تقليد المشاهير.. ضياع للذات في بحر الأوهام.. وتقمّص يُحاكي السلوك بالصور

تقليد المشاهير.. ضياع للذات في بحر الأوهام.. وتقمّص يُحاكي السلوك بالصور

شعوب وعادات

الخميس، ٩ مارس ٢٠١٧

بعد إلحاح كبير امتثلت أم وسيم لرغبة ولدها، فبحثت له جاهدة في معظم محلات الألبسة بمنطقة “الحريقة” عن قميص ناديه المفضل “برشلونة”، تأخذ الأم وقتها في البحث، فليس أي قميص يمكن أن يفي بالغرض، يريد ابن الثلاثة عشر عاماً قميصاً يحمل الرقم عشرة تحديداً، وعليه اسم هداف النادي “ميسي”، لأنه لقب عرف فيه بين أولاد حيّه حين يلعبون كرة القدم سوية، وهو أيضاً تلك الشخصية المحببة التي تقمّصها، ويريد تقليدها في كل شيء لموهبتها الاستثنائية في كرة القدم، تجد الأم أخيراً المطلوب منها في أحد المحلات، لكن بسعر فاق المتوقع، ورغم ذلك تدفع المطلوب لتحقق رغبة ابنها المهووس بنجمه المفضل.

قصص أخرى

قصص أخرى كثيرة، يمكن أن تصادفك، وأنت تبحث عن هواة التقليد وتقمص المشاهير، يروي لنا أبو فادي كيف دفعه ابنه منذ سنتين تقريباً لشراء آلة موسيقية هي عبارة عن غيتار كهربائي تجاوز سعرها الـ 150 ألفاً، موضحاً أن ولده من عشاق إحدى فرق الموسيقا الغربية، وكثيراً ما كان يلح أمامه ليحقق له هذه الرغبة، ورغم معارضة الأب للفكرة في البداية، إلّا أنه تجاوب أيضاً في نهاية الأمر مع رغبة ابنه المقلد والمتقمّص سلوكيات تلك الفرقة الغربية التي تستهويه كثيراً، رغم أنها لا تنسجم مع طبيعة المجتمع، لكن للأسف، فمجاراة التقليد كان مجرد مظهر فقط، لأن الطفل لم يتقن استخدام الآلة، وتركها بعد مدة قصيرة متقمصاً شخصية أخرى، كما أوضح لنا الوالد أبو فادي، ولا يبدو غياب العامل المادي، أو امتناع بعض الأهل عن مجاراة أولادهم في التقليد، أو متابعة المشاهير سبباً لعزوف أبنائهم عن التقليد، خاصة حين نرى في إحدى الحارات الشعبية مجموعة أطفال يقلّدون أبطال شخصيات مسلسل تلفزيوني ظهر منذ مدة وهو باب الحارة، في حين يؤكد هاني ابن الخمسة عشر عاماً أنه ليس بالضرورة مجاراة الشخصية المحبوبة وتقليدها باللباس، وكل ما تقوم به، فالتقليد يمكن أن يكون بالحركات وطريقة التصرف، وهو ما يفعله حين تستهويه شخصية معينة، في المقابل يبدي قلة من الشباب حالة استياء من التقليد الأعمى، فيعتبر وائل أنه مظهر  مثير للسخرية، خاصة حين يصبح الشباب كالآلات يقلّدون ما يرون دون وعي أو تفكير، وهذا يخالف عاداتنا ومجتمعنا، موضحاً يمكن أن أهتم بأحدث الأزياء مثلاً، إلّا أنني لن أرتدي الغريب منها، أو تلك الملابس التي تمثل شخصيتي وأفكاري، وليس أفكار الآخرين وشخصياتهم.

ليسوا بمفردهم

وربما تتجاوز حالة التقليد الأعمى، وتقمّص سلوك الفنانين والمشاهير فئة الأطفال والشباب لتبدو حالة عامة تلامس معظم شرائح المجتمع السوري، كل بحسب اهتمامه وميوله وعمله، فلا تزال مثلاً شخصية سائق التكسي “أبو جانتي” تؤثر في الكثيرين من سائقي النقل العام وسيارات الأجرة، تشد انتباهنا جملة كتبها أحد سائقي التكسي في منطقة البرامكة “أبو غادة ملك اللادا” في حين يبدو “تابلو” سيارته مزدحماً بقطع زينة كثيرة ومعلقات من الخرز تظهر اهتماماً من ذلك السائق بسيارته، يحاكي ما كنا نشاهده في ذلك العمل الدرامي، ويبدو تقمص ذلك الرجل لشخصية أبي جانتي، حتى في طريقة حديثه ومعاملته للزبائن، في حين تؤكد رنا، الشابة العشرينية، أن الموضة شيء أساسي للكثير من فتيات جيلها، وتقليد الفنانات بات أمراً عادياً، لكنها، كما تقول، تنتقي ما يناسبها، فلا يوجد شخص محدد أقلده، ولكن أحب أشياء من كل ممثلة أو فنانة، فأنتقي ما يناسب شخصيتي.

