هل تعود دور السينما في دمشق إلى عصرها الذهبي؟

هل تعود دور السينما في دمشق إلى عصرها الذهبي؟

سينما

الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠١٨

حضرت منذ أيام في دار «سينما سيتي»، التي كانت تسمَّى في العصر الذهبي لدور السينما بدمشق: «سينما دمشق»، عرض الفيلم السينمائي السوري: «دمشق حلب»، وبطولة الفنان القدير: «دريد لحام»، وإخراج المبدع: «باسل الخطيب»، وإنتاج: «المؤسسة العامة للسينما»، الذي يروي جانباً من جوانب الأزمة السورية التي آلمت السوريين جميعاً، والتي شارفت على الانتهاء مع تحقيق نصرٍ مبين على قوى الشر والعدوان. ومع أنَّ هذا الفيلم يستحق وحده كتابة مقالةٍ عنه مدحاً وثناءً، فقد أظهر لنا تعاطف السوريين مع بعضهم بعضاً في أوقات الشدائد والمحن، وتآزرهم معاً لاجتياز المصاعب والعقبات، إلا أن هذه المقالة ستتناول جانباً آخر من تظاهرة السينما الجميلة في دمشق التي افتقدناها منذ سنوات، والتي حلَّ مكانها تظاهرات مؤلمة جعلتنا نتذكر الزمن الجميل للسينما بدمشق.
والذي جعل الذاكرة تعود بي إلى ذلك الزمن الجميل للسينما بدمشق، هو النظام الذي شهدته في دار سينما سيتي، من نظافةٍ متناهية، وحجزٍ مسبق للمقاعد، والامتناع عن التدخين إلا في مكانٍ محدد ليس هو مكان العرض السينمائي، والتزام الجميع بالهدوء وعدم الضوضاء إلى حدٍّ كبير، واصطحاب الآباء لأبنائهم، المظاهر التي عايشها السوريون في دور السينما بدمشق في عصرها الذهبي الذي يغطي الفترة من الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، لتبدأ بعد ذلك بالانحدار السريع على النحو الذي أوصلها إلى حافة النهاية وإغلاقها لعدم وجود زبائن، فقد صارت دار السينما منذ التسعينيات تجارة خاسرة، مع أنَّ أصحاب دور السينما قد تساهلوا كثيراً في النظام الذي كان مطبقاً في دورهم، بالإضافة إلى تراخي الرقابة، من قبيل السماح بالتدخين وتناول الطعام والشراب في أثناء عرض الفيلم، وعرض أكثر من فيلم بتذكرةٍ واحدة، وبعضها من النوع المغري بمشاهدته حتى وإن كان غير مسموح عرضه إلا بأساليب ملتوية، وهذا كله من العوامل التي سرَّعت الانحدار وليس العكس.
في تلك الفترة كنت في مقتبل العمر أتوق لمعرفة كل شيء من خلال مطالعة كتابٍ غير مدرسي، أو قراءة صحيفةٍ أو مجلة، أو من خلال حضور عرضٍ سينمائي في دارٍ للسينما، في وقتٍ لم يكن التلفزيون قد دخل إلى حياة السوريين، أو كان في بداياته، إذ إنَّ التلفزيون السوري قد بدأ بثه في يوم 23/7/1960 تزامناً مع الاحتفال بعيد الثورة المصرية، في وقتٍ واحد مع بدء البث في القطر المصري الشقيق، وكانت سورية ومصر ترتبطان آنذاك بوحدةٍ في دولةٍ واحدة اسمها: «الجمهورية العربية المتحدة» قبل أن تنفصلا عام 1961 بحادثة الانفصال الأليمة.
