بيانات طائر الفينيق وقصائده في الجرح السوري…

بيانات طائر الفينيق وقصائده في الجرح السوري…

شاعرات وشعراء

الأحد، ١٥ أكتوبر ٢٠١٧

د. راتب سكر

«زمان الولادة.. بُحّتْ حناجرُنا
أيها الفجر قمْ بالجناح الجريح
إلى ذروة الدهر وابق مع الحب».
إنه هتاف يضمر الفجر فيه طوابع «تموزية» من يوم يوسف العظمة جدّ الشاعر في ميسلون، كما يضمر «الجناح الجريح» فيه طوابع تراجيدية نسر عمر أبي ريشة، ورعشته الشهيرة.
اختار د. ثائر زين الدين قصائد لستة وثلاثين شاعرا، جمعها في كتاب بعنوان «من ديوان الجرح السوري»، جاء في ثلاثين ومئتي صفحة من القطع الصغير، صدر مؤخرا، ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب، حاملا الرقم (119)، في سلسلة كتاب الجيب، التي توزع مع الأعداد الشهرية لمجلة «الموقف الأدبي».
حملت قصائد الكتاب، فنياً وفكرياً ووجدانياً، ما يبوح تصريحا وتلميحا، بوفاء من اختارها لقيم مشروعه الأدبي والثقافي التي مارت بها كتاباته المتنوعة، طوال عقود خلت، في مؤلفاته الشعرية والنقدية وترجماته، من جهة، ووفائه للمعايير والقيم النقدية التي خطها في مقدمته المهمة لهذا الكتاب، من جهة أخرى، وهي معايير تختزل أبرز مرتكزات قيم مشروعه الأدبي والثقافي الذي منحه منح المحب العاشق، زهرة سنوات شبابه وعطائه. ومن هذه المعايير:

جوهر وظيفة الشعر
لقد شهد العصر الحديث تغيرات حاسمة في طبيعة هذا الجوهر وغاياته، فتغايرت مع نظائرها في جوهر وظيفة الشعر العربي القديم، التي ظلت مهيمنة منذ العصر الجاهلي، حتى القرن العشرين، وهو ما عبر عنه بقوله: «وأدرك الشاعر السوري- شأنه شأن أقرانه العرب- أن نموذجه القديم الشبيه بالعراف والمتنبئ، أو المنقذ والمخلص، قد أفسح في المجال، لنموذج جديد، عادي، طبيعي، أكثر تواضعا وإنسانية».

وحدة الأحلام الصغيرة والكبيرة
قدرة الفن على رفد القصائد بتناغم، يجعل الشعر، كما يرى د. نعيم اليافي، «يعبّر عن نزوع شعب إلى تحقيق أحلامه الصغيرة والكبيرة»، وهو نزوع يمنح مكونات الصورة الفنية في قصيدة الشاعر نزار بريك هنيدي، «حلم بطعم الشام»، طاقاتٍ معرفية ووجدانية وتخيلية قادرة على دمج الرؤية الفكرية والرؤيا الوجدانية، بينابيعهما وآفاقهما الخاصة والعامة، فتتماوج قدرات الحواس البصرية والسمعية والذوقية، ألوان قوس قزح، من طراز خاص، تعيد تشكيل الوجود، ظافرا على محنة خرابه، الذي يصبح خرابا عابرا، أمام تدفق الحياة في صهيل روائح التاريخ مع طيوف الجامع الأموي، ومقهى ساحة الفردوس، وماء بردى المتحول بألوان الأصيل مرآة لذات الشاعر، ومرآة للكون البشري الظامئ للنور، تدفّقا يجدد إشعال شموس الكون بشعلة وطن أزلي سرمدي «بلون يمام أهل الشام»، يمنح الشاعر جناحين من صفاء بردى ونور عشق سماوي عال، صادحا في نشيده: «مازال لي/ في الجامع الأمويّ زاويةٌ/ أحاور في سكينتها الطيوفَ/ وأغسلُ الكلماتِ بالصمت الجليلْ/ مازال لي/ بردى الذي أودعتهُ/ رعشاتِ أجفاني/ وقدْ سكِرَتْ/ بألوان الأصيلْ/ مازال لي/ في ساحة الفردوس مقهى/ لا تكفّ روائح التاريخ فيه/ عن الصهيلْ/ ما زال لي/ وطنٌ بلون يمام أهل الشام/ إن خمدتْ شموس الكون أشعلها/ بأنفاس المحبةِ كي يمرّ الكون/ في نعمى الهديلْ».
روح المعرفة ووعد المستقبل

