشهر الماضية، ركّزت السعودية عينها على البصرة، ووضعت ثقلها في محاولات اختراق المحافظة الجنوبية وخصوصاً مركزها، سواءً عبر خطوات «ناعمة» (كالاستثمارات والمشاريع والتبرعات المالية والدعاية)، أو عبر شراء الولاءات والأراضي بواسطة سماسرة محليين. هذه التحركات جميعها ظهّرت المملكة، خلال الساعات الماضية، وكأنها تسعى إلى قطف ثمارها، من خلال تصوير نفسها كمتعاطف مع مطالب «البصريين»، وفي الوقت نفسه تولّي مهمة التحريض على فصائل المقاومة و«الحشد» وداعميه الإقليميين. مهمة ليست، بالنسبة إلى هؤلاء، إلا جزءاً من خطة أميركية، ترى الولايات المتحدة في الفورة الشعبية الراهنة في البصرة الفرصة الأنسب لتصعيد خطوات تنفيذها، خصوصاً بعدما لمست واشنطن أن عزمها على تشكيل حكومة على هواها لن يمرّ من دون مقاومة، وأن الطرف الآخر ماضٍ في مواجهة المخطّط الأميركي حتى النهاية.
المخطّط الذي كانت فصائل «المقاومة» نبّهت إليه قبل أيام، استكملت التحذير منه ببيان صادر ليل الخميس - الجمعة، وصّفت فيه ما يجري بأنه محاولة لـ«إشعال نار الفتنة، والاقتتال الداخلي في محافظات الوسط والجنوب»، مؤكدة «وعينا الكامل بخطورة المشروع الأميركي - السعودي الذي يستهدف العراق دولة وشعباً». ودعت الفصائل الأطراف المحلية إلى أن «لا تكون أدوات لتنفيذ المشروع الأميركي - السعودي»، مُحمّلةً رئيس الحكومة المنتهية ولايته «كامل المسؤولية في أزمة الخدمات... وكذلك التسبب في الانفلات الأمني في المحافظة»، داعيةً إياه إلى «تقديم استقالته فوراً». وفي الاتجاه نفسه، تحدث تحالف «الفتح»، أمس، عن «مجاميع مندسة تتحرك بأجندات خارجية بهدف دفعنا للتصادم مع أبناء شعبنا»، مطالباً العبادي بـ«تقديم استقالته فوراً بسبب الفشل الواضح في جميع الملفات».
تشديد الفصائل - ومعها «الفتح» - على تحميل العبادي مسؤولية ما يجري، ينبئ بإدراكها أن المطلوب من وراء إشعال النيران في البصرة وضع العراقيين بين خيارَين لا ثالث لهما: إما القبول بالعبادي مع ما بات يعنيه من خيارات على المستوى الاستراتيجي (انخراط في المشروع الأميركي في بلاد الرافدين)، وإما الفوضى التي يبدو أن ثمة استعداداً لإيصالها إلى أبعد ما يمكن إذا كان البديل منها نجاح خصوم الولايات المتحدة في تشكيل حكومة موالية لهم. مقايضة تحدث عنها بوضوح أمس الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، بإدراجه أحداث البصرة «ضمن مخطط أميركي - سعودي تنفذه أذرع حزبية عراقية»، مستشهداً على ذلك بأن «مقار الأحزاب التابعة لتحالف البناء (العامري ونوري المالكي) هي التي أُحرقت فقط، ولم تمتدّ يد لأحزاب تحالف الإصلاح (بقيادة العبادي)».
إلى جانب «الانتقائية» في أعمال الشغب، تُطرح علامات استفهام متعددة حول تمكّن متظاهرين من الوصول إلى الحقول النفطية ومقارّ البعثات الديبلوماسية، علماً أن محاولات لاقتحام مقارّ حيوية كانت سُجّلت خلال الفترة الأولى من الاحتجاجات، لكنها سرعان ما أُخمدت بعد حادثة اقتحام مطار النجف، من دون أن يتسبّب الأمر في حينه بوقوع هذا العدد الكبير من الضحايا. من هنا، يصبح مشروعاً التشكيك في تعاطي السلطة التنفيذية الحالية مع الحراك الشعبي، وسعيها إلى توقيت أي خطوة في شأنه بما يلائم مصالحها، وليس تحمّس العبادي لحضور الجلسة البرلمانية الطارئة التي تُعقد اليوم إلا جزءاً من تلك الخطوات المريبة، التي سيتمّ إلحاقها بقرارات وتوصيات إضافية، بحسب ما أبلغ مصدر قريب من حكومة تصريف الأعمال.