كانت السينما في ذاك الوقت أمراً مألوفاً ومظهراً اجتماعياً، وكانت عامة الناس تنظر باستغراب إلى من لا يهتم بالسينما ويَعتبرونه قليل المعرفة. كانت العائلات بكلِّ أفرادها، والجميع في منتهى الأناقة، ولاسيما في الحفلات المسائية، تتنافس لحضور فيلمٍ جديد كانت قد سبقته السمعة الطيبة لمخرجه، وامتلأت واجهات دور السينما بالإعلانات عنه وإبرازها أسماء نجومه اللامعين بأضواءٍ باهرة، وعرض بعض صورٍ لافتة لجذب الجمهور، وبعض الأفلام كان يعلن عنها بالصحف اليومية والأسبوعية، وكانت بعض الدور توزع مجاناً كتيباً لأفلامها القادمة مع نبذةٍ شائقة عنها وتذييلها بعبارات تشجيعية من قبيل: «احرص على ألا تفوتك مشاهدته»، وأغلب الأفلام كانت من النوع الجيد سواءٌ كانت تاريخية أم عاطفية أو كوميدية وغيرها، وكلها ملتزمة بالأخلاق العامة، مما يشجع الجميع على حضورها، وكان أكثرها أجنبياً أمريكياً وأقلها فرنسياً، كما كانت الأفلام الهندية غالبةً في بعض الدور، وكانت تلقى إقبالاً شديداً لاعتمادها على الحركة والغناء والرقص من دون محتوى حقيقي لمضمون الفيلم، أو عربياً من مصر بالتحديد، ومن الجزائر والمغرب في مناسباتٍ ثقافية، وبالطبع من سورية حيث كانت بدايات صناعة السينما في الستينيات، وكانت من إنتاج المؤسسة العامة للسينما والقطاع الخاص.
كانت العروض السينمائية تبدأ بأوقاتٍ محددة موزعة على ثلاث حفلاتٍ يومياً (3 عصراً، 6 مساءً، 9 ليلاً) عدا يومي الجمعة والأحد حيث تُقام حفلة إضافية الساعة العاشرة صباحاً، وكانت تُقام حفلة خاصة للسيدات في بعض دور السينما العاشرة صباحاً يوم الثلاثاء، ومع ازدياد الإقبال على السينما، صارت تُقام حفلة إضافية الساعة الواحدة ظهراً كانت تجذب أكثر ما تجذب الطلبة بعد خروجهم من مدارسهم، وبعضهم كان يتسرب من المدرسة يوم الأحد لحضور العرض الأول لأحد الأفلام المميزة، هذا مع ملاحظة حضور كل المتفرجين في الوقت المحدد من دون تأخير يُذكر. وفي أوقاتٍ محددة كانت تعرض أفلام في حفلاتٍ ليلية الساعة 12 ليلاً بإعلاناتٍ مسبقة.
كانت الحفلات تبدأ عادةً بما كان يُعرف بـ: «مناظر» تُعرض فيه أفلام قصيرة تتراوح بين الوطني والتوجيهي والفكاهي، ولقطات من الأفلام التي ستعرض في الأسابيع القادمة من قبيل الترويج والدعاية، كما كانت هناك فقراتٌ دعائية لبعض المنتجات ومن بينها السجائر.
كان يوم الأحد هو بدء عرض الفيلم الجديد، حيث ينتهي عرض الفيلم يوم السبت، وإذا كان الإقبال شديداً فإن الفيلم يجري تمديده أسبوعاً ثانياً وبعضها لأسبوعٍ ثالث. في بعض العروض السينمائية ذات الإقبال الجماهيري، كان لا بُدَّ من الحجز المسبق، وكثيراً ما ذهبت لحضور عرض فيلمٍ لأجد صفاً طويلاً من مختلف الأعمار على الدور لحجز مقعد من دون أن يحاول أحدٌ تجاوز الدور، أو أجد لافتة كُتِبَ عليها: «لم يبق محلات»، وفي أمثال هذه الحالات ينشأ ما يُعرف بالسوق الهامشي، حيث يلجأ بعض الباحثين عن الرزق إلى شراء بطاقاتٍ لبيعها عند انتهاء المحلات بسعرٍ أعلى. ولم يكن يسمح لأحد بتغيير مقعده المحجوز مسبقاً، ولكن بعض المتفرجين يتسللون إلى مقاعد أفضل بعد بدء العرض، هذا إن وجدت مقاعد فارغة، فقد كانت أغلب الحفلات ممتلئة، أو «كومبليه» حسب التعبير الذي كان شائعاً آنذاك.
