«عرّاب أوروبا» و«أم اللاجئين» في زمن التحوّلات.. بما يؤذن تنحّيها؟

«عرّاب أوروبا» و«أم اللاجئين» في زمن التحوّلات.. بما يؤذن تنحّيها؟

أخبار عربية ودولية

الأحد، ٤ نوفمبر ٢٠١٨

جاء مباغتاً إعلان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أنها ستتنحّى بعد شهرين عن رئاسة حزبها، الاتحاد الديموقراطي المسيحي، وأنها لن تترشح لمنصب المستشارية بعد نهاية ولايتها العام 2021. ولا تفسير لوقع هذه المفاجأة سوى عدم الاعتياد على فكرة استقالة الزعيم طوعاً، وبمحض إرادته، وقبل سقوطه، وانهيار كل شيء.
ثم أننا نتحدث عن ميركل، الزعيمة الأوروبية التي حافظت على مقدار من الأخلاقية والإنسانية في سياساتها، وهذا ليس سهلاً في هذا الزمن، زمن التحوّلات. والمقصود تصدّيها لتصاعد الشعبوية، ثم تعاملها الإنساني مع أزمة اللاجئين والهجرة، ودفاعها عن الوحدة الأوروبية.
بهذه المواقف، افترقت ميركل بمسافات عن كثيرات من النساء اللواتي تولّين مناصب أولى أو حتى ثانية أو ثالثة. هي ليست مارغريت ثاتشر، أو المرتبكة العاجزة تيريزا ماي، ولا هي مثل المتبلدة ابنة المؤسسة الأميركية هيلاري كلينتون، أو نيكي هايلي «المرأة العجيبة» بعنجهيتها واصطفافاتها التي تعكس انتهازية.
وإن كان للقطةٍ واحدة أن تختزل ميركل، فستكون تلك الصورة التي التُقطت لها في قمة السبع في كيبيك، يحيط بها الرؤساء مستمعين لها بانتباه كأنها تقول ما لا يجرؤون على قوله. يداها على الطاولة، تقف في منتهى القوة، وعيناها شاخصتان في عيني الرئيس دونالد ترامب الجالس أمامها على كرسي خفيض، مكتوف اليدين، وعلى وجهه تعابير مبهمة لا تُفسر، لكنه يبدو مثل طفل يتعرض للتعنيف من مديرة المدرسة. إذاً، ليس عبثاً أن توصف ميركل بـ «الأم»، و «عرّاب أوروبا»، و «أم اللاجئين»، وهي أوصاف أشبه بعناوين سينمائية. وأكثرها كاريكاتورية هو «المرأة الحديد»، لكنه مقاربة غير دقيقة في تشبيهها بثاتشر. فميركل ليست حليفة «الريغانية» العسكرية، ولا صورها الممتدة في الإدارات الأميركية. وهي ليست ثاتشر التي هدمت «دولة الرفاه الاجتماعي»، ودمرت القطاع العام والنقابات لمصلحة النيوليبرالية الاقتصادية التي، وإن أنعشت موقتاً الاقتصاد البريطاني، إلّا أنها حوّلته إلى اقتصاد خدمات ومضاربات بورصة. وعلى نهجها استمر توني بلير وماي التي تواجه عقابيل تلك المرحلة. صحيح أن ميركل لم تكن أرحم من ثاتشر مع النقابات، ولا هي تصالحت مع الاشتراكيين، لكنها أسست لقفزة صناعية مشهودة لبلدها، وتوسعٍ في المجالين الإقليمي والدولي.
أكثر ما يخيف في تواري ميركل أنه يعكس ما يمور في العمق من تفاعلات عنيفة للتحوّلات الألمانية الداخلية في ما خص الشعبوية المحلية الصاعدة بتأثير أميركا وارتدادات العولمة، والموقف من الاتحاد الأوروبي، والميول الجامحة لجيل ألماني يميني النزعة يريد تجاوز العبء الأخلاقي للمرحلة النازية، ونموذجه «حزب البديل الألماني»، من دون أن يبعث الحزب، في العالم وفي ألمانيا، ما يثير الطمأنينة ويؤكد حقيقة التطهُّر. ومقتل 12 تركياً، واعتداء أنصار للحزب على منازل تؤوي اللاجئين، من دون تنديد واضحٍ من جانبه، يعززان هذا القلق.
لكن الوجه الآخر لاستقالة ميركل هو إعادة الحيوية إلى نقاشات هي في صلب الفكر السياسي الألماني والأوروبي، كما تمسّ مكوّنات الثقافة والهوية الألمانيتيْن. والإعلام الألماني يمضي أبعد من ذلك بالقول إن الاستقالة هي إعلان دخول «مرحلة تاريخية جديدة»، ألمانياً وأوروبياً، إذا أُخذ في الاعتبار صعود الشعبوية في أوروبا والعالم بقيادة ترامب، بعدما اجتاحت الهند والفيليبين والمكسيك وباكستان والنمسا وهنغاريا وإسرائيل ونسبياً بريطانيا، وأخيراً فوز جايير بولسونارو في البرازيل. فهل استشعار مركل الاهتزازات الأولية لزلزال حتمي هو ما أدى إلى الاستقالة؟ وهل صعود اليمين القومي وأيديولوجيا النازية الجديدة الممجِّدة لألمانيا بعيداً من وخز الضمير إزاء هتلر والـ «هولوكوست»، هو حقيقة لا تستطيع أحزاب ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، درأها؟
الجواب ليس سهلاً. بعض المفكرين الألمان يرى أن الـ «هولوكوست» ووطأة الهتلرية، في الوعي الألماني، يجب أن يبقيا حييْن لأنهما حبل الوصل بين ألمانيا ما بعد الحرب والديموقراطيات الغربية. لكن مفكرين آخرين يرون أن الديموقراطيات الغربية ذاتها في طريقها إلى التحوّل، ومعها مفهوم الدولة ووظيفتها ودور البرلمانات والأحزاب، وسط مخاوف من نهاية الأحزاب التقليدية الأوروبية، واختلال السيرورة الديموقراطية، بالتالي أواصر الوحدة الأوروبية.
تنحّي ميركل نهاية شجاعة لامرأة شجاعة. لكنه يؤذن بالتحوّلات المقبلة، وهي ليست بعيدة، فموعد الانتخابات نهاية السنة.