السينما الإيبيرو ــ أميركيّة: العائلة والحب والذاكرة الملتهبة

السينما الإيبيرو ــ أميركيّة: العائلة والحب والذاكرة الملتهبة

سينما

الثلاثاء، ١ نوفمبر ٢٠١٦

تضمّ أميركا الإيبيرية دول الأميركيتين الناطقة بالإسبانيّة، إلى جانب البرازيل الناطقة بالبرتغالية. صحيح أنّها لم تعد مستعمرات تابعة لإسبانيا أو البرتغال، إلا أنّ الذاكرة ما زالت ملتهبة بالكثير ممّا يمكن تقشيره أمام العدسة. المجازر الجماعية. الحب والثورة. آثار الاحتلال.

الهويّة وأزمات ما بعد الحداثة. ألغام العائلة. النضج والتقدّم في السن. تحريض الماضي جرّاء تفاعل كيميائي بين هاجس الحاضر والقلق بشأن المستقبل. كلها تيمات تتحرّك أمامنا في الدورة السابعة من مهرجان السينما الإيبيرو – أميركية في بيروت الذي انطلق في 28 تشرين الأول (أكتوبر) ويستمر حتى 6 تشرين الثاني (نوفمبر). التنظيم للسفارة الإسبانيّة في لبنان ومعهد «سرفانتس»، بالاشتراك مع «جمعية متروبوليس»، بالتعاون مع سفارات الأرجنتين، والبرازيل، وتشيلي، وكولومبيا، والمكسيك، والباراغواي، والأوروغواي وفنزويلا، وقنصليتي السلفادور والبرتغال. أكثر من 10 آلاف متفرّج، شاهدوا ما يزيد على 70 فيلماً، عرضها المهرجان منذ انطلاقته. البيان الصحافي الصادر عن المنظّمين ذكر أنّ الحدث جاء نتيجة غياب الأفلام الإيبيرو- أميركية عن الصالات التجارية، والرغبة في «خلق روح وحدة عابرة للمسافات تجمع بين البلاد الناطقة باللغتين الإسبانية والبرتغالية، والموجودة في لبنان أكان عبر سفاراتها أو قنصليّاتها أو جالياتها». حسناً، جلب المغاير جزء من روعة المهرجانات والاستعادات المتخصّصة، التي تسيل لعاب السينيفيليين. البرمجة اقترحت 11 فيلماً طويلاً، تتنوّع بين الروائي والوثائقي، وبين التجاري الخفيف والدسم المتخم بجولات دوليّة كبيرة، مع رجحان نسبي للنوع الأوّل. هذه الوصفة باتت شائعةً في أسابيع أفلام الجنسيات (آخرها «مهرجان السينما الروسيّة»)، بغية جذب عدد أكبر من الحضور، وترويج ما حقّق إيرادات مرتفعة في شبابيك تذاكر تلك الدول.
التشيلي ريكاردو كارّاسكو (1960) ألقى تحيّة الافتتاح مساء 28 الفائت، من خلال «عطلة عائليّة» (2014). كوميديا تسخر من بعض أغنياء بلاد بابلو نيرودا. أولئك الذين يفعلون المستحيل للحفاظ على صورتهم اللامعة أمام المجتمع. عائلة تتظاهر بالسفر إلى منتجع برازيلي فاخر لقضاء العطلة. الحقيقة أنّهم مفلسون، قابعون داخل المنزل المقفل، على بعد خطوات من الجيران. هم هاربون من شرخ داخلي، وضغوط خارجيّة ساحقة. فرضية تعد بمفارقات ومواقف، إلا أنّ الشريط يبقى بعيداً عمّا يمكن تحقيقه. لا ضحك يشفع جماهيرياً، ولا عمق يسكت فنياً. فقط الملل قادر على الصمود، وفق إيقاع رتيب، لا يفكّر في «تويست» أو تحوّل مباغت في الأحداث. يوم 29 كنّا على موعد مع فيلمين. «الأسير الإيرلندي» (2015) لكارلوس خوارغيالزو