«الأب» فيلم رؤيوي اللغة والمضمون … الضياع البشري السوري ورسالة لإنقاذ جيل سورية

«الأب» فيلم رؤيوي اللغة والمضمون … الضياع البشري السوري ورسالة لإنقاذ جيل سورية

سينما

الخميس، ١٢ يناير ٢٠١٧

 نهلة كامل

«الأب» الفيلم السينمائي الرابع للمخرج المبدع باسل الخطيب، والمؤسسة العامة للسينما، بعد ثلاثية: مريم، الأم، سوريون، في ظل الحرب الإرهابية على سورية خلال ست سنوات ولعله الأبرز تحت هذا المفهوم.

قضية باسل الخطيب
وبرع باسل الخطيب في رسم أبعاد مصيرية لمواضيعه الدرامية، حيث تقاطعت لديه القضية الفنية مع القضية الإنسانية للوصول إلى أكثر من أسلوب متين تتوزع جمالياته في بيئة واسعة ملهمة أعمق من الواقع المعيش، وأصدق من الرواية المعروفة.
تابع الخطيب قضيته هذه، عندما اتجه في سنوات الحرب الإرهابية على سورية إلى ميدان الفن السابع، لكنه كان يحمل معه ذاك التوق إلى اللغة السينمائية التي كان يستند إليها ويمارسها أحياناً في أعمال تلفزيونية متألقة، وتجعل عمله مضنياً وهو يحاول الوصول بأعماله التلفزيونية إلى مستوى الكمال السينمائي الذي يحققه الآن من دون وساطة مسلسلاته.

لغة وثائقية شاملة
يظهر فيلم الأب أصالة اللغة السينمائية لدى باسل الخطيب، وقدرته على التجدد في كل عمل سينمائي على حدة، وها هو يعمل على إبداع أسلوب وثائقي شامل، ذلك أن «الأب» ليس وثائقياً بالمفهوم التقليدي وبمعنى تكريس رواية معروفة واحدة، بل بتقاطع روايات واقعية كثيرة في سيناريو وثائقي جديد واحد.
يحقق فيلم الأب ولع باسل الخطيب في إنجاز سيناريو مرسوم بدقة وإحكام، شاهدناه من قبل في تركيب الفيلم الجميل مريم، ثم الأم، ولاحقاً وجعه اللاهث في «سوريون»، وها هو في «الأب» يوحد أبعاد الحدث ووجوهه وآلامه في تسجيل وثيقة وطنية واحدة.
اعتمد الأب على سيناريو «كتبه باسل ووضاح الخطيب» يعيد تأليف الأحداث والجرائم التي مارسها الإرهاب المسلح في سورية، والمعاناة التي توجعها السوريون تحت أنظار العالم. حيث أصبح كل حدث أو شخصية في السيناريو تجسيداً لعشرات بل مئات الجرائم والضحايا والشهداء في أحداث سورية معروفة محددة التواريخ والأسماء.
واستطاع سيناريو «الأب» وهو يتطلع إلى شمولية تعبر عن الكل من دون التضحية بالمفرد أن يتجاوز الحدود التي تقف أمام حدث وثائقي واحد، فجاء مضمون الحرب اليومية التي يعيشها الإنسان السوري قضية مصيرية، وارتقى بالأحداث إلى صدقية التاريخ.
وتصدى السيناريو بشموليته، إلى تقديم أفكار رؤيوية تبدأ من مصير الإنسان حتى مصير الوطن والمستقبل، ذلك أن سلاسة الأحداث وملامح الشخصيات لم تخرج عن أبعادها التوثيقية إلى أخرى شخصية وفردية وميلودرامية، كان يمكن أن تخرج بترميزها وتعبيرها عن إطار المعاناة السورية الشاملة.

