الشعر العربي يحجّ إلى زهرة المدائن

الشعر العربي يحجّ إلى زهرة المدائن

شاعرات وشعراء

الجمعة، ٨ ديسمبر ٢٠١٧

يقول عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان: «وأما طيب هوائها فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحُسن فلا يرى أحسن من بنيانها ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، وأما كثرة الخيرات، فقد جمع الله فيها فواكه الأكوار والسهل والجبل والأشياء المتضادة كالأترج واللوز والرطب والتين والموز، وأما الفضل فمنها النشر واليها الحشر وهي أصغر من مكة وأكبر من المدينة عليها حصن بعضه على جبل وبقيته على خندق ولها ثمانية أبواب حديد، باب صهيون وباب النية وباب البلاط وباب جب ارميا وباب سلوان وباب اريحا وباب العمود وباب محراب داوود، والماء فيها واسع وقيل ليس ببيت المقدس أكثر من الماء» (معجم البلدان ــ ص ١٦٧٣)، فسلام عليها في أمسها ويومها وغدها، زهرة المدائن وبهية المساكن.

في فترة مفصلية من تزوير تاريخها على يد المزورين والغزاة الصهاينة، توجه لها «الأخبار» باقة من أجمل كلمات الشعراء ممن أحبوها فألهمتهم، وكفكفوا جراحها بكلماتهم حباً وغضباً وثورة من محمود درويش، وأمل دنقل وسميح القاسم وموسى شعيب ومظفر النواب وغيرهم. لأجلك نصلي يا مدينة الصلاة

محمود درويش
(في القدس)

في القدس، أعني داخل السور القديم،
أسير من زمن الى زمن بلا ذكرى
تصوبني. فإن الأنبياء هناك يقتسمون
تاريخ المقدس... يصعدون الى السماء
ويرجعون أقل احباطاً وحزناً، فالمحبة
والسلام مقدسان وقادمان الى المدينة.

كنت أمشي فوق منحدر وأهجس: كيف
يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟
أمِن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟
أسير في نومي. أحملق في منامي. لا
أرى أحداً ورائي. لا أرى أحداً أمامي.
كل هذا الضوء لي. أمشي. أخفُّ. أطيرُ
ثم أصير غيري في التجلي. تنبتُ
الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا
النبوي: ((إن لم تُؤمنوا لن تَأمنوا)).
أمشي كأني واحد غيري. وجرحي وردةٌ
بيضاء انجيلية. ويداي مثل حمامتين
على الصليب تحلقان وتحملان الأرض.


لوحة «القدس لنا والنصر لنا» للتشكيلي السوري برهان كركوتلي (1932ــــ 2004)

لا أمشي، أطير، أصير غيري في
التجلي. لا مكان ولا زمان فمن أنا؟
أنا لا أنا في حضرة المعراج. لكني
أفكّر: وحدهُ، كان النبي محمد
يتكلم العربية الفصحى. ((وماذا بعد؟))
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:
هو أنت ثانية؟ ألم أقتُلَك؟
قلت: قتلتِني...ونسيت مثلكِ، أن أموت.
(«لا تعتذر عما فعلت»، «دار رياض الريس»، ٢٠٠٤)

أدونيس
(كونشيرتو القدس)

عالياً عالياً
انظروا اليها تتدلى من سقف السماء
انظروا اليها تُسيّج بأهداب الملائكة
لا يستخدم أحد قدميه في التوجه إليها،
يمكن أن يستخدم جبينه، والكتف، وربما السرّة.
اقرعوا بابها حفاة،
يفتحه نبي يعلمكم السير، وكيف تنحنون.
مسرح يقوده القدير الجبار،
ويفعل الرب هذا كله من أجل أبنائه.
«هوذا أنا. طيف للقدس»:
صرخت على المسرح دميةٌ بثلاثة رؤوس وغابت.
«شكا بيت المقدس الى ربّه الخراب،
فأوحى الله إليه:
لأملأنّك خدوداً سُجّداً تحن اليك
حنين الحَمام الى بيضها»
- «إتَّق الله يا كعب،
هل لبيت المقدس لسان؟»
- «نعم، وله قلب مثلك»
(«كونشيرتو القدس»، الأعمال الكاملة، «دار الساقي»، جزء ٨، ٢٠١٠)

عز الدين المناصرة
(جفرا)