وكان من الأمور المعروفة في ذاك الوقت هو أنَّ بعض الأفلام الشهيرة كانت تُعرض في دارين للسينما معاً لاستيعاب الجمهور الواسع، حيث كانت تُنقل بكرات الفيلم بالدراجة العادية من الدار الأولى إلى الثانية، ثم تعاد إلى الدار الأولى بالتدريج مع وجود فارق نصف ساعة بين العرضين، وكانت كلتا الدارين تغص بالجمهور المتلهف لمشاهدة أفضل الأفلام الأمريكية تحديداً.
كان في دور السينما درجتان لكلٍّ منهما شباك تذاكر، الأولى درجة الصالة، وهي بالمنسوب الأرضي وثمن تذكرتها أقل، الصفان الأخيران يسميان بـ«اللوج» وسعر المقعد أعلى بقليل، أما الثانية فهي درجة البلكون وسعرها أعلى، الصف الأمامي يعرف بـ«بونوار» ذي المقاعد الفاخرة وهي الأعلى سعراً، وفي الدرجتين كان الالتزام بالنظام والهدوء وعدم التدخين والطعام والشراب من المُسَلَّمات حتى من دون رقابة، حيث كان يوجد بين عرض المناظر والفيلم الرئيسي استراحة لمدة ربع ساعة يستغلها الجمهور لمثل هذه الأمور في بهو السينما عدا التدخين، فقد كان يُعطى للمدخن «بطاقة استراحة» للخروج خارج الدار والتدخين قبل عرض الفيلم.
كانت بعض دور السينما تعرض أفلاماً ذات أجزاء في الفترة الأولى، ومع انتهاء عرض الجزء في لحظةٍ حرجة شائقة، تظهر عبارة: «البقية في الأسبوع القادم»، وذلك كوسيلةً لجذب الجمهور إلى الفيلم الرئيسي، وكم من مرة دخلت إلى فيلمٍ لا يعجبني وإنما فقط لأتابع الجزء التالي من فيلم مسلسل ذي أجزاء. وفي فترةٍ لاحقة ظهرت موجة عرضين سينمائيين أحدهما أجنبي والآخر عربي بتذكرة دخولٍ واحدة لجذب أكبر عددٍ من المتفرجين، وبعد تراجع الإقبال على السينما ظهرت موجة العرض المستمر حيث تُعرض ثلاثة أفلامٍ، ويعاد عرضها طوال اليوم وبتذكرةٍ واحدة ما دام المتفرج لم يغادر دار السينما، وهي إحدى الوسائل لشدِّ الجمهور إلى السينما بعد تراجع أعداده.
كانت دور السينما بدمشق درجتين، الدرجة الشعبية ذات السعر الأقل:
– سينما النصر، ثم تغيَّر اسمها إلى «مسرح وسينما سورية»، حيث يعرض فيها غناء ورقص ولقطاتٍ مسرحية حية في الفترة الأولى، ثم عرض سينمائي في الفترة الثانية، وكانت تقع قرب مدخل سوق الحميدية قبل أن تهدم ضمن مشروع تحسين المنطقة.
– سينما أمية، وكانت بجوار فندق عمر الخيام في ساحة المرجة، وهُدمت لاحقاً ومكانها الآن موقف للسيارات.
– سينما غازي، وما زال بناؤها موجوداً في ساحة الشهداء (المرجة)، ولكنها مغلقة منذ سنواتٍ بعيدة.
– سينما الشرق، ثم لاحقاً سينما بيبلوس، وكانت في مدخل شارع رامي، مغلقة منذ سنوات.
– سينما عائدة في ساحة الحجاز، مغلقة.
– سينما فريال، وكانت في أول طريق الصالحية مكان وزارة الاقتصاد حالياً.
أما دور السينما الدرجة الأولى فهي:
– سينما العباسية، وهي الآن مسرح الثامن من آذار في شارع سعد الله الجابري بمنطقة فيكتوريا، ولكنه مغلق.
– سينما دمشق بمنطقة فيكتوريا، هي الآن «سينما سيتي» ذات الصيت الجميل، التي تظهر ـ بعد تجديدها ـ بحلةٍ بهية، بعد أن كانت مغلقة لسنوات، وهي التي أوحت لي زيارتها كتابة هذه المقالة.
