تحدد السلوك وتخالف الذات الضغوط الاجتماعية.. صراع بين الرغبات الشخصية وقيود المجتمع.. وامتثال لإرادة الآخرين

تحدد السلوك وتخالف الذات الضغوط الاجتماعية.. صراع بين الرغبات الشخصية وقيود المجتمع.. وامتثال لإرادة الآخرين

شعوب وعادات

الجمعة، ١٧ فبراير ٢٠١٧

 حين وجدت السيدة هادية نفسها محط سخرية، وتهكم الآخرين لارتدائها لباساً أحمر اللون في اليوم الذي سبق عيد الحب، لم تعد الكرة في اليوم التالي، فكانت الألوان التي اختارتها للخروج من المنزل أقلَّ بهجة وفرحاً، واختفت من  ملابسها أي إشارات أو تلميحات عن كونها تشارك العشاق فرحتهم، لا تريد تلك السيدة التي بلغت الخمسين من العمر سماع المزيد من النكات، أو التعليقات سواء المباشرة، أو تلك التي تصل مسامعها همساً، وتستطيع تميزها في نظرات الآخرين، لا تريد أن تجعل نفسها تحت الأضواء مجدداً في مجتمع يهتم بأدق التفاصيل، فيتابع، وينتقد أفراده على كل سلوك غير مألوف، أو خارج عن السياق المتوقع الذي درجت عليه أكثريتهم، مجتمع يحدد لمعظم أفراده أنماط سلوكهم ومظهرهم العام، وحتى توجهاتهم وأعمالهم، ويضع القيود والعقبات في وجه كل المتمردين على قوانينه الصارمة.
اختيارات إجبارية
وربما يبدو أثر القيود الاجتماعية أكثر وضوحاً في أمثلة أخرى تتجاوز التأثير اللحظي، أو الانتقاد الذي قد يطال أحدهم على لباس، أو سلوك ما ليصل إلى التأثير على الخيارات ومستقبل الأفراد، مثال ذلك هاني طالب الهندسة الكهربائية الذي وجد نفسه في السنة الثالثة لهذا الفرع العلمي مع أن اهتمامه وميوله في مكان آخر، فالشاب كما يقول: يهوى العلوم الاجتماعية ودراسة الفلسفة تحديداً، لكن نصيحة أهله وأقاربه ومعظم أصدقائه، كانت بخلاف هذه الرغبة، وامتثل لضغط المجتمع وعباراته التي غالباً ما كانت تؤثر فيه حين يفكر في الوظيفة، والمكانة الاجتماعية، ونمط الحياة الذي سيكون عليه، فاختار مرغماً ما يتماشى مع المجتمع وقوانينه، وأجّل أحلامه، أو طواها إلى غير عودة، في حين يؤكد أبو عادل “رب الأسرة” أن الحياة تدفعنا في مواقف كثيرة، لأن نكون متناقضين، فنفعل ما لا نؤمن به لمجرد أننا نخشى من المجتمع، أو ربما لأننا نخشى الانتقاد، فنجامل كثيرا،ً ونبدي ما لا نشعر به حقيقة، وربما نؤذي البعض، وندفعهم لأن يصدقوا حالة لا يعيشها، فنقد الثقة بالآخر وبالنفس.
أكثر تناقضاً
في المقابل يبدو أن الضغوط الاجتماعية، قد ينتج عنها جملة من التناقضات التي تظهر في سلوك بعض الأفراد، فيختلف سلوكهم في محيطهم الاجتماعي ومكان عملهم عن سلوكهم في منزلهم، وتستشهد إحدى السيدات بسلوك صديقتها التي تحرص على مظهرها أمام صديقاتها بكونها سيدة مجتمع، وتستطيع تقديم نصائح كثيرة عن الأسرة وطريقة الاهتمام بالأطفال، لكن الواقع أنها مهملة في منزلها، وبعيدة كل البعد عن زوجها وأطفالها، وبالحالة نفسها التناقض، فتضع سيدة أخرى زوجها في إطار الاستجابة لما يمليه عليه المجتمع، إذ عرف في محيطه الاجتماعي بالأدب والخلق والاحترام والهدوء، ولكنه في الحقيقة يختلف عن ذلك كثيراً في محيط بيته، يصبح زوجاً عصبياً وأباً قاسياً ورجلاً عنيفاً، وربما في كثير من الأحيان غير مبال، حتى تشعر بأنه صورة متناقضة عن الصورة التي يعرفها عنه الأصدقاء والأقارب.
ضغوط اجتماعية
يضع الباحث الاجتماعي كنان الشيخ بعض التصرفات والسلوكيات التي تظهر في حياة الأفراد في سياق الضغوط الاجتماعية التي يواجهونها، والتي تنطوي على الكثير من التوتر والقلق، ما يؤثر في شخصية الفرد بشكل سلبي، ويؤثر على صحته النفسية، والجسدية، وتبدو تلك الضغوط في الكثير من المجالات كالعمل، والدراسة، ومنها ما يتعلق بالحرية الشخصية كارتداء تصاميم معينة من اللباس، فقط لأنها تعجب أبناء المجتمع، وتعبّر عن الشخصية المثالية من وجهة نظرهم، وذلك بحكم العادات والتقاليد الموجودة لديهم، دون الاهتمام بذوق الفرد وميوله تجاه أزياء معينة، فيضطر للابتعاد عنها لأنها غير محببة في مجتمعه، وستكون محط سخرية الكثير منهم إذا فكر أن يرتديها، كما أن المجتمع يتدخل أيضاً في الخيارات المستقبلية للشباب، فمثلاً نجد البعض يتجهون نحو فرع معين، فقط لأن هذا الاختصاص مرغوب اجتماعياً، ويحقق مكانة مهمة للفرد، متجاهلين أن العمل حب ورغبة وطموح قبل أن يكون أمراً مفروضاً من الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى خلق طالب إما مهمل لدراسته، وفاشل في إكمالها، أو متلقن لهذه العلوم دون الدخول في تفاصيلها، هذه التفاصيل التي تخنق روح الإبداع والابتكار في داخله، وحتى عندما يصل إلى مرحلة العمل، فإننا نرى شخصية مهملة لعملها، فاشلة في تحقيق النجاح فيه، مكتئبة، و”مالّة” من روتينها اليومي، ولكن في المقابل يتوقع الباحث الاجتماعي أن نرى بعض الشباب الرافضين لهذه الخيارات، والذين يدخلون التصاميم الغريبة، ويطلقون عليها اسم الموضة الحديثة كردة فعل تجاه نظرة المجتمع لها!.

