نزار قباني: دمشق هي الرَّحم الذي علَّمني الشِّعر وعلَّمني الإبداع وأهداني أبجديَّة الياسمين

نزار قباني: دمشق هي الرَّحم الذي علَّمني الشِّعر وعلَّمني الإبداع وأهداني أبجديَّة الياسمين

شاعرات وشعراء

الخميس، ٢٢ مارس ٢٠١٨

سوسن صيداوي
«هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة». عبارة تدل على صدق عاطفة الانتماء، والتمسك بالجذور مهما بلغت شدة الظروف ومعاكستها، وهذه الصفات لا تُنعت إلا لعظمة عمالقة، اختاروا الأصالة إرثا لهم مع مضي تأريخ الأيام العابرة في بحر سنين العمر. إنه واحد من أهم شعراء العصر، اختار له القدر مولدا يوم الحادي والعشرين من شهر آذار، كي يكون ابن الربيع بجمال ألوانه ورقة ورده وسحر عبير زهوره. بينما جاء المكان مساعدا للتأكيد، فحُدد في وسط الشام القديمة في حي «مِئذنة الشحم». ربما الرؤية الآن أصبحت أوضح، فشاعرنا هو شاعر دمشق وناثر ياسمينها بمفرداته، إنه نزار قباني، والعبارة التي بدأنا بها مقدمة حديثنا تدل على مدى حبه لبيته، وشدة تعلقه وانتمائه له، والأمر باد بقصائده ونثرياته حيث يقول «ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. ولدتُ، حَبوتُ، ونطقتُ كلماتي الأولى، كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً، كنتُ إذا تعثَّرتُ، أتعثَّر بجناح حمامة.. وإذا سقطتُ، أسقط على حضن وردة». تكريما لهذه القامة، ولأن من مهام وزارة الثقافة التعريف بالصنوف الثقافية بكل رموزها، اختارت الوزارة أن تحتفي بالذكرى الثالثة والتسعين لميلاد شاعرنا الراحل بإزاحة الستار عن لوحة الدلالة التي نفذتها أمام منزل طفولته في حي مئذنة الشحم بدمشق القديمة. هذا المنزل بالرغم من أنه بيع في عام1958إلى عائلة شامية أصيلة- عائلة نظام- إلا أنه يفتح أبوابه دائما لكل عاشق وباحث عن روح حب دمشق ونبض قلب عاشقها وناثر عطر ياسمينها في جنبات المنزل بين ثنايا أغصان النارنجة والياسمنية وجنبات البحرة والليوان، مع كل التفاصيل. وللحديث أكثر عن الفعالية إليكم المزيد.
 
