البلبل الغريب عاد إلى سورية من جديد … ديوان بدوي الجبل سوريّ النِّجار عربي الهوى من دمشق

البلبل الغريب عاد إلى سورية من جديد … ديوان بدوي الجبل سوريّ النِّجار عربي الهوى من دمشق

شاعرات وشعراء

الاثنين، ١٦ مايو ٢٠١٦

إسماعيل مروة
طالت غربتك يا شيخ شعراء سورية، ويا شيخ الشعر العربي الحديث عن أرضك عن سورية، رقد جسدك العبقري في «السّلاطة» إلى جانب شيخنا الجليل الشيخ الجليل سليمان الأحمد، ولكن قافيتك وقصيدتك بقيتا تعانيان غربة الروح والحرف بعيداً عن سورية التي عشقتها، وعن الشام المدلعة عندك، والتي ما خاطبتها يوماً إلا باسم الشام والشآم، طالت غربة صفحات ديوانك، ولكن إبداعك العظيم حافظ على رونق الحرف وجوهر الشعر، فبقيت تسقي عند اللاذقية شاطئاً، وتحب الشام بهراً وتغنيها.. ومن غربة القصيدة والحرف وصل النداء… وها هي سورية التي اشتاقتك ولازمتك في غربتك تعود إليك، تستنجد بشعرك في شهيد بذل دمه كرمى لتراب الوطن… وها هي الشام بعد غربة دهر تحمل شعرك على راحتيها وتتقدم به من عرش الشعر اللائق، وهل مثل الشام تستحق الافتداء والبذل والعطاء؟!
الديوان شآمي

لا تخلو قصيدة من الشام وذكرها عند البدوي، وهو الشآمي حتى النخاع، وشام عنده جوهر ورمز، وطن وعشق، هوى وغاية، اختارها واختارته، كرمها وكرمته، امتدحها فخلدته، ولا أزال أذكر البدوي عندما شخص لاستقبالنا في السلاطة عندما وارينا أخته الثرى، إلى جوار والده الشيخ الفقيه الإمام الشاعر سليمان الأحمد يرقد مستريحاً، شخص يومها، وأرسل حبه معنا لشآمه التي احتضنته وأحسنت وداعه، وما تزال تردد اسمه في الجنبات، وكان حزيناً لأن شعره لا يسكن الرفوف في الشام، والمطابع كساها الحزن لأنها لم تمر على عطر قافيته، في ذلك اليوم بحت لصديقي الأستاذ الحفيد محمد الأحمد بما سمعته من البدوي في زيارتي لقبره، فقال: نحن نستعد لإعداد طبعة جديدة من ديوانه، هناك زيادات، ولكن سنقوم بطبعه حين يحين الظرف.. اليوم صدر ديوان بدوي الجبل في دمشق بتوجيه من السيد الرئيس كما جاء في تقديم السيد وزير الثقافة، وعلى مطابع وزارة الثقافة، ولو صمتت المطابع زمناً لكفاها أنها طبعت هذا الديوان، إنها طبعت الشعر الشعر، الشعر الذي يجمع ولا يفرق، يوحّد ولا يزرع إلا الحب، يعلّم الحب بلهب قدسي أحرق الشعراء وأنصاف الشعراء بعده، شكراً للتوجيه الذي غمر الشام بشعر البدوي، غمر البدوي بحب أهله وشامه، وأخرجه من صقيع روح الشاعر.
اسعد أيها الشعر، اسعدي يا شام، هدهدي البدوي وشعره وديوانه وكلماته، استعيدي ما قاله في المنتمين من الشيخ الدرويش إلى الشيخ مصطفى الغلاييني، رددي غزله، «فخالقه» للبدوي وبعد البدوي لا وجود «لخالقه»، وقبله لم تجل حسنها لأحد… وصدور ديوان محمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» اليوم يبدأ صفحة ناصعة في حب الوطن والإنسان، في تقدير المبدع ودوره، في تخليد الشعر وأغراضه ومعانيه.
ويحمد لوزارة الثقافة أمانتها المطلقة في طباعة الديوان، فصفحة رشيقة للسيد الوزير، وصفحة عرفان رشيقة لآل بدوي الجبل تبعتهما مقدمة صديق البدوي المقرب أكرم زعيتر التي قدّم بها لطبعة الديوان الأولى في دار العودة ببيروت، وهذه المقدمة هي أم القراءات في شعر البدوي، ومهما كتب عنه لن يكون بهذه الحميمية والعمق والقرب من الشاعر وشعره، والمقدمة كبيرة اقتربت من الدراسة العميقة، لكن الوزارة حافظت عليها وعلى الذائقة النقدية القائمة على التذوق، والبعيدة عن الفذلكات النقدية، وأزعم أن هذه المقدمة الدراسة من أهم مفاتيح قراءة شعر البدوي الكبير.. ومن ثم جاء الديوان بالترتيب نفسه من الكعبة الزهراء درة البدوي، وحتى آخر قصيدة، وما تمّ استدراكه من خط البدوي تم استدراكه من دون تغيير في الترتيب، ليأتي ملحق لقصيدتين تنشران أول مرة.. وفي استعراض الديوان نجد أمانة الوزارة المطلقة في الشكل والمضمون، فكما حافظت على المضمون لكونه وثيقة تاريخية، حافظت على الشكل، فالقصائد وإخراجها يطابقان مطابقة تامة الطبعة الأولى، وحتى الورق ولونه، والصورة في الغلاف ولون الغلاف، وخط الغلاف، كل هذه التفاصيل حافظت عليها طبعة الوزارة السورية، وكأنها بذلك تناجي البدوي، وتقول له: كما أردتَ أنتَ صورناك، وهيئتك ووقارك كما هو وكما غادرت فاهنأ أيها الشاعر والسياسي والبرلماني في رقدتك فأنت كما أحببت وأحببناك.

