بانتظار أردوغان.. إما تصعيد مع الرياض أو تمييع للقضية

بانتظار أردوغان.. إما تصعيد مع الرياض أو تمييع للقضية

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٢ أكتوبر ٢٠١٨

رمى محمد بن سلمان كرة اللهب بين يدي رجب طيب أردوغان. الرواية السعودية سيئة الإخراج ورديئة السيناريو لم تقنع العالم، لكنها جعلت الأنظار تتجه بشكل خاص نحو أنقرة. تركيا كما يُقال في المثل الشعبي هي "أم الصبي". جمال خاشقجي كانت لديه صلات مع جماعة الإخوان المسلمين وكثير من الصداقات مع حزب العدالة والتنمية بشكل خاص. هو صديق رجب طيب أردوغان ومستشاره ياسين أقطاي. تركيا هي أيضاً عرابة الإسلام السياسي بشقه الإخواني ووارثة الخلافة العثمانية التي تطمح إلى استعادة مجدها. فقط منذ أسبوع أكد أردوغان أن "تركيا هي الدولة الوحيدة القادرة على ريادة العالم الإسلامي بأسره، بإرثها التاريخي وموقعها الجغرافي وثرائها الثقافي".

تصريح ليس الأول من نوعه، لكنه يأتي هذه المرة في ظل أزمة اقتصادية خانقة تمر بها تركيا، هي الأسوأ منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم.

يذهب بعض المراقبين إلى أن قضية خاشقجي، رغم فجاعتها، شكلت فرصة ذهبية بالنسبة لأردوغان ذي المواقف البراغماتية. هي فرصة لاستعادة العلاقات الودية مع إدارة ترامب وإثبات أن أنقرة حليف يعتمد عليه. هي أيضاً فرصة لانتزاع بعض المكاسب من السعودية وتمريغ صورتها بما يفقدها هيبتها وأهليتها كمنافس على ريادة العالم الإسلامي. كذلك هي مناسبة للثأر من محمد بن سلمان ونظيره ولي عهد أبو ظبي على دورهما المزعوم خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في تموز/ يوليو 2016.

منذ البداية تعهدت تركيا بمواصلة التحقيق في مقتل خاشقجي وصولاً إلى استجلاء الحقيقة الكاملة. التسريبات التي نُشرت في صحف مقربة إلى الحكم وأخرى أميركية أسهمت في محاصرة الرياض وإحراجها سياسياً وإعلامياً.

آخر التعهدات التركية صدرت على لسان مسؤولين في حزب العدالة والتنمية عقب بيان منتصف الليل السعودي هزيل الحجة وضعيف المنطق. أردوغان وعد بشرح تفاصيل اختفاء خاشقجي الثلاثاء المقبل خلال اجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه.

بدا البيان السعودي غير كاف بالنسبة إلى تركيا التي باتت تتحمل مسؤولية أخلاقية وسياسية في الكشف عن حقيقة صافية بعد الإقرار السعودي غير المكتمل. وبانتظار أن تقول تركيا كلمتها خلال وقت قريب كما وعدت، يبقى السؤال الأساسي: إلى أي حد يمكن أن تذهب في مواجهة مع السعودية من خلال قضية خاشقجي؟ إن هي أعلنت مسؤولية محمد بن سلمان فهذا يقود تلقائياً إلى تصعيد معه، فهل يمكن أن تعلن ذلك رسمياً وبشكل واضح وهو صاحب الكلمة العليا في بلاده؟

ربما ترغب تركيا في محاصرة بن سلمان وصولاً إلى إقصائه لكنّ قدرتها على ذلك مسألة أخرى. هذه الرغبة تصطدم برغبة مختلفة لدى سيد البيت الأبيض الذي تسعى إلى التعاون معه.

لا تريد تركيا على الأرجح أن تخسر علاقاتها مع السعودية وهي تترأس الدورة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي. وضعها الاقتصادي يحد من قدرتها على مواجهة كهذه بحيث تحتاج إلى جذب الكثير من الاستثمارات والإيداعات المصرفية من السعودية. أردوغان الساعي إلى إحياء أمجاد السلطنة العثمانية ربما يرى أن من الحكمة عدم وضع الرياض في الموقع المعادي له.

لا شكّ أن تفاصيل المحادثات، وربما التفاهمات، التي تجري خلف الكواليس بين أنقرة والرياض وواشنطن هي أهم مما يكشف عنه. لا نعرف بالتحديد ما الذي حمله وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى الرياض وأنقرة. بعض تصريحات أردوغان خلال الأسبوعين الأخيرين تطرح شكوكاً وعلامات استفهام. قال مرة إنه يأمل في التوصل إلى "رأي معقول" في قضية خاشقجي. كيف يترجم ذلك؟ ألا يعبّر هذا الكلام عن استدراج عروض على حساب الحقيقة؟ وكيف ستتصرف تركيا بعد إعلان الرواية السعودية الهزيلة؟

إن أي تسوية توافق عليها السلطات التركية ستكون خاسرة فيها حتى لو جنت عوائد آنية. أي صفقة سوف تكون على حساب سيادتها وصورتها التاريخية والإسلامية. مصداقية أردوغان ستصبح موضع شك، وستترسخ القناعة بأن الرجل حاكم صفقات ومساومات أمام الرأي العام.