قضية الضياع
يجمع فيلم «الأب» إخراجاً الأسلوب الوثائقي، بتصرف، إلى الواقعية البصرية التعبيرية، ويبدأ بعد الأحداث الموثقة التي عاشها الإنسان السوري أينما هاجمته الفصائل الإرهابية السوداء، إنها رواية ولائنا، سمعنا عنها وشاهدنا مجازرها كل يوم لدرجة أنها أصبحت مألوفة لعين المشاهد وأذنه، مدونة في ذاكرته خلال سنوات الحرب، لكن رسم ملامحها الدرامية العامة وأبعادها هو ما يصوره فيلم «الأب» وخاصة حين يقدم إنسانه بطلاً تراجيدياً يريد تحقيق إرادته أينما كان هذا ممكناً… وهي رواية أمامنا ما دامت قابلة للتكرار.
يعرض فيلم «الأب» أحداث هجوم جماعة إرهابية مسلحة على بلدة سورية وادعة ونائية في حضن الطبيعة الفسيحة لسورية، وحيث تشارك الطبيعة دائماً لدى الخطيب الإنسان مصيره، نجد أن هذا الجمال الأزلي يدنس تحت أقدام إرهابية بشعة.
وحيث يفر أهل البلدة في اتجاهات ومصائر متعددة، ويلجأ فريق منهم إلى مشفى البلدة الذي يحرسه الجيش العربي السوري، يكون إبراهيم «يجسده أيمن زيدان» الأب لعائلته الكبيرة، والده ووالدته، وزوجته وبناته الثلاث في عداد اللاجئين إلى المشفى، حيث يشعر بالمسؤولية تجاه عائلته الوطنية الأكبر ويأخذ مبادرة التعاون مع الجيش لحماية الفريق الذي يرافقه، وإذ يفجر الإرهابيون المشفى ويخرج المدنيون منه للنجاة في مكان آخر يقعون في أسر الإرهابيين الذين يسوقونهم إلى مقرهم للفتك بهم بطرق وأشكال متعددة.
فيلم «الأب» وهو مأساة الضياع الإنساني السوري، وتشرد العائلة الصغيرة والكبيرة يرسم في سياق تصاعد أحداثه الدموية السوريين ضحايا، وشهداء، وأبطالاً، كلاً في مكانه من فسيفساء سينمائي يوثق الصورة الشاملة للمصير، لكنه يتابع طريق عائلة إبراهيم: حيث فقد الأب والده ووالدته بالموت على طريق الهرب، وضاعت عنه ابنتاه، وزوجته التي هربها من الأسر، وابنته الصغيرة التي استولى عليها الإرهابيون، الذين كانوا يعدمون المدنيين وأفراد الجيش بطرق وحشية: الواحد تلو الآخر، بعد محاكمات شكلية باسم الدين وتهمة الكفر، أما إبراهيم فقد قرروا الإبقاء عليه لاستخدامه في توجيه الأطفال، منهم ابنته، لتنفيذ عمليات إرهابية مسلحة، بعد تدريبهم على القتل والعنف، فقد تركه المخرج لمفاجأة الختام السينمائي.
احتاج فيلم «الأب» وهو يرصد مصير النزيف البشري السوري إلى فريق كبير من الممثلين، حركهم المخرج ضمن عملية بطولة جماعية، حيث تألقت وجوههم بنظافة تعبيرية مخلصة لموقعها في رسم الحدث العام، والوثيقة الشاملة الجديدة، وأصبحت كل شخصية في الفيلم جامعة لما قبلها من شخصيات واقعية متكررة المعنى، وأصبحت هي الحقيقة الفنية الموضوعية التي تشارك المشاهد معلوماته، وتؤكد قضيته الإنسانية.
واستطاعت مجموعة الممثلين التي قدمت عرضاً وثائقياً شاملاً تأليف واقع معادل يوجز ما عرفناه من جرائم إرهابية أساسية هي: التهجير، والملاحقة وتفجير المؤسسات المدنية والقرى والمدن والقتل باسم الدين وتهمة الكفر والمتاجرة بالأعضاء البشرية، وممارسة العنف على النساء والمتاجرة بهن واغتصابهن وقتلهن أحياء، والاستيلاء على الأطفال لاستخدامهم في عمليات الإرهاب والتفجير.
صدقية أيمن زيدان