الجبال وحدها
تمنيت حين وقفت على قبر البدوي مع ابن أخته د. هاني صالح والأديب محمد عباس أن يطبع ديوانه في دمشق، فلو طبعت دمشق شعر شعراء العالم، الذين يملكون الشاعرية والذين يدّعونها، ولم تحتفل بديوان البدوي فكأنها لم تفعل شعراً، وهي التي خصّها البدوي بذوب إحساسه وشعره.
أما الشآم فلم تبق الخطوب بها
روحاً أحبّ من النعمى وريحانا
هل في الشآم وهل في القدس والدة
لا تشتكي الثكل إعوالاً وإرنانا؟
وعاد إلى ذاكرتي أستاذي الراحل الدكتور عدنان درويش مدير التراث في وزارة الثقافة، والأستاذ التراثي الجليل عندما حدثني عن دراسته في مصر، فقال: درسنا طه حسين عميد الأدب العربي شيئاً من الشعر الحديث في سورية، ولم يذكر البدوي في محاضرته وعندما عاتبناه نحن السوريين على ذلك، قال لنا: البدوي لا يذكر مع الجمع، له محاضرة خاصة، سيبوا الجبال وحدها.. قال الدكتور درويش: إن هذه الإجابة أثلجت الصدور، وأظهرت مكانة البدوي ليس في سورية وحدها، بل على المستوى العربي، ومن ناقد من رتبة الدكتور طه حسين. واليوم يعود الجبل ليتمسك بأهداب شآمه التي أحبها، شآم الرمز التي تمتد من الرمش إلى الرمش، شآم التي لا تعني المدينة والمكان وحسب، بل تعني كل ما يعنيه الرمز من دون أي شعارات، ومن دون أي تصنّع في تمثيل التماسك والتعاضد، بل إن البدوي رأى الرمز له، ولكل من ضمته هذه الأرض.

