فيلم «العودة إلى البيت» وجوه ثلاثة متداخلة في التاريخ الصيني

فيلم «العودة إلى البيت» وجوه ثلاثة متداخلة في التاريخ الصيني

سينما

الأربعاء، ٧ يناير ٢٠١٥

تعرض الصالات الفرنسية حالياً فيلم «العودة إلى البيت» للمخرج الصيني تسانغ ييمو، المقتبس عن رواية يان غلينغ «المجرم لو يانشي». الفيلم يروي قصة عائلة مزقتها الثورة الثقافية. الزوج معتقل سياسي يفر من مخيمات العمل ويعود إلى بيته بحثاً عن زوجته وابنته اللتين لم يرهما منذ سبعة عشر عاماً قضاها في الأسر. الإبنة راقصة باليه موهوبة وطموحة تسعى للحصول على الدور الأول في عرض تنظمه مدرستها، لكنها تحرم منه بسبب «خيانة» والدها الذي لم تعرفه. ككل جيلها، الإبنة تربت على مبدأ الولاء المطلق والأعمى لسلطات الثورة، ولذا تشي بأبيها معتقدةً أنهم سيسمحون لها بالحصول على الدور الذي تبغيه بعد التأكد من ولائها.
بعد ثلاث سنوات تنتهي الثورة الثقافية ويُحرر المعتقلون السياسيون. عندها يعود الوالد ليجد ابنته تخلت عن الرقص لتعمل وتقيم في مصنع بائس بعد أن طردتها أمها، وامرأته أصيبت بفقدان جزئي للذاكرة وماعادت قادرة على التعرف عليه. مرضها نفسي أولاً، هي تذكر الماضي وتتعرف على ابنتها وعلى الصور التي التقطت لزوجها قبل اعتقاله، لكن لديها ذاكرة سمكة فيما يتعلق بالحاضر. هي تعجز عن التعرف على زوجها بعد أن تقدم في السن، وكلما حاول أن يقربها بحميمية تعتقد أنه الضابط الذي اغتصبها بعد أن لجأت إليه لإعفاء زوجها من عقوبة الإعدام. الزوج يتواصل مع امرأته من خلال رسائل يقرأها لها مدعياً أن زوجها (أي هو نفسه) ائتمنه على إيصالها لها. يقنعها بالغفران لابنتهما وإعادتها إلى البيت، لكنه يفشل في إعادتها إلى الحاضر وجعلها تتعرف عليه.
على هذا المنوال، يظل الأب وابنته لسنوات طويلة يرافقان الأم في الخامس من كل شهر (اليوم الذي كان الأب ذكر في الرسالة التي أرسلها إلى زوجته بعد تحريره أنه سيعود فيه) إلى المحطة لانتظار عودة الزوج الشاب الذي سرقته الثورة إلى الأبد. من الظلم والسخف اتهام تسانغ ييمو باختزال رواية يان غلينغ إلى مجرد قصة حب ومعاناة انسانية وتغييب بعدها السياسي، كما فعل العديد من النقاد الغربيين. على العكس، الحبكة السياسية والاجتماعية حاضرة بوضوح في الباغراوند، لكن المخرج اختار معالجتها من خلال المقاربة التصويرية الرمزية والإيحائية، عوضاً عن المقاربة المباشرة والديماغوجية التي نجدها في العديد من الأعمال السطحية الموجهة أساساً إلى الجمهور الغربي والمفصلة على قياس هواجسه وكليشيهاته. مثلاً، حينما يذهب الزوج للانتقام من الضابط الذي اغتصب زوجته يكتشف أنه في السجن بسبب الانتهاكات التي ارتكبها، وهو أمر كانت تكتمت عنه المسؤولة الحزبية التي اكتفت بالقول إن الضابط نقل إلى منطقة أخرى. الإشارة هنا واضحة إلى الموقف المزدوج لسلطات ما بعد الثورة الثقافية. بالنسبة إلى هذه السلطات، كان المطلوب إخراج البلد من الوضع الكارثي الذي أدت إليه الثورة الثقافية ومعاقبة المسؤولين عنها وعن الجرائم التي ارتكبت خلالها، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى إسقاط النظام أو زعزعة الحزب الحاكم. في الدائرة العليا للحزب، المسؤولون عن الكارثة الأحياء (عصابة الأربعة) وضعوا في السجن، والمسؤولون الأموات تم الحفاظ على ذكراهم وتماثيلهم في الساحات العامة (ماو تسي تونغ نفسه هو المثال الأهم). في الدوائر الأقل مرتبة، المجرمون عوقبوا بتكتم وبمنأى عن الأنظار على غرار الضابط المغتصب. أما المراهقون الذين شكلوا المحرك البشري الأهم للثورة الثقافية (الذين تمثلهم الإبنة الراقصة في الفيلم)، فقد اعتبرت السلطات الجديدة أنه تم التلاعب بهم وأرسلوا إلى مخيمات ومراكز لإعادة التأهيل بعد إعفائهم من المسؤولية (تم التعامل على نحو مشابه مع الشبيبة الهتلرية في ألمانيا ما بعد الحرب). حالة الزوجة الحاضرة والغائبة في الآن نفسه تمثل بزخم تعبيري هائل صين ما بعد الثورة الثقافية، وذاكرتها المعذبة هي ذاكرة هذه الصين. الزوج الشاب الذي خطفته الثورة، الضابط المغتصب والزوج الكهل العائد والمنقذ يمثلون ثلاثة وجوه متداخلة للحزب الحاكم الذي صنع تاريخ الصين الحديثة. على غرار الزوجة التي تعجز عن التمييز بين زوجها العائد ومغتصبها، في هذه الصين تتداخل ذكرى مجرم الثورة الثقافية مع ذكرى المنقذ الذي أخرج البلد من الهاوية (في الدوائر الرسمية، تتجاور صورة ماو تسي تونغ مع صورة دينغ سياو بينغ). على غرار الزوجة، هذه الصين تملك ذاكرة سمكة وتجري بشكل آلي وراء الحاضر من دون أن تستوعبه ولا تريد أن تحفظ من ماضيها سوى الحلم الشيوعي الشاب والطوباوي الذي خطفته الثورة الثقافية.