بيت حاضن لوطن
 
الشاعر نزار قباني امتلك أبجديته الخاصة، من خلال عالمه المتفرد بعطاءات خلق فيها مناخات ونوافد وآفاق على مدى ستين عاما. عطاءات كثيرون تحدثوا عنها، وهناك من سيعود للحديث باستفاضة، لأنها متميزة بعبقرية خالدة. وبالمناسبة تمت إزاحة الستار عن لوحة الدلالة أمام المنزل الذي تربى وترعرع فيه الشاعر، معاون وزير الثقافة علي المبيض بدأ بالقول «في الحقيقية يوم 21 أذار يوم جمع عدة مناسبات جميلة، عيد الربيع وعيد الأم وذكرى ميلاد الشاعر نزار قباني، ومن مهام وزارة الثقافة حقيقة التعريف بالرموز الثقافية، على اختلاف صنوف الثقافة بالمفهوم المطلق، سواء فناً تشكيلياً، وأدباً، وقصة، وشعراً، وسينما، ومسرحاً. وفعاليتنا هذه تأتي للتعريف بالمكان الأول الذي شهد تفتح الموهبة للشاعر السوري نزار قباني، ويصادف يوم الفعالية أيضا مرور ثلاثة وتسعين عاما على ولادة الشاعر. هذا وتكمن أهمية الحدث بأن الشاعر حمل مفردات وعناصر المنزل الذي نشأ فيه ورُبي فيه طوال حياته، حتى إنه قد ذكر ذلك في وصيته التي أوصى بها بأن يُدفن جثمانه في دمشق وبأن يعود العصفور إلى بيته والطفل إلى صدر أمه». ويتابع المعاون مشيرا إلى أهمية الفعالية مستشهدا بنثر للشاعر قباني «وفي هذه المناسبة لابد لي من ذكر سطور لشاعر الياسمين قال فيها: (هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر، بيتنا كان هذه القارورة وأنا لا أحاول أن أرشوكم بتعبير بليغ إنما حقيقة أظلم بيتنا حينما أقارنه بقارورة عطر)، من هذه الأسطر ندرك تعلق شاعرنا بذكريات طفولته ونشأته، فهذا البيت بكل مفرداته شهد بواكير الموهبة الشعرية لدى نزار قباني، الأخير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وحمل بصدق وأمانة هذه التفاصيل الصغيرة والعلاقات مع أسرته والعلاقات مع الجوار، إضافة إلى أن هذا البيت كان معقلا يتجمع فيه زعماء الثورة السورية أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية، فوالده توفيق قباني، إضافة إلى أنه كان بائع حلوى كان يعمل على تزويد الثوار السوريين بالأسلحة وبالمواد اللازمة وبكل دعم وكان هذا البيت يحتضن الكثير من اجتماعات الثوار في ذلك الوقت». خاتما وشاكرا في نهاية العائلة التي تسكن المنزل لاهتمامها الواضح، وقائلاً: «وللمناسبة منزل توفيق القباني والد الشاعر، بيع منذ عام1958، وهو بيت مأهول، وتقطن فيه عائلة عريقة هي من دمشق، بهذه المناسبة أحب أن أشكر القائمين من عائلة نظام لاهتمامهم ورعايتهم لهذا البيت ومحافظتهم عليه ولاستقبالهم لكل زائر يأتي كي يرى منزل الشاعر الكبير نزار قباني».
 
روح باقية في المنزل
شاعر الياسمين لم تتبدل رؤيته أو مواقفه، كان رجلا واحدا في كل ما كتب، والأمر الأجمل أنه كان كبير النفس لم يستأذن أحدا فيما يؤمن أو يرفض، أليس هو القائل: (كيفَ يا سادتي يغنّي المغنّي بعدما خيَّطوا شفتيهِ هل إذا ماتَ شاعرٌ عربيٌ يجدِ اليومَ مَن يصلّي عليهِ لا يبوسُ اليدين شعري وأحرى بالسَّلاطين أن يبوسوا يديهِ). هذا ما ركزت عليه الإعلامية هيام حموي، متلمسة بحديثها فيض حب الحياة النابض من زوايا المنزل، الذي يرشد زواره إلى دفء اللقاء وحنين الكلمة وشوق الحب من كل الجنبات الجامعة لكل تفصيل دمشقي عريق، قائلة: «أنا سعيدة جدا لأنني أول مرة أدخل إلى هذا المنزل الذي سمعت عنه الكثير، وخصوصا من الشاعر نزار قباني وبشكل مباشر وهو يتكلم عن طفولته في هذا المكان. منهم من يقول إن هذا المنزل ليس جميلا بالقدر الذي وصفه به شاعرنا، ولكنني أراه أجمل مما هو قد وصفه، وأشعر بأن نزار قباني موجود بيننا، وخاصة أنني أؤمن بأن الروح تبقى موجودة في المكان الذي تحبه، وجميل أن يُذكر أن هذا المنزل هو الذي تربى به الشاعر قباني، من خلال اللوحة التي عُلقت عند بوابة المنزل. وهنا أحب أن أشير إلى نقطة، لو لم يكن المنزل متحفا بحد ذاته فالمتحف فكرة جميلة، ولكن فيه الكثير من الجمود، على حين عندما يكون المنزل مسكونا بأشخاص هم بالوقت نفسه يقدّرون قيمة المنزل ومن كان يسكنه، تبقى الحالة أجمل حين يمكّنوننا من الحلم بأننا نستطيع أن نسكن- لدقائق ومن خلال الزيارات- في المنزل الذي سكنت فيه روح الشاعر الذي أنا أجده- وكنا قلناها من قبل واليوم نركز عليها- أنه أهم شاعر، بل هو الأهم من بين شعراء هذا العصر. وصحيح أنني التقيته ولكن ما أحب أن أؤكده أن الشاعر نزار قباني يشبه صورته العامة، فلا يوجد انفصام في شخصيته، بمعنى أنه يكتب مثاليات ويعيش حياة أخرى، فهو فعلا يشبه نفسه، وهذه ميزة نادرة جدا وترفع الرأس فلا يوجد نفاق أو كذب، فكل كلمة يقولها هي كلمة صادقة».
 