الجلاء والقراءة
احتفى البدوي بالجلاء، وحين وقف مع الذكرى والتاريخ كانت وقفته وقفة محب منصف، وقفة رجل لا يحاسب الآخرين، ويترك ما عليهم، ليهتدي بما لهم، وهذه رؤية متقدمة للغاية، قلّ أن نجدها لدى شاعر آخر غير البدوي!
أيها الدنيا ارشفي من كأسنا
إن عطر الشآم من عطر السماء
آل مروان جلال وندى
وبنو العباس هدي وضياء
متصافين على نعمائه
ليس في الجنة إلا الأصفياء
سكب الله على أحقادهم
من نديّ الحب ما شاؤوا وشاء
حق يوم الشآم أن تكتبه
قدرة الله على وجه ذُكاء
ملك مروان لكم وحدكم
قد جلا الإيمان كل الشركاء
الغد الميمون في الدنيا لكم
فاقتحم يا جيش واخفق يا لواء
هل أظهر من هذا الشعر وهذا المعنى وهذه العبر؟
وها هو يشكو العروبة عتباً وألماً في قصيدة من عيون شعره:
تهلهلت أمتي حتى غدت أمماً
وزوّر الوطن المسلوب أوطانا
وقد عرفت الرزايا وهي منجبة
فكيف لم تلد الجلى رزايانا
كفرت بالحسب السامي إلى مضر
استغفر المجد إنكاراً وكفرانا
وفي قصيدته «البلبل الغريب»التي قالها في أول غربة قسرية له نجد ذلك الوطني النبيل المنتمي الذي يفصل بين ما يعانيه شخصياً، وبين أمته ووطنه، وهذه القصيدة التي أهداها إلى حفيده محمد، فريدة في الشعر العربي قديمه وحديثه، فهي الوحيدة التي نستنجد بها عند كل حديث عن طفل وطفولة، ولم يُجد شاعر بمثلها عن الطفولة على لسان راعي الطفولة والمشرف عليها، وفي غربته يطلب السعادة من أجل الطفولة، ويصعب عليّ أن أختار منها، فللطفولة قال وأبدع:
ويا رب من أجل الطفولة وحدها
أفض بركات السلم شرقاً ومغربا
وردّ الأذى عن كل شعب وإن يكن
كفوراً وأحببه وإن كان مذنبا
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها
إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ويا رب حبب كل طفل فلا يرى
وإن لج في الإعنات وجهاً مقطبا
وهيئ له في كل قلب صبابة
وفي كل لقيا مرحباً ثم مرحبا
البدوي إنساني، لم يدع لدين أو قومية أو مذهب أو طائفة، بل خصّ الجاحد والكفور بطلب الغفران له، وهو على يقين بأنه مذنب، ولم تكن هذه القصيدة مستحقة إلا بروح الشاعر الإنسانية الفياضة تجاه كل الناس والأمم والشعوب… ومن هنا تأتي أهمية هذا الشعر وأهمية عودته إلى أهله الذين نبتت منهم روح الشاعر الهائمة في عوالم الله لا عوالم الإنسان، روح الشاعر القائمة على الحب وحده لبني الإنسان.
وفيها تتجلى روحه المتسامحة النبيلة، فهو المغترب المبعد، لم يجأر إلى الله بدعاء على الآخر، ولم يدع إلى انتقام، ولم يستعد أحداً على أبناء قومه! وكلما قرأت هذه القصيدة، وغالباً ما أفعل أقف عند الروح السامية المترفعة التي لا ترى نفسها محور الكون، مع أن شاعراً كالبدوي يحق له أن يفعل.
ولي وطن أكبرته عن ملامة
وأغليه أن يدعى- على الذنب- مذنبا
ومن حقه أن أحمل الجرح راضياً
ومن حقه أن لا ألوم وأعتبا
يمزق قلبي البعد عمن أحبهم
ولكن رأيت الذلّ أخشن مركبا
وأستعطف التاريخ ضناً بأمتي
ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا
ويا رب عز من أمية لا انطوى
ويا رب نور وهج الشرق لا خبا
وأعشق برق الشام إن كان ممطراً
حنوناً بسقياه وإن كان خلبا
ويسرح في أرض سورية محباً وذاكراً ومسترجعاً مجد المدائن في كل مكان اشتاقه في غربته:
سقى الله عند اللاذقية شاطئاً
مراحاً لأحلامي ومغنى وملعبا
وجاد ثرى الشهباء عطراً كأنه
على القبر من قلبي أريق وذوبا
وحيا فلم يخطئ حماة غمامه
وزفّ لحمص العيش ريان طيبا
ونضّر في حوران سهلاً وشاهقاً
وباكر بالنعمى غنياً ومتربا
وجلجل في أرض الجزيرة صيب
يزاحم في السقيا وفي الحسن صيبا
ليختم:
دياري وأهلي بارك الله فيهما
وردّ الرياح الهوج أحنى من الصبا
وأقسم أني ما سألت بحبها
جزاء ولا أغليت جاهاً ومنصبا
ولا كان قلبي منزل الحقد والأذى
فإني رأيت الحقد خزيان متعبا
البلبل الغريب، وعودة الغريب وحدهما قافلة من شعراء ووطن وحب وتفان، وحدهما قصيدتان تصنعان عصراً من الشعر والأدب، فبشعر من النسق الأعلى يمتعنا البدوي شعراً ووزناً وقافية، ويعلمنا كيف نحب أوطاننا، وكيف نجلّ تاريخنا، وكيف ننتمي إليه لأنه أسمى وأكبر وأعلى، وأجد صدور الديوان بدمشق فرصة لاستنباط هذه الروح التي افتقدناه نحن أحفاد البدوي، ولم نصل إلى ذلك المستوى من الانتماء والحس الوطني، فكيف عاد الغريب الكبير، وكيف قابل شآمه؟
هل عاتب؟ هل حاور؟ هل انتقد؟ هل انتقم؟
حلفت بالشام هذا القلب ما همدا
عندي بقايا من الجمر الذي اتقدا
لثمت فيها الأديم السمح فالتهبت
مراشف الحور من حصبائها حسدا
تفرد الله بالأرواح يبدعها
من سره لم يشارك غيبه أحدا
وميز الشام بالنعمى ودللها
فمن ثرى الشام صاغ الروح والجسدا
وجه الشآم الذي رفت بشاشته
من النعيم لغير الله ما سجدا
أنحى على الشام أريافاً وحاضرة
فلم يدع سيداً فيها ولا لبدا
دع الشآم فجيش الله حارسها
من يقحم الغاب يلق الضيغم الحردا
ضمتني الشام بعد النأي حانية
كالأم تحضن بعد الفرقة الولدا
أنا الوفي وتأبى الغر من شيمي
كفران نعمة من أسدى إلي يدا
إنه يعلمنا الحب
إنه الشعر مبنىً ومعنى
لا يلزمنا اليوم شعر يهتم بالشكل ومضمونه لا قيمة له، ولا يلزمنا شعر غني لا شكل له بل يلزمنا ذلك الشعر الذي يعيد إلينا الحب، ويبعد عنّا الحقد الذي استشرى، وهذه المعاني لم ترد في ديوان البدوي لزوم قافية وشعر وزمان ومكان، بل كان الحب عقيدة له، يسعى له بإصرار.
وتشقى على الحقد النفوس كما انطوت
قلوب على جمر الغضا وحلوم
ولم يدر نعماء الكرى جفن حاقد
وهل قرّ عيناً بالرقاد سليم
ويزعم أن الحقد يبدع نعمة
وهيهات من نعمى البنين عقيم
وما بنيت إلا على الحب أمة
ولا عزّ إلا بالحنان زعيم
ولا فوق نعماء المحبة جنة
ولا فوق أحقاد النفوس جحيم
هو الحب حتى يكرم العُدمَ موسرٌ
ويأس لأحزان الغني عديم
ويا رب إن سبّحتُ والشام قبلتي
فأنت غفور للذنوب رحيم
تهلل عفو الله للذنب عندما
أطل عليه الذنب وهو وسيم
إنه الحب الذي دفع البدوي حياته له، عاش له ومات فيه، كان وزيراً وبرلمانياً وسياسياً، وعاد شاعراً وإنساناً محلقاً، وكذلك صديقه وعشيره عبد السلام العجيلي عاش وزيراً وبرلمانياً وسياسياً، وعاد إنساناً وقاصاً وكاتباً، ذرعا شوارع دمشق معاً، تاها على الدنيا بالحب، وبالحب وحده، فما تغيرت حياة أحدهما، وبقي لصيقاً بالناس والحب، عاد أحدهما إلى الناس، فلم يحنث، ولم يتغير، وبقي داعية للحب والوطن حتى ضمه ثراه، فكانا صدقاً وحباً كلمة وحياة.
إن إعادة نشر ديوان البدوي هي دعوة للحب الحقيقي، ودعوة للانتماء إلى الوطن والإنسان، وهي مناسبة لطبع كمية لائقة بالشاعر، وإن كانت بورق عادي وغلاف عادي، فأنا أزعم أن تعطش السوق والأدباء والشباب لشعر البدوي لن يروي عطشه ألف أو آلاف النسخ، فحبذا أن تطبع كميات كافية لا تضطر لإعادته بعد مدة وجيزة، وقد لا تسمح الظروف بذلك، وخاصة أن التوجيه بإعادة طبع الديوان يسمح بأن يكون هذا الديوان موجوداً متوافراً بما يغني عن التصوير والتزوير.