 
 
حظر تجول «حتى إشعار آخر»
انسحب المحتجّون، في وقت متأخر من مساء أمس، من منشأة لمعالجة المياه تابعة لحقل «غرب القرنة 2» النفطي، وأطلقوا سراح موظفَين عراقيين كانوا يحتجزونهما. وسيطر المتظاهرون على المنشأة الواقعة على بعد 65 كيلومتراً شمال غربي البصرة لنحو ساعة، من دون أن يتسبّب ذلك في تعطّل الإنتاج. وسبق الدخول إلى المنشأة اقتحام مقرّ القنصلية الإيرانية في المدينة، والسيطرة عليه، في ما رأت فيه الخارجية الإيرانية «اعتداءً همجياً»، مطالِبةً بـ«إنزال أشد العقوبات بحق الضالعين في الاعتداء». وكان المحتجّون أغلقوا، أول من أمس، ميناء أم قصر، الميناء البحري الرئيس في العراق، والذي ظلّ مغلقاً حتى أمس، فيما لم تتأثر صادرات البلاد النفطية. وخلال الساعات القليلة الماضية، أقدم متظاهرون على إحراق مقرات لحزب «الدعوة» ومنظمة «بدر»، ومراكز لـ«الحشد الشعبي» من بينها مقر «هيئة الحشد»، و«مركز جعفر الطيار» الطبي الذي احتُجز عدد من الجرحى داخله. ومع تطور الأحداث، ترأس رئيس الوزراء، حيدر العبادي، عصراً، اجتماعاً للمجلس الوزاري للأمن الوطني، أُعلن عقبه أنه سيتم صرف الأموال التي جرى تخصيصها سابقاً لإصلاح الخدمات العامة في البصرة. ومساءً، أعلنت السلطات إعادة فرض حظر التجوال في المدينة حتى إشعار آخر، مُحذرة من اعتقال أي شخص يتم الإمساك به وقت سريان الحظر.
 
السيستاني يحذر: التجاوزات تعقّد الحل
حذرت المرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني) من التطورات في مدينة البصرة وتفاقم الأزمة. ورفض ممثل المرجعية في مدينة كربلاء، عبد المهدي الكربلائي، ما تعرض له المتظاهرون من انتهاكات، مستنكراً في الوقت نفسه «الاعتداء على القوات الأمنية، والممتلكات العامة والخاصة بالحرق والكسر والنهب وغير ذلك». واعتبر الكربلائي، في خطبة الجمعة أمس، تلك التصرفات «إضافة إلى كونها غير مسوغة شرعاً وقانوناً، فإنها تسببت في أزمات جديدة، وتعقّد حل المشاكل التي يعاني منها المواطنون في الوقت الحاضر»، مناشداً «الجميع الكف عن هذه الممارسات، وعدم استخدام العنف، لا سيما العنف المفرط في التعامل مع الاحتجاجات، وتجنب التجاوز على الممتلكات العامة والخاصة».
وهاجم الكربلائي الأداء الحكومي بالقول: «هذا الشعب الصابر المحتسب لم يعد يطيق مزيداً من الصبر على ما يشاهده ويلمسه من عدم اكتراث المسؤولين بحل مشاكله المتزايدة وأزماته المستعصية، بل انشغالهم بالتنازع في ما بينهم على المكاسب السياسية»، متّهماً المسؤولين بـ«السماح للأجانب بالتدخل في شؤون البلد، وجعله ساحة للتجاذبات الإقليمية والدولية والصراع على المصالح والأجندات الخارجية». وحثّ ممثل المرجعية على تشكيل الحكومة الجديدة بعيداً من المعايير السابقة، ومراعاة «الكفاءة والنزاهة والشجاعة والحزم والإخلاص».
وكان زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، خاطب رئيس الحكومة، حيدر العبادي، في تغريدة على «تويتر»، دعاه فيها إلى عدم تجاهل مطالب المتظاهرين في البصرة، والتسريع في تقديم المشاريع الخدمية بعيداً من «التهاون والتمييع». وفي تغريدة أخرى، دعا الصدر القوى السياسية إلى وضع بحث «الكتلة الأكبر» جانباً، والاهتمام بأزمة البصرة.