اتكأت معايير المقدمة، في تقديرها للعناصر المعرفية في تكوين فنية القصيدة، وللتشبث بجمرة الحب والحياة، جسرا لمستقبل طائر فينيق قادر على الانبعاث من رماده، على المنجز النقدي العربي الحديث في هذا المضمار، بمثل قول د. جابر عصفور عن شعر يمثّل «روح المعرفة، ووعد المستقبل ومعناه».
لا يقتصر دور العناصر المعرفية الرافدة للبناء الشعري، على ثرائها بقدرات تناصية فياضة الدلالات، فثمة وظائف فكرية ووجدانية وفنية لهذه العناصر، تتجاوز تلك الدلالات، من أبرزها قدرتها على نسج بساط حميم من الشراكة مع القارئ، يمنح التلقي الفني آفاقا واسعة وعميقة، من ذلك توظيف الشاعر صالح سلمان «الغرنيكا» في بناء قصيدته «عزف غير منفرد»، والغرنيكا هي مدينة في بلاد الباسك الإسبانية، ترمز لعهود احترام حريات الباسك، قصفها الطيران الإيطالي الفاشي والألماني النازي العامل في خدمة فرانكو الإسباني سنة 1937م زمن الحرب الأهلية الإسبانية، فأوقع فيها نحو ألفي قتيل، وقد استلهم مأساتها الفنان الإسباني العالمي بابلو بيكاسو لوحة جدارية حملت اسمها، فاستحالت رمزا عالميا لوحشية الحروب

إدراك جمالي للواقع بموازاة رمزية
هو معيار جوهري حكم اختيار قصائد الكتاب، التي يوضحه، القول في المقدمة: «رأيت فيها شكلا من أشكال الإدراك الجمالي للواقع السوري الدامي… كأنها موازاة رمزية معادلة للواقع… جاء معظمها حريصا على القيم الجمالية الراقية للشعر على الصعيد الفني».

عمق الحقائق وتشخيص الداء
فقد أدركت تلك المعايير أن «الشعراء سبقوا، ربما بسبب طبيعة فنهم فحسب، كتّاب الأجناس الأدبية الأخرى، في تقري الحقائق وتشخيص الداء».

جماليات جديدة
بتأصيل عمل الشاعر السوري على «اختراق تلك الأشكال القائمة، من خلال التجريب في القصيدة، ومحاولات طرح جماليات جديدة، مغايرة لتلك الجماليات، التي هيمنت أكثر من ربع قرن أو يزيد».

آفاق طائر فينيق عظيم
محاكمة الشعر على أسس المعايير السابقة منحته جدارة انتمائه الفني، فجاء «صرخة شقّت الآفاق، لطائر فينيق عظيم، إيذانا بنهوضه من هذا الرماد… من هذا الحطام».
تتنوع أشكال النهوض من الرماد، شعريا، مادام التعبير عن جوهر الانبعاث، مفتوحاً على ساحات المجاز وحقوله الدلالية، فالمطر الذي وجده بدر شاكر السياب في قصيدته الشهيرة «غريب على الخليج» جرنا واسعا لتطهير الوجود، وانبعاثه أخضر الروح، حوّل أناشيد الماء إلى رمز انبعاث شامل، في الشعر الحديث، يتوالد خصب مواسمه، من قصيدة إلى قصيدة، كأنه نشيد وطني (أو أممي إنساني) شامل، تفيض كلماته حياة جديدة في قصيدة نذير العظمة «هلا أيها الطفل»:
«ألم يبق في الأرض غير حصاد الطفولة قان؟ فيا موسمَ النبض والأرجوان الذي صار حلماً/ ورفّ العصافير على الفجرِ/ نوحَ النواعير على الماءِ/ فيضَ الأمومة، لا، لا يملّ منَ الخِصْبِ/ يغمرُ هذا الزمانَ الرديء بصدر حنون».

كلمة أخيرة
من الصعوبات الفائقة في حياة كل منا، موافقة كثيرين، في مواقفهم من قضايا أدبية وجمالية تتصل بقيم وجدانية يقارب سموّها زرقة سماوات من نور مطلق، وقد أفلح معد كتاب «من ديوان الجرح السوري» د. ثائر زين الدين، في دقة اختياراته وعمق مقدمته، في الإشارة إلى حسن مرافقته مسيرة قصائد شعرنا المعاصر، لنكتشف بين سطور كتابه موافقته وموافقتنا معا على مقولة لامارتين عن صلة الأدب بالانتماء إلى جرح عظيم.