أهلاً بالبدوي
إن فرحتي بشعر البدوي بطبعته السورية الكاملة غير محدودة، وأنا ممن عاشروا هذا الشعر وحفظوه ودرسوه ودرّسوه لأنني كلما بحثت عن قصيدة حب وانتماء كان ديوان البدوي الهادي والمسار والغاية، وكما قامت وزارة الإعلام بطبع ديوان نديم محمد بطبعة لائقة عزيزة، تقوم اليوم وزارة الثقافة بطبع ديوان البدوي وحبذا لو أعيد شعر نديم محمد ليكون بين أيدي الدارسين كذلك.
كلما جلست إلى صديقي محمد الأحمد حفيد الشاعر حدثني عن وداع دمشق للبدوي وجثمانه في رحلته الأخيرة وعيناه تذرفان دمعاً لذلك المشهد الحميمي الذي قابل الحب بالحب، ولعلي لا أبالغ إن قلت: ها هي الشام تسترد بدوي الجبل على صفحات ديوانه فتحقق بذلك حلماً ينعش تربته وروحه التي لا يطولها الفناء، وهو الذي أدرك ذلك وسجله:
الخالدان- ولا أعد الشمس- شعري والزمان
أهلاً بروحك وشعرك وخلودك بدوي الجبل وشكراً لروح الحب الذي أشعتها في عالم مليء بالشتم والغمز والانتقاص وأشباه الشعراء.
وقفت مبتهجاً بالديوان عند شعر الوطن والحب، أما سماواته الأخرى فلها أحاديث أخرى وقراءات عميقة، واخترت ما رأيته ملحّاً لصدور الديوان في هذه الآونة التي يلزمنا فيها شعراء الحب والانتماء للوطن.