– سينما الأهرام، وهي في شارع بور سعيد بمنطقة فيكتوريا، مغلقة.
– سينما بلقيس، وهي سينما الكندي حالياً التابعة لوزارة الثقافة، وتقع في الشارع المتفرع من شارع بور سعيد، ومع أنها تعرض أفلاماً جيدة، إلا أن الإقبال على مشاهدتها ضعيفٌ جداً.
– دارا سينما الفردوس والدنيا في شارع الفردوس، وما زالتا تعملان ولكن ليس كما كان الحال في السابق.
– سينما الحمراء في منطقة الصالحية، وهي الآن مسرح الحمراء التابع لوزارة الثقافة ويُستغل للعروض المسرحية.
– سينما السفراء في شارع 29 أيار، فهي تعمل ولكن ليس كما كان الحال سابقاً.
أما دور السينما التالية: أمير، الزهراء، راميتا، الشام، الخيام، وكلها في منطقة بوابة الصالحية، فهي مغلقة.
هذه هي الخطوط العريضة المبهجة للعروض السينمائية بدمشق في عصرها الذهبي، ولكن دخول التلفزيون الأبيض والأسود في الستينيات، ثم التلفزيون الملون في السبعينيات، ثم القنوات التلفزيونية الأرضية المتعددة وأشرطة الفيديو بتقنياتها المتقدمة في الثمانينيات، ثم القنوات الفضائية منذ التسعينيات حتى الآن، وقد تخصص بعضها بعرض الأفلام السينمائية على مدار الساعة بمعدل فيلمٍ واحد كل ساعتين، بأجر ومن دون أجر، هي عوامل جعلت عصر السينما الذهبية يتراجع ويأفل، فقد تبوأ التلفزيون مكانةً رفيعة في دورنا حتى أصبح فرداً مبهجاً في العائلة، والنجم المميز في اللقاءات العائلية.
وإذا كان من الصحيح القول إنَّ السينما، الفن الذي وُلِد في أواخر القرن التاسع عشر، ونما وترعرع في القرن العشرين، حتى أصبح واحداً من أهم سمات ذلك القرن، لم يستطع أن يزيح المسرح ـ وهو الموغل في القِدم ـ عن مكانته في عالم الفنون والترفيه، ودنيا الاتصال والتسلية، فإن من الصحيح القول أيضاً إنَّ التلفزيون، الذي ولد في منتصف القرن العشرين، قد تمكَّن بجدارة وأهلية أن يزيح دار السينما عن مكانتها كوسيلةٍ مهمة في عالم الترفيه والتسلية، مع كلِّ عناصرها التشويقية من الصورة المبهرة التي تغطي عرض الدار إلى الصوت المجسم الممتزج بالموسيقا حيث يُشعر المتفرج وكأنه في وسط الشاشة وواحد من الممثلين.
ولكنَّ هذا القول أرى أنه لا يكاد ينطبق إلا على دور السينما بدمشق، وبالتأكيد على دور السينما بالمدن السورية الأخرى، لأنَّ الأخبار السينمائية التي تردنا من دولٍ أخرى تقول إنَّ السينما لا تزال في ريعان شبابها، ولم تفقد ألقها ومجدها، بل إنَّ الإقبال عليها يتزايد يوماً بعد يوم، والدليل على ذلك هو تلك البرامج الدعائية التي نشاهدها على القنوات التلفزيونية التي تعرض برامج من قبيل: «شباك التذاكر»، ولولا هذا الإقبال لرأينا شركات الإنتاج السينمائي قد توقفت، ولشاهدنا دور السينما تغلق أبوابها واحدةً تلو الأخرى، والصحيح هو تزايد أعدادها بدلاً من ذلك.
ومع أنَّ الدولةَ السورية، ممثلةً بوزارة الثقافة، الهيئة العامة للسينما، تسعى إلى بثِّ الروح السينمائية وإحياء عشقها في نفوس مواطنيها، من خلال مهرجاناتٍ سينمائية تُعرض فيها أحدث الأفلام العالمية في صالاتها التابعة لها، إلا أنه حتى هذه المهرجانات لا تلقى الإقبال المنشود، ولا أجد أي تفسيرٍ مقنع لذلك.