«رؤية 2030»: رسم على ماء

«رؤية 2030»: رسم على ماء

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٣ أكتوبر ٢٠١٨

بعدما تلقّت ضربات عديدة جعلتها محور تشكيك وتوقّعات بالفشل، جاءت قضية مقتل جمال خاشقجي لتكشف «رؤية 2030» على مخاطر ربما لم تكن في حسبان ولي العهد محمد بن سلمان. وفي ظلّ تنامي المزاج العام المناوئ للرياض، وتصاعد مخاوف المستثمرين الأجانب، وانهيار الصورة «الإصلاحية» التي رسمها ابن سلمان، تبدو خطط الأخير الاقتصادية عرضة للانهيار، إن لم يكن مصيره السياسي نفسه على المحكّ.

«لا يهمّني كيف ينظر العالم إليّ، بقدر ما يهمّني ما يصبّ في مصلحة البلاد والشعب». ذلك ما قاله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلته الأخيرة مع «بلومبيرغ». كلمات أراد من خلالها التقليل من أهمية الانتقادات الغربية المُوجّهة إليه، وتأثيرها على ما يسمّى «خطّة التحول الوطني». لكن ما لم يتنبّه إليه الأمير الشاب هو أن «رؤيته» المُسمّاة «رؤية 2030»، والتي أطلقها في نيسان/ أبريل 2016، تقوم في أساسها على تقديم صورة مختلفة للسعودية، يمثّل الإصلاح والانفتاح المعلمَين الرئيسَين فيها. هذه الصورة، التي أنفق ولي العهد أموالاً طائلة من أجل بنائها، ما فتئت تتلقّى الضربات الواحدة تلو الأخرى، حتى جاءتها حادثة مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، لتُوجّه إليها اللكمة الأعنف، وتلحق أضراراً بالغة بمشروع «رؤية 2030»، الذي كان قد تعرّى الكثير من جوانبه خلال الأشهر الماضية، ليظهر كأنه رسم على ماء.
يأتي مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، المرتقب انطلاقه اليوم في السعودية، والذي كان ابن سلمان يعلّق آمالاً كبيرة عليه في تقديم المملكة كوجهة تجارية مربحة، ليجلّي أزمة العلاقات العامة التي يعيشها الرجل. عشرات المسؤولين ورؤساء الشركات العالمية الكبرى أعلنوا انسحابهم من مؤتمر حلم ولي العهد في أن يشكّل نسخة مطوّرة من سابقه الذي انعقد في فندق «ريتز كارلتون» في الرياض في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، حيث استقطب ابن سلمان ثناء الغربيين عليه كرجل «إصلاحي». وعلى رغم أن عمليات الانسحاب هذه قد تكون مؤقتة، وأن أثرها قد ينحسر في العام الجديد وفق بعض التوقعات، إلا أنها تظهر بلوغ حالة التشكّك وعدم اليقين لدى المستثمرين الأجانب أعلى مستوياتها. وهي حالة كانت تصاعدت منذ أواخر العام الماضي، مع إطلاق ابن سلمان حملة «تطهيرية» ضد الأمراء والمسؤولين السابقين ورجال الأعمال (تشرين الثاني/ نوفمبر)، أضافت أسباباً جديدة للتوجّس، الذي لا يبدو بعيداً من حقيقة انخفاض الاستثمار الأجنبي في المملكة في عام 2017 إلى أدنى مستوى له خلال 14 عاماً.