إذا قررت تركيا أن تستمر في تمييع الملف وتمرير الوقت بحجة انتهاء التحقيق من دون إعلان حقيقة النتائج والكشف بالصوت والصورة لما سربه الأمن التركي من وجود إثباتات، فهذا يعني على الأرجح أن أردوغان اختار إبرام صفقة كبرى، مع واشنطن أساساً ومن ثم الرياض.

لكن من قال إن صفقة من هذا النوع سوف تكون مكشوفة وأنها لن تحفظ ماء وجه أنقرة وتتيح لها الادعاء أنها قامت بواجبها الأخلاقي؟

يساهم الإقرار السعودي بالجريمة "دون علم ولي العهد"، بأن تقطع تركيا نصف الطريق، ويوفر لها مخرجاً من القضية إن قررت عدم المواجهة. إلى أين يمكن أن تصل نتائج التحقيقات الجنائية في تركيا بعدما غادرها جميع المتهمون أو الضالعون في الجريمة وما هي الأدلة التي ستكشف عن تورط محمد بن سلمان؟

يبقى احتمال أن يستمر التصعيد التركي وارداً. يصحّ ذلك إذا لمست تركيا اتجاهاً قوياً لدى أصحاب القرار في الغرب على تنحية بن سلمان، أو في حال لم تعطَ الثمن الذي تريده. في الولايات المتحدة لم ترسُ القضية بعد على قرار نهائي. واضح أن هناك تذبذباً في مواقف دونالد ترامب بما يعني أنه مضطر إلى التراجع أحياناً تحت ضغوط معينة وصولاً إلى التخلي عن بن سلمان. هذا الأمر يريح أردوغان في كشف المعطيات التي لديه. أصبحت القضية في الغرب قضية رأي عام تستوجب إعلان مواقف من قادتها. تعاسة الرواية السعودية تزيد سلطات هذه الدول إحراجاً أمام جمهورها. وحده ترامب يدلي بالشيء وعكسه. آخر تصريحاته في بورصة المواقف جاء ليل السبت. عبّر عن عدم رضاه عن موقف السعودية من وفاة خاشقجي لكنه أعلن في الوقت نفسه أن "ولي العهد السعودي لم يعلم بمقتل خاشقجي". في اليوم الذي سبقه وتعليقاً على بيان النائب العام السعودي اعتبر أن التفسير السعودي لما جرى مع خاشقجي "ذو مصداقية"، وقال إنه "لا يعتقد أن القيادة السعودية كذبت عليه".
سلّم النجاة
من الواضح أن ترامب يسعى إلى إلقاء سلّم نجاة لبن سلمان، مبرراً ذلك أمام الأميركيين بمواجهة إيران وصفقات الأسلحة. من هنا جاءت سردية القتلة المارقين التي إما أن تكملها الرواية التركية بإظهار المزيد من التفاصيل لكنها تبقى تحت هذا السقف، وإما أن تتعداها للوصول إلى الآمر والمخطط الحقيقي.
في كلتا الحالتين سوف تجد نتائج التحقيقات التركية صداها في الإعلام الأميركي. ستعطي مزيداً من الزخم لصحيفة "نيويورك تايمز" التي اعتبرت أن "الأكاذيب السعودية بشأن مقتل خاشقجي صارخة جدا وغير قابلة للتصديق". كذلك ستبقي على القضية حية على الصفحة الأولى من صحيفة "الواشنطن بوست" التي اعتبرت أن "البيان السعودي حول خاشقجي لن يخفف من المطالب الدولية بمحاسبة المملكة".
رفض الصحيفتين المؤثرتين تعني أيضاً رفضاً لتعلقيات دونالد ترامب، الأمر الذي يتقاطع  مع الرغبة التركية في محاصرة خصمها السعودي. نعود هنا إلى السؤال: هل تركيا قادرة على أن تكون رأس حربة في هذه الحملة ضد العهد الجديد في المملكة؟
يكتسب السؤال مشروعية انطلاقاً من مواقف سبق أن هدر بها أردوغان قبل أن يتراجع عنها بتأثير الواقعية السياسية أو البراغماتية أو الضغط. أخيراً رضخت تركيا لضغوط ترامب وأطلقت سراح القس الأميركي أندرو برانسون المتهم بالتجسس. سبق أن قال عنه أردوغان إنه "متآمر على أمن البلاد وداعم للإرهاب". وكان اقترح في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي الإفراج عن برونسون مقابل تسليم واشنطن لفتح الله غولن في صفقة تبادل، لكن الأخيرة رفضت الفكرة.
الرئيس التركي تنازل أيضاً أمام إسرائيل عندما أبرم معها صفقة عام 2016. لم تلبّ دولة الاحتلال شرط رفع الحصار عن قطاع غزة الذي تمسك به أردوغان طوال ست سنوات من عمر الأزمة.

الأزمة التي تسبب بها إسقاط الطائرة الروسية انتهت، بخلاف التصريحات النارية، إلى اعتذار مكتوب للرئيس الروسي بأن تبذل أنقرة كل ما في وسعها لإعادة العلاقات الودية بين البلدين إلى صورتها الطبيعية.
فكيف ستتصرف تركيا حالياً بعد إعلان الرواية السعودية هزيلة المنطق وضعيفة الحجة؟  وهل يتمتع أردوغان بما يكفي من إرادة وقدرة لتحدي رغبات ترامب، ولم تمر سوى أيام قليلة على طي صفحة القس برانسون؟ هذا على افتراض أن الرئيس الأميركي لن يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن حليفه بعدما نضجت الثمرة أكثر مما ينبغي وباتت آيلة للسقوط.