الخرافة .. قناعات تتناقلها الأجيال.. سيطرة تامة على يوميات الناس.. والعلم مغيّب

الخرافة .. قناعات تتناقلها الأجيال.. سيطرة تامة على يوميات الناس.. والعلم مغيّب

شعوب وعادات

الجمعة، ٦ يناير ٢٠١٧

لم تكن تلك السيدة تؤمن بالخرافات التي ينتشر بعضها بكثرة في المجتمع السوري، ويتحدث الناس عنها، ولم تكن تُعيرها شأناً، كانت تعتبر جازمة أن من ينساق إليها غبي ومتخلف، وينقصه الكثير من الوعي والتدبير، لكنها في الوقت نفسه لم تستطع منع الاضطراب من التسلل إليها حين رأت فردة حذاء مقلوبة، فحاولت تصحيح وضعها، ولم تجد بدّاً من تحذير أطفالها الصغار من تجنب القفز فوق بعضهم خشية أن يتوقفوا عن النمو، ضحكت حين استوضحنا السبب منها، وبررت تلك الأفعال المسيطرة عليها أنها شيء خارج عن الإرادة، وأضافت: لا بد من بعض التأثير شئنا أم أبينا، ولابد من سطوة لتلك المعتقدات التي نشأنا عليها، ووجدناها في المجتمع، فهي متداولة ومنتشرة عبر مختلف الأزمنة والعصور، وتنتقل من جيل إلى آخر،  وأضافت أم مهند، السيدة الأربعينية التي لا تؤمن بالخرافات: إن تجنّب العمل بما جاء فيها لا يعني الاعتقاد بصحتها، لكن لمَ المجازفة والتحدي، فربما كان في بعضها شيء من الصحة؟!، هكذا إذاً يبدو تأثير الخرافة عند بعض الرافضين لوجودها في المجتمع، فكيف إذاً بآخرين يتابعون هذه الاعتقادات، وتسيطر على الكثير من مجريات أيامهم وحياتهم، عموماً إما للتفاؤل، وجلب الحظ، وإما للتشاؤم، وطرد سوء الطالع، وهل من أصل لتلك الاعتقادات فعلاً، وما هي دوافعنا للتعلق بها؟!.
تأثير يومي
واليوم رغم التطور الهائل الذي وصلت إليه البشرية في المعارف والأبحاث والاختراعات والابتكارات العلمية والتكنولوجية، مازلنا نرى بعض من يتأثر بشدة بالاعتقادات والخرافات الرائجة في المجتمع، ومازلنا نجد تأثيرها غير المفهوم عند معظمنا في التصرفات والأفعال، وحتى في الأمثال الشعبية التي تأتي في سياقات أحاديثنا، وعلى سبيل المثال يردد الكثير من الناس مصطلح النقر على الخشب لإبعاد الحسد دون معرفة لماذا يقومون بذلك، وهذه خرافة قديمة منتشرة عند معظم الشعوب، مفادها أن الأرواح الشريرة أو الجان، قد تخرج من الخشب لمحاولة إيذاء من نذكرهم في الأحاديث، لكن الطرق عليه، يعيدهم إليه مجدداً، ويحفظ من نتحدّث معهم من الأذى، والملفت أن التأثير اليومي للخرافات أو الاعتقادات، قد نجده في طرق أخرى، فهناك دائماً أبواب للتفاؤل وأخرى للتشاؤم يعتقد بها الكثير من السوريين، فمثلاً يبحث ياسر عن ورقة يانصيب لسحب آخر العام، تتألف من أرقام زوجية فقط، ويبرر ذلك أنه يتفاءل بالأرقام المزدوجة جداً، ويعتقد جازماً أنه سيربح الجائزة الكبرى لو عثر على رقم معيّن كتبه قبل أيام، ويحاول  العثور عليه، أما أبو غدير، فيتفاءل بخواتم يضعها في يده اليمنى، ويقول: إن يومه معها يكون غالباً أكثر حظاً، ويفرح صدام بتوقعات إيجابية لبرجه رغم عدم إيمانه بالأبراج، واعتباره لها أنها خرافات لا أكثر، في حين تعتبر هديل أن سوء الطالع الذي رافقها ذلك اليوم حين طردت من محاضرة في الكلية، وحصلت على علامة متدنية في مادة أخرى كان بسبب قطة سوداء شاهدتها على الطريق، وأفزعتها صبيحة يومها السيىء.