ومارسيلا ناسوت التي عملت معه في الكتابة وفريقي الإخراج والإنتاج خلال فيمليه السابقين: «ثلاثة طيور» (2002) و«زواج» (2013). شريط حقبة أرجنتيني يحوم حول قصّة حبّ بين أرملة وحيدة وأسير إيرلندي، إثر الغزو الإنكليزي لبوينس آيرس عام 1806. نحن في بلدة جبليّة تشتهر بالمناجم والمشهديّة الساحرة. تشتعل الثورة ضدّ المحتل. الإيرلندي يجد نفسه منخرطاً فيها رغم أصوله، ما يمنحه صفة البطل الملحمي. الهويّة هي الانتصار للحب والحريّة، لا ما تقوله الأوراق الرسميّة. تلاه فيلم من الباراغواي بعنوان Che pykasumi لإرميس مدينا، مستوحى من حكاية عشق حقيقية بين «لويزا» و«سيسيليو». سيناريو نمطي عن اللقاء والفراق والحرقة واللواعج، ما يلهم الحبيب لكتابة إحدى أعظم قصائد الحب. وأول من أمس، حطّ ألفارو فرناندز أرميرو بجديده «تشتت» (2014). الصانع الإسباني (1969) مسافر دائم بين السينما والتلفزيون، بفيلموغرافيا تختزن الرعب والكوميديا والشغل الوثائقي. في رصيده جائزة «غويا» (ما يعادل الأوسكار في إسبانيا) أفضل فيلم روائي قصير عن «أرجوحة» (1993). «تشتت» زوجين جديدين في الريف، مع شقيقين لهما في المدينة، يفرض الاشتباك لحلّ مشاكل متعدّدة، ضمن مفارقات الطرافة ولحظات الرومانس. وأمس، عرض «براري كولومبيا الساحرة» (2015) لمايك سلي. وثائقي عن الحياة البريّة والكائنات المدهشة التي تسكن طبيعة البلاد. هذه كولومبيا الجمال والسلام، بعيداً عن إمبراطورية إسكوبار البائدة، والنزاع الأهلي المرير الذي انتهى أخيراً بين الحكومة وحركة «فارك». الإنكليزي سلي (1959) خبير في وثائقيات الطبيعة. اشتغل العديد منها لصالح شبكات تلفزيون شهيرة. هنا، فضّ عذرية مواقع جغرافية عدّة بعدسته، ملتقطاً كوادر مدهشة ولحظات نادرة لكائنات الكوكب. استعان بإذاعي وصحافي محليّ شهير هو خوليو سانشيز كريستو للتعليق الصوتي، تماماً كما فعل في «حشرات» (2003)، عندما استعان بصوت جودي دينش لمرافقة حشرات الغابات المطريّة في بورينو الآسيوية.
ومن الأوروغواي، نترقّب الليلة «مرحاض البابا» (2007 – س: 8) لسيزار كارلون (1958) وإنريكي فرناندز. في بلدة «ميلو» القريبة من الحدود مع البرازيل، يعتاش «بيتو» على التهريب (هذا سبب اشتراك فرناندز المنحدر من البلدة نفسها). يصل الخبر الجلل، بقرب وصول البابا يوحنّا بولس الثاني عام 1988. إضافةً إلى الانشغال الديني، يفكّر الجميع في كيفية استغلال الزيارة التاريخية، وما يتضمنّها من خطاب عام. «بيتو» الراغب باقتناء درّاجة نارية بدلاً من بسكليته المتهالك، يطلع بفكرة الخلاص: بناء مرحاض عمومي مأجور لخدمة آلاف الحجاج الآتين لرؤية الحبر الأعظم. وسط الكباش العائلي، وتنافس الشركاء، وتربّص البوليس، تولد كثير من الأحلام البسيطة. مزيج بين صعلكة تشابلن وكوميدياه الفيزيائية (سلاب ستيك)، وبين أرواح دي سيكا الملعونة في «سارق الدرّاجة» (1948) المذكور