أما شخصية «الأب» وهي دعامة البناء الدرامي، وجامعة خيوط القضية الوطنية والإنسانية وحاملة الرسالة، فقد جاءت لتعكس تجربة التفاهم الإبداعي الطويل بين الكبيرين باسل الخطيب وأيمن زيدان، وترقى بها إلى المستوى الأصعب والأرفع الذي حققه الاثنان معاً حتى الآن… تبرز شخصية الأب، صدقية أيمن زيدان في الدخول إلى روح العمل مجسداً تقاطعاً مميزاً بين القضية الوطنية الإنسانية والقضية الفنية، وصل إلى درجة الانتشار الكامل في أوصال الموضوع وأبعاده المصيرية، «الأب» شخصية تحقق توازناً مذهلاً على حبل رفيع مشدود بين الوثائقية والواقعية التعبيرية، فلا تسقط على أرض المأساة الفردية بل تحلق في كونها تمثل: القضية، والبطولة التراجيدية، وحمل الرسالة الوطنية، هي الأب في سورية كلها، وإذا كان الضياع والتشرد يهدد عائلته، مثل كل العائلات التي عاشت مصيراً قاسياً، فإنه يقرر في ضميره الداخلي اليقظ ألا يهدد الضياع وطنه.
احتاجت اللغة السينمائية لدى «الأب» إلى أداء داخلي لأيمن زيدان طالما استند إليه المخرج الخطيب في أعمال مشتركة سابقة، واستطاع أيمن زيدان أن يقدم مفاهيم وجدانية وهو في حالة صمت الأسر لدى الإرهابيين، وظهرت خلجات نفسية تمثل الضمير، واليقين والإصرار على مواجهة الإرهاب من خلال تمثيل يبادل الموقف والبيئة حركاته ونظرته من دون صدام مع الخارج، تمثيل مبدع يتحرك بين الصراع الذي يعيشه والرسالة التي يحملها، فلا يشذ عن المفهوم الوثائقي لدوره الذي توقفت عليه أهداف الفيلم بألا تدخل شخصية الأب في أبعاد فردية وشخصانية من الانفعال أو المباشرة، أداء منطقي وذهني لم يطغ على وثائقية تقديم الإرهاب بمعناه الأشمل للواقع، والأبعد من الحادثة.

الرسالة
يقدم فيلم «الأب» السوريين وهم يقفون بوجه العاصفة ما أمكن، يضمدون جراح بعضهم بعضاً ويستشهدون جنباً إلى جنب مدنياً وجندياً وطبيباً من أجل الوطن وأبنائه، لكن نظرات الضحايا والمشردين ستظل ماثلة في ذاكرة المشاهد، هم القضية التي جسدها فريق من الشخصيات يبحث عن وجوده في خضم الضياع، «تحية لكل الممثلين من دون القدرة على ذكر الأسماء كلها».
واستطاع الفيلم أن يكون متقدماً في ملف استغلال الأطفال وإرهابهم واستخدامهم في القتل والترهيب، حيث تظهر الآن تقارير حول هذه الظاهرة التي وصلت منذ أيام إلى تفجير طفلة في مركز للشرطة في دمشق… لكن طليعية الفيلم ورسالة الأب جاءتا من داخل هذه الظاهرة، كما برزت كحل درامي، وخاتمة رآها الأب بصيص أمل استند إليه كي ينقل رؤيته إلى الأطفال جيل المستقبل السوري عندما أراده الإرهابيون موجهاً ومرشداً لهم إلى طريق التطرف والوحشية، فكان أن استغل موقعه هذا لنقل رسالته الوطنية إليهم بقوله: «أحبوا بلدنا قد ما بتستاهل تنحب… تذكروا أنو هاي بلدنا..».
يوصل الأب رسالته «ربما قبل أن يستشهد دفاعاً عن جيل المستقبل» خاتماً الفيلم بمشهد رؤيوي، حيث يضع الإرهابيون المسدس في يد أحد الأطفال لقتل الأب بعد موقف انتصاره على إرادة الإرهاب، لكن هذا الطفل يأبى، بحركة عفوية وبريئة، إطلاق الرصاص إلى رأس الأب إبراهيم، كاشفاً عن إيمانه بالوطن وحبه له، تصرف نابع من قناعة طفل أكدت أن رسالة إنقاذ سورية المستقبل تكمن في خلاصها تربوياً وروحياً، وفي حماية جيل المستقبل من الإرهاب على أنفسهم بشكل التطرف والجهل والعنف.
«الأب» فيلم رؤيوي يؤمن أن الصراع الحالي والقادم هو صراع على سورية المستقبل استطاع باسل الخطيب من خلال لغة سينمائية رؤيوية أيضاً أن يجعل الوثائقية الشاملة ممكنة لنقل رسالة وطنية عاجلة ودائمة في آن واحد، حيث تتسارع المتغيرات والأحداث من دون القدرة على قراءة كل أشكالها الفردية.
رؤيوية اتحد فيها مشروع باسل الخطيب بمشروع المؤسسة العامة للسينما ومديرها السابق الأستاذ محمد الأحمد الذي لازمه دوماً هاجس ابتكار هوية وطنية للسينما السورية. على أمل الاستمرار مع الإدارة الجديدة، والأستاذ الأحمد الذي ما زال يحلم بمتابعة الطريق الأصعب بصفته الآن وزيراً للثقافة يكتب بقلمه كلمة «بروشور» الفيلم بروح ناقد عشق فن السينما ولا يزال.