هل التنافس بين الشعراء يسير بالشعر دوماً إلى الأمام؟

هل التنافس بين الشعراء يسير بالشعر دوماً إلى الأمام؟

شاعرات وشعراء

الاثنين، ٣٠ يناير ٢٠١٧

أحمد محمد السح

تبدّت مع بوادر النهضة العربية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مؤشرات ضرورة الحكم بالموت على الشعر الهزيل الذي انتشر في عصر الانحدار، وكان يجب على المهتمين بالتغيير والتميز أن ينتقلوا من حالة الاستقراء للسائد المنتشر ليتجهوا إلى معادل موضوعي موازٍ لهم أكثر فائدة يشعرون تجاهه بالاقتداء وربما بالتنافس؛ وهو ما فعله الشاعر الرائد محمود سامي البارودي الذي أدار ظهره للشعر الذي كان منتشراً في تلك المرحلة وما سبقها، وتوجّه إلى شعر المتنبي والمعري والحمداني، أي توجّه إلى الشعر الرائد الذي قدمته المراحل اللامعة في الشعر العربي، ليقتدي به ويصوغ قصائد متناصة مع تلك القصائد، ويجعل من هؤلاء الشعراء الذين تفصله القرون عنهم زمنياً، منافسيه لا بل يعتبر نفسه سبّاقاً لهم ومتميزاً عليهم وهو ما أشار إليه في قوله:
«فيا ربما أخلى من السبقِ أولٌ… وبزَّ الجيادَ السابقاتِ أخيرُ»

