حنانَكِ يا أمي!

حنانَكِ يا أمي!

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢٢ مارس ٢٠١٦

 أنس تللو

لهفُ نفسي على تلك الأشياء تشكو بصمت، وتتألمُ بعمق، وتسألُ بإلحاح… أين صاحبةُ الوجهِ الباسم… أين صاحبةُ القلبِ الرقيق… أين هي المؤنسة المجاملة ؛ أين تلك التي كانت تقلب بضحكتها الأتراح أفراحاً… تلك الأم العظيمة المثالية، ولكن لا جواب ولا كلام، لقد تاهت أمي في عالم الصمت… وغرقت ذكراها في دنيا السكينة.

يا أمي:
لقد رحلتِ إلى السماء… وتركتِ صورتَك معلقةً على الجدار ومحفورةً في قلبي…
إن السماواتِ المفتوحةَ التي تُبعدني عنكِ ليس اتساعُها باتساع الحزنِ الفسيحِ الذي أشعر به وحدي، وأعيشه وحدي، ودون أن يشعرَ بي أحد.
لقد رحلتِ يا أمي فرحلتْ معكِ أحلى أيام عمري.
سأمضي ما تبقى من عمري أعدُّ أيامه عدَّ البائسِ الفقير، وسأقتطعُ من أوراق التقويمِ ورقةً إثر ورقة حتى تنتهيَ كلُّ الأوراق لأصلَ إليكِ مرة أخرى.
لقد تركتِ سريركِ فارغاً إلا من الأحلام.
تركتِ أشياءَكِ في أماكن تنتظرُ منك أوبةً ليست تأتي.
تركتِ ملابسَك التي كنت تختالين بها ويفرح من حولكِ.

اليوم أفتح باب غرفتك وأناديكِ، وأنا أعلم أن ليس من مجيب.
أرنُّ لك على هاتفكِ، وأنا أعلم أن ليس من مجيب.
أعدُّ قطعَ الأثاثِ واحدةً واحدة، وأنا أعلم أنك لن تجلسي عليها بعد اليوم.
أبحث في الغرف علِّي أرى طلتكِ البهيةَ خلفَ أحد الأبواب.
أحضِّر وروداً وأزاهيرَ لمناسبة عيد الأم، وأنا أعلم أن لا أحد سأهديه واحدة منها…
لا أستطيع أن أهديَكِ شيئاً يا أمي بعد أن تلقفت منك كل الهدايا.
أهديتني صبركِ على هفواتي.
أهديتني عفوكِ عن زلاتي.
أهديتني إنصاتَكِ لثرثرتي.
أهديتني إسماعي صوتَكِ دائماً.
أهديتِني حسنَ استقبالِكِ لي دائماً عند زيارتك.
أهديتِني الصلة والمودة والتواصل.
أهديتِني ابتسامتَكِ الزاهيةَ التي لا تفارق اليوم مخيلتي.
أهديتني الحب الكبير.
فما أكثر هداياكِ لي وما أقل هداياي إليكِ.
سأظل دائماً أفتشُ عن وجهك بين كل الوجوه… ومهما امتدت بي الأيام فإني سأبقى أشعر أنني سوف ألقاكِ بين الناس تنظرين إلي… إلى أن يحينَ وقت الاستجابة.
أين أنتِ يا أمي… بحثت عنكِ كثيراً.
مشيتُ كثيراً وبحثتُ كثيراً وجلست على قارعة الطريق مرات ومرات، وفي مداخل الأبنية في بعض الأحيان، وعلى مقاعد الحدائق المهجورة… كنت أبحث عنك يا أمي.
لكني اليوم اكتشفت الحقيقة التي كانت غائبة عني.
اكتشفت أنني منذ العام الماضي قد خرجتُ من الحياة…
أما أنا فلم أعد موجوداً… لقد رحلت مع أمي…
إنني أرثي بصدق لكل من يعيشون معي ويسمعون صوتي ويقرؤون كتاباتي، ويشاهدون محاضراتي، ويرونني أتحرك وأمشي…
أرثي لهم جميعاً لأنهم لا يعلمون أنهم يعيشون مع ميت، ويتعاملون مع جثة… ولو أدركوا ذلك لـمُلئوا رعباً، ولتراكمَ الخوف في نفوسهم، ولفرّوا بعيداً عني… ومعهم كل الحق في ذلك ؛ فالميت يُرعِب، والجثة تُخيف… وخاصة إذا كانا يدبَّان على الأرض.
اعذريني يا أمي… اعذريني، فلقد ابتعدت يدك عن يدي، يدُكِ التي كانت تعلمني الكتابة وتعطيني أسباب الحياة…
اعذريني أن جاء أسلوبي فجاً، وحديثي مضطرباً، وكلماتي شاحبات، وجملي شاردات… فقد ماتت معلمتي الأولى ؛ ماتت أمي.
اليوم أراكِ غير راضية عما خطَّتْ يدي… وكيف لا يتيه رأيي يا أمي، وكيف لا يضيع الأسلوب، وكيف لا يشتُّ فكري، وكيف لا يتشتت قلمي… كيف لا أضيعُ ولا أتيهُ بعد أن غابت عن يدي يدٌ حانية… يدٌ طالما قبَّلتُها وغرقت في محاولة رضاها… يدٌ طالما وجهتني ورعتني وعلمتني ودربتني…
فمن لي بعدك اليوم يا أمي، من لي بعدكِ؟
اعذريني يا أمي، اعذريني… عودي إلي أو أعيديني.
ألا ليتني أخسر الدنيا كلها ويكون عندي أم.