    بلغت حالة التشكّك وعدم اليقين لدى المستثمرين الأجانب أعلى مستوياتها


هذان التوجّس والقلق لا يقتصران على المستثمرين الأجانب، بل يشملان كذلك الشركات السعودية، التي لا تزال تعتري أصحابها الخشية من مصير مشابه لمصير «معتقلي الريتز»، وهو ما يجعل هؤلاء يحجمون عن الاستثمار، بل ويدفع كثيرين منهم إلى تهريب أموالهم. طبقاً لدراسة أجراها «جي بي مورغان»، فإن 80 مليار دولار خرجت من الاقتصاد السعودي في العام الماضي، فيما قُدّرت الأموال الهاربة حتى آب/ أغسطس من العام الجاري بـ65 مليار دولار، علماً بأن هذه الدراسة يعود تاريخها إلى ما قبل أزمتَي كندا وخاشقجي، ما يعني أن الرقم قد يكون ارتفع إلى أكثر مما أشير إليه.
حالة الهروب تلك تؤشر ليس فقط إلى الخوف على الأصول والموجودات، بل وأيضاً إلى إحباطٍ عام لا يفتأ يتزايد بفعل استمرار تباطؤ النمو، الذي لم تفلح خطّة ابن سلمان إلا في زيادته. كان ولي العهد يتطلّع إلى أن يسهم مشروع «سعودة الوظائف» في تقليص الإنفاق الحكومي على التوظيف حتى يقترب من 30% في عام 2030، لكن النتائج الأولية للمشروع أنبأت بفشل ذريع، بدت معه «السعودة» كأنها وئدت في مهدها. أدى الشروع المباشر في تطبيق توطين الوظائف، من دون تهيئة المجتمع لتقبّل واقع يخالف «العقد الاجتماعي» السائد منذ زمن طويل، إلى إقدام العديد من شركات التجزئة العملاقة على إغلاق مئات الفروع التابعة لها. بعدما بادرت هذه الشركات إلى تسريح العمال الأجانب تطبيقاً لقرار «السعودة» (بلغ عدد العمال المُسرّحين منذ مطلع 2017 حتى منتصف 2018 أكثر من مليون ومئة ألف)، وجدت صعوبة بالغة في العثور على موظفين سعوديين يرتضون أجوراً أقلّ من التي ينالونها في القطاع العام، ويقبلون العمل تحت ظروف لا تشبه في شيء «البطالة المقنّعة». وترافق ذلك مع انخفاض ملحوظ في القدرات الشرائية للسعوديين، بفعل زيادة ضريبة القيمة المضافة ورفع أسعار الوقود والكهرباء، فضلاً عن ارتفاع معدّل البطالة إلى مستوى قياسي قارب 13% في الربع الأول من العام الحالي.
حقيقة كون التوظيف الحكومي «دعامة أساسية» في «العقد الاجتماعي»، والتي شكّلت عقبة كبيرة في طريق «السعودة»، مثّلت أيضاً واحدة من التعقيدات الكثيرة التي حالت دون تقدم برنامج الخصخصة. كان يفترض، وفقاً لـ«رؤية 2030»، أن تبدأ الخصخصة في عام 2017 في أربعة قطاعات، ضمن مشروع يستهدف جمع 200 مليار دولار عبر بيع حصص في مؤسسات حكومية في 16 قطاعاً. لكن المشروع سرعان ما دخل في طور التباطؤ (في مقابلته مع «بلومبيرغ»، كان ابن سلمان لا يزال يتحدث عن «إجراء محادثات مع المستثمرين»)، وهو ما دفع المحلّلين الاقتصاديين إلى التشكيك في وجود «استراتيجية متماسكة» لإحداث «توازن سليم» بين أدوار القطاعَين العام والخاص. لعلّ الانتكاسة التي تعرّضت لها خطة بيع 5% من أسهم شركة «أرامكو»، عملاق النفط، تُعدّ نموذجاً واضحاً للتخبّط الذي يعتري مسار الخصخصة. أراد ولي العهد، بناءً على مقتضيات «رؤيته»، طرح «أرامكو» في الاكتتاب العام في النصف الثاني من عام 2018، لكن هذا الموعد تبخّر في أقلّ من سنتين مع بدء تواتر المعلومات عن تأجيل الطرح الأولي الأكبر في التاريخ في آذار/ مارس الماضي، ومن ثمّ تأكده في آب/ أغسطس، إلى أن ضرب ابن سلمان موعداً جديداً أقصاه مطلع 2021. فهل سيتمكّن ولي العهد من تحقيق ما وعد به، علماً بأن الكثير من وعوده ومنها موازنة الميزانية في عام 2019 لم تجد سبيلها إلى التنفيذ؟
ربما يراهن ابن سلمان على أن صفقة استحواذ «أرامكو» على 70% من شركة «سابك» (عملاق البتروكيماويات)، المنتظر إتمامها عام 2019، ستسهم في رفع القيمة السوقية للأولى إلى تريليونَي دولار، بما يسمح برفع العائد المرتقب من الطرح العام الأولي إلى 100 مليار دولار. لكن حتى لو تحقّق ذلك، وهو ما تعترضه عقبات عدة، من بينها أن سعراً نفطياً مرتفعاً يعزّز قيمة «أرامكو» لن يكون مضموناً على طول الخط، فإن مشكلات أخرى لا تزال تواجه المشروع، على رأسها خطر الانكشاف الذي يتطلّبه مبدأ الشفافية المعمول به في الولايات المتحدة، على اعتبار أن بورصة نيويورك تتصدّر الأماكن المحتملة لتنفيذ الطرح. أما الأهمّ، فهو أن قضية خاشقجي جعلت خطة الطرح من أساسها على المحكّ، في ظلّ تنامي المزاج المناوئ للسعودية في الدول الغربية، وهو ما تجلّى في إعلان الرئيس التنفيذي لبورصة لندن، ديفيد شويمر، الذي دأب على مغازلة ابن سلمان بهدف اجتذاب الطرح، مقاطعة «دافوس في الصحراء». مشهد يزداد قتامة وغموضاً إذا ما أُخذ في الاعتبار أن جريمة تصفية خاشقجي وصلت إلى مستوى باتت فيه الأسئلة مطروحة حول مستقبل ولي العهد السياسي، أكثر منها حول مشروعه الاقتصادي الفلكي.