حرفياً في الشريط، يخلص إلى عمل جميل قائم على مفارقات الموقف والقهقهة المريرة. واقعيّة جديدة لا يشوبها سوى بعض الاستجداء حول الفقر والعوز. «مرحاض البابا» شارك في قسم «نظرة ما» ضمن مهرجان كان 2007، إذ رشّح صانعاه للكاميرا الذهبيّة. كذلك، حصل على جائزة «آفاق» في سان سباستيان، وأفضل فيلم في ساو باولو. في باكورتها «العودة» (2013 – 2/11 س: 8)، تستند الفنزويلية باتريسيا أورتيغا إلى قصّة حقيقيّة. تلاحق طفلة في العاشرة تشهد ارتكاب مجازر مروّعة في قريتها. تهرب إلى المدينة، محاولةً التعايش مع ذاكرة ملتهبة وجرح غائر. أداء الصغيرة مذهل، مع سينماتوغرافيا لافتة بين ريف بكر ومدينة منتهكة، بين رحابة السهول وقسوة العالم السفلي. الذاكرة ليست أقلّ توهجاً في «خط أحمر» (2012 – 3/11 س: 8) لخوزيه فيليب كوستا. وثائقي بيوغرافي من البرتغال، يعود إلى موقع تصوير فيلم «توري بيلا» (1975) لتوماس هارلان (شاركه آخرون)، كونه أحد رموز الحقبة الثوريّة منتصف السبعينيات. معاينة الأضرار بعد ثلاثة عقود، تفتح صندوق باندورا حول الاشتراكية والإصلاح الزراعي. النقاشات أمام العدسة أو مباشرةً نحوها لا يحتمل المجاملات. هذا فحص البلاد بالرنين المغناطيسي. بتوجّه قريب نحو عنف العصابات، ينبش آرتورو مينينديز قصّة حقيقية في «عش الغراب» (2014 – 4/11 س: 8). السلفادوري (1978) خبر ذاك العسف شخصياً في بلاده. لم يتأخّر في الأفلمة، من خلال مندوب مبيعات يتعرّض للابتزاز. «بداية الزمن» (2014 – 5/11 س: 8) للمكسيكي برناردو أريلانو (1981) يروي حكاية «بيرثا» و«أنطونيو». عجوزان تسعينيان يعودان إلى نقطة الصفر، بعد إيقاف معاشات الضمان الاجتماعي بسبب الأوضاع الاقتصادية. من أجل النجاة، يضطرّان لبيع العفش والطعام في الشوارع، بل لا يمانعان السرقة. فجأةً، يقفز ابنهما «جوناس» وحفيدهما «باكو» إلى حياتهما بعد انقطاع عشر سنوات. كل ذلك يبعث الحيوية والشغف في دمائهما مجدداً. أريلانو يلعب على تيمة العائلة والفرصة الثانية ثانيةً. يمكّن عجوزاً من تعليم ذلك لشاب، كما فعل في «بين الليل والنهار» (2011). تبقى الكوادر الأخيرة لإحدى تحف الكروازيت الأخير: «أكواريوس» (6/11 س: 8) لكليبير مندونسا فيلو. السينمائي البرازيلي (1968) بارع في السرد منذ «أصوات الجوار» (2012). يستعين بفاتنة ستينية هي سونيا براغا، التي أشعلت العالم في مسلسل «غابرييلا» (1975)، ثمّ استمراراً مع كبار بحجم ماستروياني وإيستوود وروبرت ريدفورد. بأداء خلّاب، تضطلع بدور ناقدة موسيقية سابقة تعيش كما يحلو لها. هي آخر سكّان بناء «أكواريوس» القائم منذ الأربعينيات. شركة عقاريّة ترغب في الاستحواذ عليه وهدمه. تندلع حرب باردة بين «كلارا» والجشع الرأسمالي الذي لا يتوقع عناداً من أحد. السرد مقسوم إلى فصول: حاضر، وماضي «كلارا» الشابة في الثمانينيات، وصراعها الناجح مع سرطان الثدي بينهما.