إن هي إلا وجع التبغ، صلاة الأخضر، أجساد
المذبوحين إذا صاحوا: في الصبح نغير على الأعداء...
إن هي إلا جسد ابراهيم المتناثر فوق
الخبز أمام الفرن صباحاً، إن هي إلّا
أبناؤك يا جفرا يتعاطون حنيناً للدالية الخضراء
وللجبل الأخضر، للنعنع ينبت في أحجارك،
للخيل، لباب القدس وأسوار القدس
وأسواق القدس وآثار الأجداد.
ولربع دَرَسَ يمر البوليس عليه صباح مساء.
.
.
.
هل قتلوا جفرا؟ كانت صورته
فوق الحائط في غرفتها في باب «الساهرة»، الليلةَ جئنا
لننام هنا سيدتي، يا أم الأشجار وأم الأنهار
وأم العنب وأم اللوز وأم المرج الأخضر...
هل
قتلوا جفرا؟
الليلة جئنا لننام هنا سيدتي جئنا لنغني.
(«ديوان عز الدين المناصرة»، «دار العودة»، بيروت، ١٩٩٠)


لوحة للتشكيلي الفلسطيني نبيل العناني (1943)

فؤاد حداد
(قصيدة الحمل الفلسطيني)


أبكي كما تبكي جذور النبات
وقد أحست موت أوراقها
كما أحست بالعصافير
سكتت وأجهشت السماء بها
وتحدّرالأحفاد من عيني
لأقول «كلا» مثلما قالوا
وأروح مرتعشاً اذا ارتعشوا
وأميل عندهم إذا مالوا
أم ليس بعد الموت أعمالُ
بل إن للشهداء والشعراء
بعد الموت أعمالاً.
إني رهيف مثل أرض تداس
يا حسرتي في المسجد الأقصى
يا أيها البكاء، ما يدريك
بالموت تحت سنابل الخيلِ
أم متّ بالطلقات مقتولاً
قل لن يريك الموتُ حين يريك
إلا ذهول المرة الأولى...
«فؤاد حداد: الأعمال الكاملة»، المجلد الثالث: لازم تعيش المقاومة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٢).

سعيد عقل
(القدس في البال)

سيف فلْيُشهر في الدنيا ولتصدعْ أبواقٌ تَصدعْ
الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فَلتُقرع
أنا لا أنساك فلسطينُ ويشدّ يشد بيَ البُعدُ
أنا في أفيائك نسرينُ أنا زهر الشوك أنا الوردُ
سندكّ ندك الأسوارَ نستلهم ذاك الغارْ
ونعيد الى الدار الدارَ نمحو بالنارِ النارْ
فلتصدع فلتصدعْ
أبواق أجراس تُقرَع...
أبواق أجراس تُقرَع...
قد جُنّ دمُ الأحرار.
(«سعيد عقل: الأعمال الكاملة»، دار نوبيلس، ١٩٩١).

أمل دنقل
(سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس)


(الإصحاح الأول)
عائدون، وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينة)
يتقلّب في الجب، أجمل إخوتهم لا يعود.
وعجوز هي القدس (يشتعل الرأس شيباً)
تشم القميص فتبيضّ أعينها بالبكاء،
وتخلع الثوب حتى يجيء لها نبأ عن فتاها البعيد
أرض كنعان ـ إن لم تكن أنت فيها ـ مراعٍ من الشوك
فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف
إن الذي يحرس الأرض رب الجنود
آه من في غد سوف يرفع هامته
غير من طأطأوا حين أزّ الرصاص؟
ومن سوف يخطب في ساحة الشهداء
غير الجبناء؟
ومن سوف يغوي الأرامل إلا الذي سيؤول إليه خراج المدينة؟
.
.
.
(الاصحاح السادس)
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
(ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد
ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيرة)
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض
من حول مائدة مستديرة.
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء.
(«أمل دنقل ـ الأعمال الكاملة»، «دار الشروق»، ٢٠١٠).


«يا وطن يا ليل» (1988) لعبد الحي مسلم

موسى شعيب
(بقايا أوراق)

وفلسطين هي البدء
ذراعاها امتداد الفصل في خاصرة العصر
وعيناها النبوءة
كل جرح في روابي القدس
نار طهرتنا من الخطيئة
كل دمع من مآقي القدس طوفان
وجرح القدس غطى زمن الشرق
تعرّى في دمشق
طالع من وجه عمان نبياً
نازل في جرح بيروت نبياً
يا جراح القدس يا بوابة العمر الجديدة.
تروح السنونو
تجيء السنونو
وقلبي شباك همٍّ عتيق
تلم المناديلُ دمعَ الأحبة
تعري ضلوع الطريق
الى أين ترحل يا غيم
والريح باب على الموت
وعيناك يا بلدي غيمتان
غداً تسأل الريح متى تمطران؟
(«موسى شعيب: الأعمال الكاملة»،
«دار المعرفة»، ٢٠١٦)