خوف متزايد

في المقابل يبدو الخوف متزايداً عند البعض من أن يصبح شباب اليوم نسخاً مكررة من شخصيات أخرى لا تمثّل الواقع، أو المجتمع، أو تعبّر عنه بأبشع صوره، ويوضح سعيد خضور، طالب ماجستير في كلية الآداب، أثر هذا التقليد، والظاهرة التي بدأت تتنامى منذ أعوام في المجتمع السوري على مستويين، فهناك من يقلّد أبطالاً، وشخصيات، ورموزاً بعيدة كل البعد عن واقعنا ومجتمعنا، وهناك فئة أخرى هي الأكثر خطورة بنظره من أفراد يتقمصون سلوك نماذج مثيرة للاشمئزاز والسخرية، والتعالي على الآخرين، في حين تغيب القيم الأخلاقية التي كنا نحاول التمثّل بها سابقاً، ورغم أنه لا يعفي نفسه من إمكانية التقليد في بعض الجوانب، إلا أنه يؤكد أنه من المهم جداً أن نبحث عن بناء شخصيتنا بمفردنا بعيداً عن أي تقليد أو تكرار للآخرين.

الفارس المفقود

يضع الدكتور غسان منصور، اختصاصي علم النفس (عمليات عقلية) في كلية التربية بجامعة دمشق، حالة التقمص التي تظهر في سلوك الكثير من الأطفال، أو المراهقين لشخصيات أو رموز صورية تظهر في وسائل الإعلام، في إطار الأمر الطبيعي، فموضوع الخيال يرافق الإنسان لفترات طويلة، ويمتد مع الأطفال حتى عشر سنوات، في حين يمكن أن يفهم بعد ذلك في إطار التفريغ أو الهروب من الواقع، أو قد يكون حالة مرضية، وهو أمر بحاجة لدراسة وتحليل بحسب كل حالة، ويوضح منصور: حين تظهر شخصية لبطل في التلفزيون يتبناها الطفل، أو المراهق، أو حتى فئة الشباب، فهم غالباً ما يجدون أن هذه الشخصية تمثّل دور العدل، أو الفارس المفقود واقعياً الذي يبحث عنه الناس كونه يدافع عن المظلومين، وينتصر لقيم الحق والعدالة، وبالتالي تبدأ حالة التقمص والتقليد، فيجد الشاب أن قيمه أصبحت لاشعورياً من قيم هذا الشخص، أو البطل التلفزيوني، فالتقليد يفهم ضمن إطار قانون نفسي مفاده: وراء كل سلوك حاجة، فالخيال مفيد، وينمي الشخصية في مراحلها الأولى إلى حد معين.

لغة الصورة

ويؤكد منصور أن التمثّل بالكثير من هذه الشخصيات يكون من الإعلام الغربي، أو من الأفلام الأجنبية لضعف أدوات الإعلام والتأثير، وعدم وجود منتجات خاصة تشابه واقعنا، لذلك نبحث عن تلك الشخصيات في وسائل أخرى، لكنه في المقابل يحذر من ظهور حالة مؤذية في المجتمع من تقمص، أو تمثّل بعض الشخصيات التي يسوقها الإعلام، فصحيح أن الفرد يتقمص شخصيات محببة، لكن هذه الشخصيات لا تمثّل بالضرورة القيم الإيجابية، وقيم الحق، والخير، والعدالة، فالخطورة حين تظهر شخصيات تمثّل قيماً مناقضة لهذه القيم، وتعكس مستوى هابطاً يغيب عنه أي مستوى أخلاقي وقيمي، كما يبدو في تقليد بعض الفتيات لبعض الشخصيات الهابطة أخلاقياً، ويحصل هذا الأمر من خلال استمرار التكرار، وظهور هذه الشخصية أو تلك على الفضائيات، فالتبني يكون من خلال لغة الصور، وليس النموذج القيمي والأخلاقي، وهو ما نحذر منه، وما يشكّل خطراً متزايداً في مجتمعنا.

محمد محمود