آثار سلبية
ويتحدث الشيخ عن آثار مختلفة تولّدها ضغوط المجتمع، منها العضوية والنفسية التـي تؤدي إلى الوقوع في العديد من المشكلات الاجتماعية كالعزلة، والوحدة، والشعور بالاغتراب، والميل إلى العدوانية، والميل للجنوح، واليأس، والانطواء، والانسحاب، وفقدان الثقة بالنفس، والشعور بالعجز، وذلك حين يكون الفرد مطالباً بإنجاز الكثير من المهمات التي تفوق قدراته، أو إمكاناته، أو كليهما معاً، ويضيف: هذه الضغوط تنذر بخطر داهم يهدد الصحة، والقوة البدنية للإنسان، ما يشير إلى حجم الأخطار التي تهدد المجتمع بأسره، فيجب على الفرد أن يضع حدوداً لها ما استطاع ، فاستمرارها يعني قلة الإنتاج، ويبشّر بمجتمع مريض هزيل، الأمر الذي يدفع إلى ضرورة تحسس مصادر الضغوط الواقعة على كل شرائح المجتمع، تمهيداً لإعداد البرامج لخفضها، ومن ثم إزالتهـا، ليأخذ المجتمع طريقه نحو النماء، ويختم بالقول: من المؤكد أن الجميع معرّض لضغوطات الحياة المختلفة، ولكن لا يحمل الجميع الانهزامية، والرؤية السوداء، ويجعلون أنفسهم فريسة لتلك الضغوطات، وهذا الأمر يعود إلى طبيعة الشخصية، والتنشئة النفسية السليمة لها، والاستقلالية التي اعتادت عليها منذ صغرها، ومدى قدرتها على اختيار ما تريده، وما تفضله، وأن تكون قوية الإرادة، طموحة، مثابرة، راغبة في المضي قدماً بما يحقق لها النجاح، ويقودها تجاه مستقبل أفضل كما تريد هي لا كما يريد الآخرون، وهذه الشخصية الصلبة نفسياً، والقادرة على مواجهة تحديات الحياة بصبر، وعزم، وثبات، والواثقة بما لديها من قدرات وإمكانيات، شخصية متزنة انفعالياً، منبسطة اجتماعياً، تقود نفسها من الداخل وليس من الخارج.
محمد محمود