فدوى طوقان
(عبر المدى، أود لو أطير)


القدس على درب الآلام
تجلد تحت صليب المحنة
تنزف تحت يد الجلاد
والعالم قلب منغلق دون المأساة
هذا اللامكترث الجامد يا سيد
انطفأت فيه عين الشمس فضلّ وتاهْ
لم يرفع في المحنة شمعه
لم يذرف حتى دمعه
تغسِل في القدس الأحزان.

قَتَلَ الكرامون الوارث يا سيد
واغتصبوا الكرم
وخطاة العالم ريّش فيهم طير
وانطلق يدنس طهر القدس
شيطانياً ملعوناً، يمقته حتى الشيطان
يا سيد يا مجد القدس
من بئر الأحزان من الهوة
من قاع الليل من قلب الويل
يرتفع اليك أنين القدس
رحماك
أجِز عنها يا سيد هذي الكأس.
(«فدوى طوقان: الأعمال الكاملة»، «دار العودة»، ١٩٧٨)

معين بسيسو
(إله أورشليم)

لتَنسني يميني
لتنسني عيون حبيبتي
لينسني أخي
لينسني صديقي الوحيد
لينسني الكرى
على سرير سهاد
مثلما السلاح
في عنفوان المعركة
ينسى يد المحارب
ومثلما الناطور
ينسى علي كرومه الثعالب
إذا نسيت
أن بين ثدييْ أرضنا يبيت
إلهُ أورشليم
وأن من قطوف دمنا
يعتصر الشهد واللبن
وخمرة السنين
لكي يعيش
ويفرّخ الوحوش
وكي أشيد من الدموع
جدار مبكى وكي أحيل
خيمتي منديلْ
للعويلْ
على الذهاب
بلا إياب.
لتنسني يميني
لتنسني عيون شعبي المغردة
إذا نسيت
أن أغرس الطريق
لصدر بياراتنا وللكروم
سيفاً من الجحيم
في عينيّ إله أورشليم.
(«معين بسيسو: الأعمال الشعرية الكاملة»، «دار العودة»، ٢٠٠٨)


لوحة «جبل المحامل» للتشكيلي الفلسطيني سليمان منصور (1947)

سميح القاسم
(اسمها القدس)


سمِّها القدس يوماً ويوماً «يبوس»
واسمها أورشليم
في كتاب قديم قديم
طافح باغتراب المزامير عن روحها
وبيأس الكلام الثقيل ببؤس النفوس
وتظل العروس العروس
وإسمها ايلياء
وفي انطفاء السماء
وظلام الطقوس
ولها وحدها كل ما فاض عن وقتها
والذي ضج في صمتها
ولنا عبرة الموت في عبرة البعث من موتها
من تكون سوى حسرة الروح في صمتنا
من تكون سوى شمسنا
وسوى عرسنا
وسوى قدسنا
ومن تكون إذا أنشد المنشدون
من تكون؟
يا الأساطير، زائلة أنت عن مجد أسوارها
ترحلين، وإني مقيم
ملء أسرارها
وأنا دائم مستديم
...
اسمك القدس في صلوات السنين
في وشم ابنائك الراحلين
في خلايا الجنين
في تقاطيع احفادك الوافدين
أنت لي، وإسمك القدس... لي، واسمك القدس
والقدس والقدس من كل حال وحين
والي كل حال وحين
والى أبد الآبدين
آمين.

مظفر النواب
(القدس عروس عروبتكم)

القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها؟
ووقفتم تستمعون خلف الباب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة هل تسكت مغتصَبَة؟
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى أما أنتم
لا تهتز لكم قصبة.
(«مظفر النواب: الأعمال الشعرية»،
«دار قنبر»، لندن، ١٩٩٦)

عبد الرحمن الابنودي
(المسيح)


يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها
وفتحي عيون البشر للي حصل على أرضها
على أرضها طبع المسيح قدم
على أرضها نزف المسيح ألم
في القدس في طريق الآلام
وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس
وفي الخلا صبح الوجود انجيل.
...
يا طريق الآلام
ولامتى فيك يمشي جريح
ولامتى فيك يضل يصيح
مسيح وراه مسيح وراه مسيح
على أرضها

تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب
خانوه نفس اليهود
ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود
على أرضها.