الرابط.. بيت وصداقة
بينما تحدث الحاج رياض نظام عن كيفية انتقال ملكية المنزل لهم، مؤكدا الصداقة التي كانت تجمعهم بالشاعر الذي كان يزورهم بشكل دائم ويحدثهم عن طفولته ونشأته في المنزل، قائلاً: «من قبلنا كان المنزل لعائلة بيت العضل، ثم انتقلت ملكيته لنا ونحن نعيش فيه منذ عام 1968، ولد الشاعر نزار قباني في هذا المنزل، وبمناسبة ذكرى ميلاده أحببنا أن نزيح الستار عن اللوحة التذكارية الموجودة على باب المنزل، التي تشير إلى أن شاعرنا كان يسكن هنا، فقد كان يأخذ بعض صور قصائده وكلماته من هذا المنزل من ياسمينه وشجرة النارنج وأزقة الحارات، كما كان يصف بشعره أذان الجامع الأموي، إذاً هذا المكان ساعده كثيرا على كتابة الشعر. وتربطنا معرفة بالشاعر نزار قباني الذي كان يأتي لزيارتنا دائما مع عائلته وأولاده ويحدثنا عن طفولته وكل ما عاشه في هذا المنزل».
 
شاعر العربية
على حين بيّن إياد مرشد مدير مكتبة الأسد أنه أصدر كتابا كان غنيا جدا في الحديث عن نزار وشعره مؤكدا أن الشاعر قباني كان شاعر العربية خلال القرن الماضي، وخاصة أنه شاعر منتم لأمته وبيئته، متابعا «في الحقيقة أنا لدي كتاب صدر في عام٢٠١٧، بعنوان: (تجليات السياسة في شعر نزار قباني) فنزار قباني شاعر مهم نقل البيئة الدمشقية وخصوصيات البيت الدمشقي وصفاته إلى العالم، نزار كان شاعراً مرهف الحس، واستطاع من خلال لغته الجميلة القريبة من الناس والقريبة من هموم الناس أن يكون شاعر العربية خلال القرن الماضي. نزار قباني مهما كتبنا عنه لا نوفيه حقه، لأنه قدم للشعر العربي الكثير، وقدم للثقافة العربية الكثير، ومن النادر أن يتكرر شعراء بمستوى وبأهمية نزار قباني، هذا ولقد كان نزار متعلقا جدا بأمه، وله قصيدة يذكر بها والدته، فهو كان شاعراً منتمياً لبيئته وأسرته وينتمي لدمشق، ومن ثم ليس غريبا أن يكون لنزار كل هذه الخصوصية، فأهم ميزة من ميزات الإبداع والمبدع هو الانتماء وبكل ثقة نقول إن نزار كان شاعراً منتمياً انتماء حقيقياً لوطنه وبيئته».