أكثر غرابة
بحر من الخرافات إذاً تنتشر في مجتمعنا، ويعرفها الكثيرون، وما زالوا يعتقدون بتأثيرها كالأيام المفضلة للسفر، والأوقات المناسبة للزواج، والأشياء التي تجلب الحظ أو الشؤم، والعادات المختلفة لطرد الأرواح الشريرة والجن كطرق الخشب، ورش الملح، وتعليق الخرزة الزرقاء، أو حدوة الفرس، أو حذاء طفل صغير، وسكب الرصاص، وغيرها من العادات، كمعرفة جنس المولود عبر تعليق المفتاح في الهواء، أو استخدام المقص، وغير ذلك من الخرافات التي لا تُعد ولا تُحصى، لكن الأكثر غرابة فعلاً هي معتقدات وطقوس موجودة في مجتمعات أخرى كجزء من طقوس يعتقدون بصحتها، لكنها قد تبدو مضحكة جداً، أو غريبة ومنفرة بالنسبة إلينا، فمثلاً يقوم بعض رواد الفضاء الذكور في روسيا بالتبول على يمين العجلة المستخدمة لنقلهم الى موقع الإطلاق لكي يصلوا بالسلامة، أما في تايلاند، فيعتقد البعض أن الوشم الذي يضعه الرهبان البوذيون يمكن أن يحميهم من الرصاص والسكاكين، وفي الصين هناك من يؤمن بأن إهانة الأطفال تساعد في المحافظة عليهم في مأمن عن الكيانات الشريرة، وفي بلدان أخرى كثيرة هناك عادة منتشرة تفيد بأن ارتداء الملابس الداخلية من الداخل للخارج يجعل اليوم السيىء أفضل، وفي اليابان الشخص في منتصف الصورة المكونة من ثلاثة أشخاص يموت، أو يعاني من سوء الحظ في حياته، وفي بلدان مختلفة المرأة ستكون عانساً في نهاية المطاف إذا قبلت رجلاً ذا شارب، أما في تركيا فمضغ العلكة في الليل عادة مخيفة كما لو كان من يقوم بها يمضغ لحم الموتى.
لماذا انتشارها؟!
ولكن لماذا تستمر هذه الخرافات، ولماذا لا تزول سطوتها، ونستمر بالتمسك والتعلّق ببعضها، وتجنب ما يحذر منه بعضها الآخر؟!.. يؤكد الدكتور غسان منصور، اختصاصي علم النفس المعرفي (عمليات عقلية)، بأن دلالات الرموز النفسية، والاعتقاد ببعض الأمور والخرافات، هي مسألة مرتبطة بتأمين الجو النفسي المريح، أو غير المريح (التفاؤل أو التشاؤم)، وهذه المقاييس والرموز تختلف بحسب المجتمعات، والثقافات، كالقط الأسود، أو الغراب الذي يخشى منه البعض في بلدنا، ويعتبره نذيراً للشؤم، لكنه على العكس تماماً في أوروبا، فهو يشير للتفاؤل والحظ الجيد، ويمكن القول بأنه في كل مجتمع هناك أفكار خاصة ببعض التعويذات والتمائم والأشياء، وإطلاق المسميات المختلفة عليها تبعاً لكل ثقافة، مستفيدين من الأفكار التي انتشرت عبر العصور، والتي لها أساس تاريخي أصلاً، فالمعتقدات التي ورثناها عبر الزمن هي تجمع لمجموعة ثقافات مرت عبر العصور، لذلك تم انتخاب مجموعة من التعويذات، وأصبحت ضمن الثقافة المنتشرة، وعبر التربية اليومية، وربما تعود بعض هذه الأساطير في الأصل إلى المرحلة الوثنية، أو اليهودية الأولى، أو المسيحية، ونحن في سورية عموماً من أكثر المناطق التي عرفت تعاقباً للحضارات، لذلك فهذه الخرافات موجودة ولاتزال بكثرة لدينا.

فروق فردية
ويؤكد الدكتور منصور بأن هناك فروقاً فردية ملاحظة في مسألة التعلّق الآمن بهذه الطلاسم دون أن توجد فروق بين المتعلّم مثلاً، أو غير المتعلّم، وبين صغير أو كبير، لأن المسألة في الأصل عبارة عن مفاهيم تربوية تنتقل عبر الزمن، مع الإشارة إلى أن الأمثال الشعبية التي تعبّر عن تلك الاعتقادات، وتكون جزءاً منها، تتجه نحو التربية السلبية، وتعلّم الفردية، وتعزز الروح الانعزالية بمعظمها، مثلاّ: (الباب الي بيجي منو الريح سدو واستريح، الهريبة تلتين المرجلة)، فهذه الأمثال الشعبية كما المعتقدات لا تعلّم الثقافة الإيجابية، وتعزز النمط السلبي، والهدف منها هو التحرك الإنساني ضمن ما يسمى الحاسة السادسة التي توجه سلوك الإنسان باتجاه التفاؤل والتشاؤم، لذلك يبحث عن مصدر خارجي لتأييد فكرته الداخلية، وهذا المصدر قد يكون: (طيراً– مقصاً– مفتاحاً- أو غير ذلك)، ويضيف منصور بأن نسبة التعلّق بهذه الأشياء مختلفة بين الأشخاص، وخصائصهم الفردية، وطبيعتهم، فالتعلّق بالأبراج، مثلاً، يؤمن نوعاً من التوازن النفسي للإنسان الذي فقد التوازن بصورته الطبيعية، ويبحث عن سد الثغرات، وثقوب الخبرة، بحسب مدرسة “الغاشتالت”، ويرى منصور بأن نسبة التفاؤل والتشاؤم تختلف بين فرد وآخر، لذلك نجد أن هناك من يبحث بكثرة عن هذه الاعتقادات، ويؤمن بها، فهي تأييد خارجي لأفعاله، أو تبرير لها، ويختم بأن هذه الخرافات، سواء أكانت قصصاً أم أشياء مادية، لا طاقة فيها ولا قوة، لكن قوة الإيحاء التي يتمتع بها الإنسان نفسه هي من يمنحها ذلك التأثير عليه وعلى الآخرين، فدرجة الإيمان بالطوطم تعطيه الطاقة، وأن هذا الشيء خارق، مع العلم أن الهدف هو الحصول على توازن نفسي، وتفسير الظواهر التي تحدث في الحياة دون أن نستطيع تفسيرها، وللأسف فنحن كمجتمع سوري نربط معظم الأشياء السلبية بهذه الخرافات، أما الإيجابية فننسبها لأنفسنا، فإذا نجح أمر ما فهذا عملي، أما إذا فشل فهذا تأثير الخرافات، وعليكم أن تصدقوا وجودها!.
محمد محمود