وهو نوع من التضخم المعرفي والثقافي والاستقرائي عند البارودي أن يعتبر نفسه أنه سبّاق لهؤلاء الشعراء وإن جاء متأخراً زمنياً عنهم، إلا أنهم أنداده وليسوا أبناء جيله هم الأنداد وهو ما دفعه ليقول شعراً مشابهاً لشعرهم رغم أن فعلته هذه جعلته متقدّماً عن غيره في الاتكاء على الموروث للخروج من رداءة النص في عصره – عصر الانحدار الذي عاش وولد فيه. وقد شغلت هذه الحالة التنافسية الكثير من صفحات الشعر، عبر مراحل النمو الشعري لا بل ارتبطت أسماء من الشعراء بعضها ببعضٍ لتشكّل ثنائيات ترافقت مع بعضها زمنياً، فالمتنبي وأبو فراس الحمداني تعايشا في زمن واحد وتنافسا على بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، لكن تنافسهما» تقدّم بهما في الحالة النقدية لأن كلا الشاعرين كان من أرباب الخطوات الواسعة في الشعر، وكانا يتعاونان كلٌّ مع حلفه لينتقد سلباً شعر الآخر، حيث يبحثان عن اتكاءات القصيدة على ما سبقها، ويبحث كلٌّ منهما عن هنات الآخر العروضية أو اللغوية، لذلك حرص كلا الشاعرين على أن يجود بأفضل ما لديه شعراً ما ترك لنا إرثاً كبيراً مازال الكثيرون مرتبطين به سواء بمعرفتهم أو من دون معرفتهم، وهذا الأداء التنافسي في الزمن نفسه تواصل حتى في العصر الحديث، فلقد تنافس الشاعران العراقيان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، وبلغت الحالة التنافسية بينهما أسلوباً مرضياً بالمقاطعة بين كل منهما لأمسيات الشعر أو الصالونات الأدبية التي يحضرها الآخر، ولم يحضر أي منهما أمسيةً حضر فيها الآخر وكان لكل منهما حشدٌ حوله يوهمه أنه الشاعر الأول ولا منافس له، وبين الحشدين ثمة من يلعب على الطرفين ويحابي الطرفين حضوراً ويهجوه غياباً، ولكن تقول قصةٌ إن أحد التنظيمات الشابة المدرسية دعت كليهما من دون أن تبلغ الآخر بحضور منافسه، وحين حضرا لم يكن بوسع الآخر أن يخلي الساحة للآخر ما دفع كلاً منهما إلى ارتجال أبيات يضيفها إلى قصيدته يشدّد فيها على أن ساحة الشعر فارغةٌ من دونه، وأن لا منافس له، وهو يعرف جيداً أن ندّه هو المقصود.
ومما قاله الزهاوي:
«وللشعر في بغداد روح جديدة…. وللشعر أعباء أقوم بها وحدي»
ومع بدء حالة الحداثة الشعرية وظهور ما عرف بالمدارس الشعرية والتجييل الشعري، تراجعت الحالة التنافسية مع تراجع الإقبال على الشعر، وتراجع الإقبال على اللغة الفخرية، وانحسار موضوعات الفخر، والمديح والهجاء، مع ظهور الانتكاسات الكبرى التي أصابت أرض الشعراء وطعنت في هويتهم، فلم يجدوا «متكأً لهم في مفخرة» وهو الأمر الذي صاغه الشاعر السوري الراحل علي الجندي في أحد حواراته الصحفية الغنية أواخر السبعينيات من القرن الماضي ليقول: (أنا أكره صيغة أفعل بين الشعراء) مؤكداً، الحالة التفضيلية التي تعطي الحالة التنافسية بين الشعراء وتشعل نار الغيرة بينهم لم تكن موجودة وإن وجدت فإنها لم تفرض نفسها بشكل واضح، ولربما يبدون متعاونين في كثير من الأحوال ظاهراً، وما صياغة الجندي هذه إلا لتعطي انطباعاً عاماً على أن الحالة لتنافسية تراجعت لا بل انقرضت بين الشعراء الحزانى المنكسرين عاطفياً والمقاطعين جماهيرياً تقريباً بسبب المنهجية السياسية التي اتخذت في دق أسافين القطيعة مع القصيدة وعزل الشعراء ضمن أجيال شعرية أبعدت عن الجماهير التي كانت تخاطبها، وللشاعر السوري أدونيس رأي قاله يوماً: (إن أكثر الشعراء جماهيريةً الذي هو نزار قباني، لم يكن ليطبع في الطبعة الواحدة من مجموعة شعرية أكثر من 300 نسخة على امتداد العالم العربي كله). ولقد استمرّت حالة المقاطعة بين الشعراء أكثر من جيل شعري، لتحدث حالة تعويم شعري بعد الثمانينيات أصبحت الحالة النقدية للقصيدة في حالة طلاق بائن مع القصيدة، ولم تعد تتأثر القصيدة بالنقد ولم يعد يتأثر الشعراء بما يقوله أو يكتبه غيرهم من الشعراء أبناء جيلهم لا بل يمكن بشيء من المغالاة أن هناك حالة فطرية – من الفطور لا من الفطرة – من الشعراء تتكاثر في حالة قطيعة مع من سبقها من الشعراء لتجد في ذواتها المتورمة قصائد هاجسية تمنعها من الاطلاع على ما قاله الشعراء السابقون فكيف بالمزامنين لهم، ومرت مرحلة في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع بدء برامح الاستعراضات الاقتصادية الربحية زجّ الشعر في أتون الأمراض العصرية لتتمظهر نماذج برامج مثل شاعر المليون وأمير الشعراء، تحت قاعدة إحياء الحالة التنافسية بين الشعراء وإعادة العلاقة الجماهيرية مع الشعر والشعراء، وهذا الرأي على براءته واتكائه على أفكار سوق عكاظ، كما يبرر أصحاب هذه البرامج والأقنية التلفزيونية، لكن هذه الحالة لم تسهم في إنقاذ القصيدة، ولم تحدد لغة شعرية جامعة في هذا الزمن فلم تتبلور لغة عصر شعرية تحتوي حالة توعوية تنويرية يُستند إليها في فهم الشعر والشعراء الذين يتوافدون بشعرهم على الساحة ليشكلوا مع بعضهم حراكاً توعوياً يفيد رغبة الشعراء وقدرتهم على القول والفعل والابداع، لرسم عصر متميز من الممكن الاستضاءة بما يقوله أبناؤه، لكن الواقع الحالي يثبت غير هذه الأحلام فالشعراء الكبار عمراً وقيمةً والشعراء الصغار عمراً وقيمةً يركبون قارباً مثقوباً في بحر الميديا المتلاطم، وكل المحاولات لجعل هذا القارب نسراً سابحاً في فضاء الثقافة لم تنجح حتى الآن والهدف جعل الشعراء يتواصلون بعضهم مع بعضٍ عبر الشعر يقرؤون ويتناقشون ويستفيدون من بعضهم في إعطاء الأفضل بدل من القطيعة واستخدام أسلوبي القطيعة أو المحاباة اللذين لم يقدما لدرب الشعرب – درب المحبة- سوى العثرات، والحب الذي يمكن أن يعيد حالة التنافس الإيجابي لا حالة التهاجي البغيضة، فليس الهدف منه أبداً تقديم قصائد هجاء وقدح وذم فإنها لم ولن تفيد عطاءنا الشعري المأمول ولكن المطلوب هو حالة تنافس بناءة، يُظن بها كل الظن أنها تفيد في تقديم القصيدة إلى الجمهور وتشكّل عامل جذب يمكن الاعتماد عليه.